إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 1 يونيو 2022

إيثارُ رضا الله تعالى على رضا غيره

إيثارُ رضا الله تعالى على رضا غيره

 

 الحمد لله أحاط بكل شيء خبرا، وجعل لكل شيء قدرا، وأسبغ على الخلائق من حفظه سترا. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذرا ونذرا. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.. أخلد الله لهم ذكرا وأعظم لهم أجرا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أنه قد فاز عند ربه من آثره على غيره.

 فإيثار مرضاة الله تعالى عبادة لله جليلة، ومن الناس من يطوي مراحله سريعًا، ومنهم من يحتاج لزمان طويل، ومنهم بين ذينك، ومنهم السابق الفاذّ وهو الذي لا تنازعه نفسه أصلًا لطمأنينتها لأمر ربها، والتذاذها ابتداءًا ورضاها التام بأمره الشرعي بالائتمار بأمره، والقدري بالسكون والطمأنينة، فهي مؤثرة في ثوب راضية.

وهذا في الحقيقة راجع لجوهر الرضا ولُبابه، لأنّ معدن الرضا هو الدوران مع أمر  الله تعالى، فلله تعالى أمران: قدريّ، وشرعيّ، فالائتمار الشرعيّ هنا هو الإيثار، وهو أشقُّهما وأفضلهما، لأنّ القدري نافذٌ لا  محالة، وهو غالبًا رضًا بما مضى وقُدّر، فهو يرضى اضطرارًا ولو في ثاني وثالث الحال، وإنما يتفاوت الراضون هنا بسرعة الرضا عند نزول مرّ القضاء، أما الشرعي فهو غالبًا لما يُستقبل من الأمور، فهو يرضى اختيارًا، لهذا فهو أثقل على النفس؛ لأن الأمر بالنسبة لها لم يُفرغ منه من جهتها – لا من جهة الله تعالى-.

ولا تخلو حركة ولا سَكَنة في هذا العالم إلا ولله تعالى فيها حُكْمٌ وحكمة، والموفّق من دار مع أحكام شريعة ربنا حيث دارت، وتبعها حيثما ذهبت، ويمّم وجهتا حيثما استقلّت، ولزمها أينما حلّت.

والناس في تحقيق الرضا والامتلاء به وتقديمه على درجات متفاوتة كثيرة. قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "بايعْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله". (1) ومما يعين على الإيثار ثلاثة أشياء:

الأول: تعظيم الحقوق، فإنّ مَن عظمت الحقوق عنده قام بواجبها، ورعاها حقّ رعايتها، واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطًا لأدائها.

 الثاني: مقتُ الشّحّ، فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنّه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار.

 الثالث: الرغبة في مكارم الأخلاق، وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأنّ الإيثار أفضلُ درجات مكارم الأخلاق.

فإيثار رضا الله عز وجل على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبيّنا صلى الله عليه وسلم. فإنّه قاوم العالم كلّه، وتجرّد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كلّ وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم، بل كان همّه وعزمه وسعيه كلّه مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه، حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمّت نعمته على المؤمنين، فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه.

واعلموا عباد الرحمن؛ أنّه ما آثر عبدٌ مرضاة الله عز وجل على مرضاة الخلق، وتَحمَّلَ ثقل ذلك ومؤنته، وصبر على محنته؛ إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمةً ومسرّة ومعونة بقدر ما تحمّل من مرضاته، فانقلبت مخاوفه أمانًا، ومظانُّ عَطَبِهِ نجاة، وتعبُه راحةً، ومؤنته معونة، وبليّته نعمة، ومحنته منحة، وسخطه رضًا، فيا خيبة المتخلّفين، ويا ذلّة المُتهيّبين!

عباد الله؛ إن فقه السنن فقه شريف، يحوزه بإذن الله من وفقه الله تعالى ببسط علمه وتجربته وفِكره، فالله قد خلق الكون وفق نواميس خلقها له، وجعلها قوانين يمشي عليها، وأسبابًا تُفضي لمُسبَّبَاتها، فيتفرّس المؤمن الموفّق للبدايات وهو يرى النهايات إجمالًا قياسًا على مشابهاتها لاتحاد العلل، واستشرافًا لعواقبها علمًا بالسُنن، لظهور الأسباب لديه وارتباطها بالعواقب لديها، (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قد جرت سنّة الله التي لا تبديل لها أنّ من آثر مرضاة الخلق على مرضاته أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامده ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا؛ فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلق وأحمقهم.

 هذا مع أنّ رضا الخلق لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور، فهو مستحيل، بل لا بد من سخطهم عليك، فلَأنْ يسخطوا عليك وتفوز برضا الله عنك أحبّ إليك وأنفع لك من أن يسخطوا عليك واللهُ عنك غير راض، فإذا كان سخطهم لا بد منه على التقديرين فآثِرْ سخطهم الذي يُنال به رضا الله، فإن هم رضوا عنك بعد هذا؛ وإلّا فأهونُ شيء رضا من لا ينفعك رضاه ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك، فإن ضرّك في أمر يسير في الدنيا فمضرّة سخط الله أعظم وأعظم.

 وخاصّةُ العقل احتمالُ أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، فوازن بعقلك، ثم انظر أيّ الأمرين وأيّهما خير فآثرْه، وأيّهما شرّ فابعد عنه، فهذا برهان قطعيّ ضروريّ في إيثار رضا الله على رضا الخلق.

 هذا مع أنه إذا آثر رضا الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق، وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه. قال بعض السلف: "لَمُصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة، إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها". وقال الشافعي رضي الله عنه: "رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه". ومعلومٌ أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره.

فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودّ فالكلّ هيّنٌ ... وكلّ الذي فوق التراب ترابُ

عباد الله؛ من المعلوم أنّ المؤثر لرضا الله متصدٍّ لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولا بدّ، هذه سنّة الله في خلقه وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس، والقائمين بدين الله الذابّين عن كتابه وسنة رسوله عندهم؟!

 فمن آثر رضا الله فلا بد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وغَرْثَاهم (2) وجُهّالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة وكلّ من يخالف هديُه هديَه، فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله، عامل على سماع خطاب: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقله الجبال، ومَنْ عَقْدُ عزيمةِ صبره مُحكم لا تحلّه المحن والشدائد والمخاوف.

 وملاك ذلك أمران: الزهد في الحياة والثناء، فما ضَعُفَ من ضعف وتأخّر من تأخر إلا بحبّه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمّهم له، فإذا زهد في هذين الشيئين تأخّرت عنه العوارض كلّها، وانغمس حينئذ في العساكر.(3)

 وملاك هذين الشيئين بشيئين: صحّة اليقين وقوّة المحبة، وملاك هذين بشيئين أيضًا: بصدق اللجإ والطلب، والتصدّي للأسباب الموصلة إليهما، فإلى ههنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم. والتوفيق بعدُ بيدِ من أزمّة الأمور كلها بيده، (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ).(4)

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وقدموا مرضاته على محابّ نفوسكم.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: "من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا". هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذامًّا". وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك؛ لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة. "ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" كالظالم الذي يعضّ على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذامًّا، فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم»(5). والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..

اللهم صل على محمد..

....................

1.    أحمد (22700) قال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد توبع". قال السندي: قوله: "على السمع والطاعة" صلة بايعنا، بتضمين معنى العهد، أي: على أن نسمع كلامك ونطيعك في مرامك، وكذا من يقوم مقامك من الخلفاء من بعدك. "ومنشطنا ومكرهنا" مفعل، بفتح ميم وعين، من النشاط والكراهة، وهما مصدران، أي: في حالة النشاط والكراهة، أي: حالة انشراح صدورنا وطيب قلوبنا وما يضاد ذلك، أو اسما زمان، والمعنى واضح، أو اسما مكان، أي: فيما فيه نشاطهم وكراهتهم، كذا قيل، ولا يخفى أن ما ذكره من المعنى على تقدير كونهما اسمي مكان بعيد. "وأثرةٍ علينا" أي: على تفضيل غيرنا علينا، والمراد: أي على الصبر إن فضّل أحد علينا، فالمطلوب الصبر عند الأثرة، لا نفس الأثرة. و"الأمر"، أي: أمر الإمارة، أو كل أمر. و"أهله" الضمير للأمر، أي: إذا وكل الأمر إلى من هو أهله، فليس لنا أن نجرّه إلى غيره، سواء أكان أهلا أم لا". عن تحقيق مسند أحمد، طبعة الرسالة (24 / 414)  

2.    من الغَرْث: وهو الجوع. ومنه قول حسان في مدح الصدّيقة رضي الله عنهما: وتصبح غرثى من لحوم الغوافلِ. وقصد ابن القيم بالغرث هنا جوع الروح لصالح الأخلاق لمّا لم تكن فيها.36.    أي مددُ الله له ونصرته.

 4.      مدارج السالكين (2/  296 - 304) باختصار.

5.     مجموع الفتاوى (1 / 52)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق