إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 1 يونيو 2022

الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا

 

الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا

 

الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، هدى بإذن ربه القلوب الحائرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه نجوم الدجى والبدور السافرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم هو قطب رحى محبته، وعمود التدين بالشهادة له، ومن تأمل جميل صفاته وكمال سجاياه وشرف أخلاقه ورضيِّ سماته وموفور أدبه ورحمته وشفقته وحلمه وجلالة أعماله، وعظمة الدين الذي بعثه الله به، وشديد المشاق التي احتملها ليصلنا الدين كما أمره ربه؛ عَلِمَ عِلْمَ اليقين أنّه الإنسان الذي لا تُضاهي محبته إنسان لا نفسًا ولا ولدًا ولا والدًا، ولَفرح الفرح المطلق به وبدينه، وهو الفرح المثمر لكمال الرضا به نبيًّا رسولًا.

 وتأمّل فوز أنصار الله به في هذا الخبر، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين، حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالًا من قريش المئة من الإبل. فقالوا: يغفر الله لرسول الله. يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! قال أنس بن مالك: فحُدِّثَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم. فأرسل إلى الأنصار. فجمعهم في قبّة من أُدْمٍ (1) فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟». فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا، يا رسول الله فلم يقولوا شيئًا. وأما أناس منّا حديثة أسنانهم، قالوا: يغفر الله لرسوله. يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألّفهم (2) أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم (3) برسول الله؟! فو الله، لَمَا تنقلبون به خير مما ينقلبون به" (4) فقالوا: بلى. يا رسول الله، قد رضينا. قال: «فإنكم ستجدون أثرة شديدة (5) فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله. فإني على الحوض» قالوا: سنصبر". (6)

ونبي الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه هو سيد الراضين عن الله ودين الله تعالى، فعن مالك بن صعصعة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدّثه عن ليلة أسري به قال: «بينما أنا في الحطيم- وربما قال في الحجر- مضطجعًا، إذ أتاني آتٍ فشقَّ ما بين هذه إلى هذه". فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغرةِ نحره إلى شِعرته ... الحديث. وفيه: «ثم أُتيت بإناء من خمرٍ وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك. ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بم أُمرت؟

قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله. فرجعت فأُمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله. فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلّم. قال: فلما جاوزت نادى مناد. أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي». (7) ففي هذا الخبر الجليل تمام رضا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وبركة الرضا بالتخفيف عن أمته، وكرامة الله تعالى له، وكرامة أمته به، وعظيم حظّهم منه ببركته، وفيه أيضًا عظيم نصح موسى كليم الرحمن بهذه الأمة، وحرصه على تيسير الله تعالى لهم عبادتهم.

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وارضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلك نبيًّا، فمن قالها بصدق أرضاه الله تعالى يوم يقوم الأشهاد، واعلموا أن القول لا بد أن يتبعه عمل يصدّقه، كما أن العزمُ على الرِّضا لا يستلزم الرِّضا، فزمن العزم متقدم على زمن الرضا، فالعزم سابق ماضٍ والرضا آنٍ حاضر، لذا  فقد يعزم الإنسان على أمر من الأمور كالرضا أو غيره فيعرض له عارضُ عجزٍ أو ملال أو تغيّر قناعة أو نسيان أو استغناء أو طروء أمر جدَّ له فتنفسخ عزيمته وتبرد إرادته خاصة مع طول المدى وامتداد الزمن، لذلك كان القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، والثبات والاستمرارية على العمل الصالح محض توفيق الرب الرحيم سبحانه، فأنت تريد والله يفعل ما يريد.

فقد يعزم المرء على الرضا حتى إذا نزلت به النازلة عجز عن احتمال ورودها فخارت عزيمته ونقض ما كان أبرمه من عزمه على الرضا، والله المستعان. قال ابن تيمية رحمه الله: " الرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه والرضاء بعد وقوعه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: "اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق؛ أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي. اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرّة، ولا فتنة مضلة، اللهم زيّنّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".  (8)

وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لا حقيقة الرضا، ولهذا كان طائفة من المشايخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم، كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره، كما قال تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) نزلت هذه الآية لمّا قالوا: "لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه"، فأنزل الله آية الجهاد، فكرهه من كرهه.

 ولهذا كُره للمرء أن يتعرّض للبلاء بأن يوجب على نفسه مالا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون، كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن النذر، وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل".(9) وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك". (10) وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها".  (11) وثبت في الصحيحين أنه قال: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". (12) وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد الله عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يُبتلون بنقض العهود. وينبغي أن الإنسان إذا ابتُلي فعليه أن يصبر ويثبت، ولا يكلّ، حتى يكون من الرجال المُوفين القائمين بالواجبات". (13) "وما أكثر انفساخ العزائم، خصوصًا عزائم الصوفية، ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم". (14)

ومن حسنت نيته وعظمت همته وصدق حاله فإن الله لا يخيبه في إراداته وعزائمه، والحمد لله رب العالمين.

اللهم صل على محمد....

........................................

1.    قبة من أدم: هي القبة من الخيام: وهي بيت صغير مستدير. وهو من بيوت العرب. والأدم هي الجلود. وهو جمع أديم بمعنى الجلد المدبوغ. ويجمع أيضا على آدام.

2.    أتألفهم: أي أستميل قلوبهم بالإحسان ليثبتوا على الإسلام، رغبة في المال، وهم من المؤلفة قلوبهم الذين يعطون من الزكاة.

3.    أي منازلكم وبيوتكم.

4.    وصدق بأبي وأمي وولدي ونفسي.

5.    أي سيأتي من يستأثر عليكم بالمال والسلطان، ويُفضّل عليكم غيركم بغير حق.

6.    البخاري (3793)، مسلم (1059) واللفظ له.

7.    البخاري، الفتح 7 (3887) واللفظ له، ومسلم (164)

8.    أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه الألباني في الكلم الطيب (106)

9.    البخاري (8/176) مسلم (5/77 و 78)

10.    البخاري 9/79 ( 7146 ) ، ومسلم 5/86 ( 1652 ) ( 19 )

11.    البخاري 4/212 (3473) ومسلم 7/26 (2218) (92) قال العثيمين رحمه الله: "قال بعض أهل العلم: إنه نوع خاص من الوباء، وإنه عبارة عن تقرحات في البدن تصيب الإنسان وتجري جريان السيل حتى تقضي عليه، وقيل: إن الطاعون وخزٌ في البطن يصيب الإنسان فيموت، وقيل: إن الطاعون اسم لكل وباء عام ينتشر بسرعة، كالكوليرا وغيرها، وهذا أقرب". شرح رياض الصالحين (4/355)

12.    تمامه: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم". رواه البخاري 4/62 ( 2966 ) ومسلم 5/143 ( 1742 ) قال العثيمين: "في الحديث: ألا يتمنى الإنسان لقاء العدو، وهذا غير تمنّي الشهادة، تمني الشهادة جائز بل قد يكون مأمورًا به. وفيه أن يسأل الله العافية والسلامة، وإذا لقيت العدو فاصبر، وينبغي لأمير الجيش أن يرفق بهم ويختار الوقت المناسب من الناحية اليومية والفصلية، وفيه الدعاء على الأعداء بالهزيمة". شرح رياض الصالحين (1/131)

13.    أمراض القلوب (1 / 53-54) مجموع الفتاوى (10/  37-39)

14.    مجموع الفتاوى (10 / 689)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق