إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 2 يونيو 2022

سؤال الناس

 

سؤال الناس

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذَ به أعاذ. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الله تعالى قد أمر بسؤاله ودعائه، ونهى عن التعلق بغيره، ومن التعلق بغيره طلب المال ونحوه بالسؤال.

 قال العلماء: المسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم في حقّ الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل، أما الأول: فلأنّه بذلُ سؤاله وفقره وذلّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفئُ نوره ويضعف قوّته.

 وأما ظلمه للمسؤول: فلأنّه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرّضه لمشقّة البذل، أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقًّا هو له عنده فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله.

 وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه، وذلّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرَف نفسه وعزّة تعففه وراحة قناعته، (1) وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قُسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه، إذْ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزّها وصغّرها وحقّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع.

 وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس؛ حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَةُ لحم". (2) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا؛ فإنّما يسأل جمرًا فليستقلّ أو ليستكثر". (3) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَأَن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خيرٌ له من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه".(4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس؛ خير له من أن يسأل رجلًا، أعطاه أو منعه، ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". (5) وفى الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه: أنّ ناسًا من الأنصار(6) سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: "ما يكونُ عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يُعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبّر يُصبّره الله، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر". (7) وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفّف والمسألة: "اليدُ العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المُنفقة، واليد السفلى هي السائلة". (8) وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: "يا حَكِيم، إنّ هذا المال خَضِرَةٌ حُلْوَة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارَك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى". قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إنّي أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم: أنّي أعرض عليه حقّه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم رضي الله عنه أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى  الله عليه وسلم حتى توفي. (9)

وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟". وكنا حديثي عهد ببيعته، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك قال: "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا الله"، وأَسرَّ كلمة خفيّة: "ولا تسألوا الناس شيئًا". فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه. (68) وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة كَدٌّ يكدّ بها الرجل وجهه، إلّا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمرٍ لا بدَّ منه". (10) وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتقبّل لي بواحدة، وأتقبّلُ له بالجنة؟" قال: قلت: أنا، قال: "لا تسأل الناس شيئًا". فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناولنيه، حتى ينزل هو فيتناوله. (11)

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابته فاقةٌ فأنزلها بالناس لم تُسدَّ فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له (12) برزق عاجل أو آجل". (13)

بارك الله لي ولكم..

.............

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واسألوه وحده، واستغنوا به عمن سوله، فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمّلتُ حَمَالَة (14) فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فقال: "أقم حتى تأتينا الصدقة، فآمر لك بها" ثم قال: "يا قبيصة، إن المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبَها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَى (15) من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة. فحلّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش. فما سواهنّ من المسألة يا قبيصة سُحْتٌ يأكلها صاحبها سحتًا". (16)

 وعن خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جاءه من أخيه معروفٌ من غير إشراف ولا مسألة فليقبلْه ولا يردّه، فإنّما هو رزق ساقه الله إليه". (17) وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، قد ألححتَ على ربك، كفاك بعض مناشدتك لربك" فهذا الإلحاح عين العبودية.

عباد الرحمن؛ الحوا على الله تعالى بدعائه لقضاء حاجات الآخرة والدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه". (18)

 وقد يكون للعبد حاجة فيلحّ على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذلّ بين يديه وتملّقه والتوسّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له وعدم تعلّقه في حاجته بغيره فيفتح الله على قلبه حال السؤال من معرفة الله ومحبته والذلّ له والخضوع والتملّق ما ينسيه حاجته، ويكون ما فُتح له من ذلك أحبّ إليه من حاجته، بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال، وتكون آثر عنده من حاجته، وفرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عُجّلت له وفاته ذلك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء". (19) وروى أيضا من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليسأل أحدكم ربه حاجته، حتى يسأله الملح، وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع". (20) وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سئل الله شيئا أحبّ إليه من أن يُسأل العافية، وإن الدعاء لينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء". (21)

اللهم صل على محمد...

................

1-                        وقد تترك الأسدُ البلادَ تنزُّهًا   ....  إذا ما كلابُ الحيّ لجَّ هريرُها

2-                        البخاري 2/153 ( 1474 ) ومسلم 3/96 ( 1040 ) ( 103 )

3-                        مسلم (1041)

4-                        البخاري 2/152 ( 1470 ) ومسلم 3/97 ( 1042 ) ( 107 )

5-                        البخاري (1470)

6-                       البخاري 2/151 ( 1469 ) ومسلم 3/102 ( 1053 ) ( 124 )

7-                        البخاري 2/139 -140 ( 1429 ) ومسلم 3/94 ( 1033 ) ( 94 )

8-                        البخاري 2/152 ( 1472 ) ومسلم 3/94 ( 1035 ) ( 96 ) ومعنى يرْزأ: أي لم يأخذ من أحد شيئًا، وأصل الرزء: النقصان، أي: لم ينقص أحدًا شيئًا بالأخذ منه، وإشراف النفس: تطلّعها وطمعها بالشيء. وسخاوة النفس: أي عدم الإشراف إلى الشيء والطمع فيه والمبالاة به والشَّرَه.

9-                       مسلم 3/97 ( 1043 ) ( 108 )

10-                                       الترمذي ( 681 ) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.

11-                                        أحمد (22405) وصححه محققوه.

12-                                       أي أسرع له.

13-                                       أبو داود ( 1645 ) ، والترمذي ( 2326 ) وقال:  حديث حسن صحيح غريب. وأحمد (3869) وحسنه محققوه.

14-                                      أي تحمّل دَينًا في سبيل الإصلاح بين المتخاصمين، ديةً أو سِوَاها.

15-                                       أي من ذوي الألباب ممن عُرفوا برجاحة العقول من قومه العارفين بشأنه.

16-                                       مسلم 3/98 ( 1044 ) ( 109 )

17-                                       أحمد (17936) وصححه محققوه.

18-                                       أحمد (2/442) والبخاري في الأدب المفرد (658) والترمذي (5 / 456) (3373) وحسنه الألباني.

19-                                       الترمذي (5 / 462) (3382) وحسنه الألباني.

20-                                       الترمذي (2252) وحسنه الألباني في المشكاة وضعفه في الجامع. وقال الحافظ ابن حجر في الزوائد: (305): "إسناده حسن". وصوّب أيمن صالح شعبان في تخريج جامع الأصول (4 / 166) إرساله. وقد جاء بنحوه عند أبي يعلى (3403) بدون ذكر الملح، وقال عنه حسين سليم أسد: إسناده صحيح، على شرط مسلم، وكذلك صححه سليمان آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد (1 / 184)

21-                                       الترمذي (3 / 177) (2813) وصححه الألباني.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق