الأسماء الحسنى
25/3/1436
أحمد ربي على ترادف
نعمائه, وأشكره على تراكم آلائه, لا مستحقّ للحمد على التمام سواه, خلق فسوّى, وقدّر
فهدى, أتمّ علينا النعمة, وألبسنا العافية, ومن كل ما سألناه أعطانا, فلك الحمد ربنا
كما ينبغي لك, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أحقُّ من عُبدَ, وأَولى من
أُحِبَّ, وأكرمُ من أُطِيعَ, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيّه وخليله وكليمه,
خطيب الخلائق إذا وفدوا, ومبشر الناس إذا يئسوا, الأنبياء قد سكتوا لنطقه, والأملاك
قد اعترفوا بحقه, إمام العابدين, وخاتم المرسلين, وقائد الغر المحجلين, الرحمة المهداة,
والنعمة المسداة, لقد كان نبيُّنَا محمدٌ محمداً في قوله وفعله وخَلْقِهِ وخُلُقِهِ,
جامعاً لحذافير كمالات البشر, أرسله الله بالهدى ودين الحق, السعيدُ من اتبعه والشقي
من عصاه, جمع الله بيننا وبينه في أعلى جنته, وأحيانا وتوفانا على سنته, صلى الله وسلم
وبارك عليه ما ذرّ شارق وما درّ بارق, وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان, أما بعد: فاتقوا
الله عباد الله, واحمدوه وأثنوا عليه بما هو أهله.
عباد
الرحمن: سبحانَ وبحمدِ من لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه, بل هو كما أثنى على
نفسه, وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا, حمدًا
كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه, وعِزِّ جلاله, ورفيع مجده, وعلو جَدِّه.
عباد
الله: إن من الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات: معرفةُ
أسمائه وصفاته, وإقرارُ العبد بأن للعالَم إلهًا حيًّا جامعًا لكل صفة كمال واسم
حسن وثناء جميل وفعل كريم, وأنه سبحانه له القدرةُ التامة, والمشيئة النافذة,
والعلم المحيط, والسمع الذي وسع الأصوات, والبصر الذي أحاط بجميع المبصَرات,
والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات, والملكُ الأعلى الذي لا تخرج عنه ذرة من الذرات,
والغنى التام المطلق من جميع الجهات, والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات,
والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات, والكلمات التامات النافذات التي لا
يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات.
واحدٌ لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته, ولا
شبيهَ له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله, وليس له من يَشرَكه في ذرة من ذرات
ملكه, أو يخلُفه في تدبير خلقه, أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه, أو يتوسط
بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب, كما يكون بين الرعايا وبين الملوك. ولو كان
كذلك لفسد نظام الوجود, وفسد العالم بأسره, ( لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا)
ولو كان معه آلهة أخرى - كما يقوله أعداؤه المبطلون - لوقع من النقص في التدبير
وفساد الأمر كله ما لا يثبت معه حال, ولا يصلح عليه وجود.
ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب به حمدَ عباده
له أن جعلنا عبيدًا له خاصّةً, ولم يجعلنا نهْبًا منقسمين بين شركاء متشاكسين. فله
الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل على ما أولانا من جزيل العناية وجميل اللطف
والاصطفاء.
وله
العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه على ما مَنَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار
بصفاته العليا وأسمائه الحسنى, وإقرارِ قلوبنا بأنَّه اللهُ الذي لا إله إلا هو,
عالمُ الغيب والشهادة, ربُّ العالمين, قيومُ السموات والأرضين, إلهُ الأولين
والآخرين. لم يزل ولا يزالُ موصوفًا بصفات الجلال, منعوتًا بنعوت الكمال, مُنزَّها
عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال.
فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا
تأخذه سنة ولا نوم, مالكُ السموات والأرض, الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا
بإذنه, العالم بكل شيء, الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم, فلا
تسقط ورقة إلا بعلمه, ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه, يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث
لا يطّلع عليها المَلَك, ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.
البصيرُ الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة
الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخّها وعروقها, ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في
الليلة الظلماء, ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع.
السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه,
وسع سمعه الأصوات, فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه, ولا يشغله منها سمع
عن سمع, ولا تغلّطهُ المسائل, ولا تُبرِمُه كثرةُ سؤال السائلين, روى أحمد بسنده
عن أمّنا عائشةَ رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت
المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإني ليخفى علي بعض كلامها,
فأنزل الله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله والله
يسمع تحاوُرَكما إن الله سميع بصير)"
القديرُ
الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء, ويجعل المؤمنَ مؤمنًا والكافرَ كافرًا,
والبرَّ برًّا, والفاجرَ فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيمَ وآلَهُ أئمةً يدعون إليه
ويهدون بأمره, وجعل فرعونَ وقومَه أئمةً يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط
أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إيّاه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض
وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب. ولا يُعجزِه أحدُ من خلقه ولا يفوته, بل
هو في قبضته أين كان, فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه, كما قيل:
وكيف يفر المرء عنك بذنبه ... إذا كان يطوي في
يديكَ المراحلا
ولكمالِ غناهُ استحالَ إضافةُ الولدِ والصاحبة
والشريك والظهير والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمالِ عظمته وعلوّه وَسِع كرسيه
السموات والأرض, ولم تسعْهُ أرضُه ولا سماواتُه, ولم تُحِطْ به مخلوقاتُه, بل هو
العالي على كل شيء, الظاهرُ فوق كل شيء, وهو بكل شيء محيط.
ولا تنفدُ كلماتُه ولا تبيدُ, ولو أن البحر يمدُّه
من بعده سبعةُ أبحرٍ مدادٌ, وأشجارُ الأرض أقلامٌ, فكُتب بذلك المداد وبتلك
الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماتُه, إذ هي غير مخلوقة, ويستحيل
أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق.
وهو
سبحانه يحبُّ رسلَه وعبادَه المؤمنين ويحبونه, بل لا شيء أحبّ إليهم منه, ولا أشوقَ
إليهم من لقائه, ولا أقرّ لعيونهم من رؤيته, ولا أحظى عندهم من قربه, ولولا شوقهم
إليه لتقطعت نفوسُهم في الدنيا حسرات.
وأنه
سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره, وله النعمة السابغة على خلقه, وكل نعمة
منه فضلٌ, وكل نقمة منه عدل.
وأنه
أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها. وأنه أفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها
طعامُه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس منها.
وأنه سبحانه لم يكلّف عباده إلا وسعَهم, وهو دون
طاقتهم, فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم, بخلاف وسعِهِم, فإنه ما يسِعُونَهُ ويسْهل
عليهم, وتَفْضُلُ قُدَرُهُم عنه, كما هو الواقع.
وأنه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعلِه, ولا
يعاقِبُه على فعل غيره, ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله, ولا على فعلِ ما لا
قدرة له على تركه.
وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور,
يُطاعُ فَيشكُر, ويُعصى فيَغفر. لا أحدَ أصبرُ على أذًى سمعه منه, ولا أحدَ أحبُّ
إليه المدحُ منه, ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذر منه. ولا أحدَ أحبُّ إليه الإحسانُ
منه, فهو محسنٌ يحبّ المحسنين, شكورٌ يحب الشاكرين, جميل يحب الجمال, طيّب يحب كل طِيّب,
عليمٌ يحب العلماء من عباده, كريمٌ يحب الكرماء, قويٌّ والمؤمنُ القوي أحبّ إليه
من المؤمن الضعيف, بَرٌّ يحب الأبرار, عدل يحب أهل العدل, حييٌّ سِتّير يحب أهل
الحياء والستر, غفورٌ عفو يحبُّ من يعفوَ عن عباده ويغفرَ لهم, صادقٌ يحب الصادقين,
رفيقٌ يحبّ الرفق, جوادٌ يحب الجود وأهلَه, رحيمٌ يحب الرحماء, وِتْرٌ يحب الوترَ.
ويحب أسماءه وصفاتِه, ويُحب المتعبدين له بها,
ويحب من يسألَه ويدعوه بها, ويحب من يعرفَها ويعقلَها, ويثني عليه بها, ويحمدَه
ويمدحه بها, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحدَ أحبُّ إليه
المدحُ من الله, من أجل ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من الله, من أجلِ ذلك
حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله, من أجل ذلك
أرسل الرسل مبشرين ومنذرين)
وفي حديث
آخر صحيح: (لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه من الله, يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم
ويعافيهم)
بارك
الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد
لله.....
عباد
الله: ولمحبتِه لأسمائه وصفاته أمرَ عبادَه بمُوجِبِها ومقتضاها, فأمرهم بالعدل
والإحسان والبِرِّ والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر
والحلم والأناة والتثبت. ولما كان سبحانه يحبّ أسماءَه وصفاتِه كان أحبَّ الخلق
إليه من اتصف بالصفات التي يحبُّها, وأبغضَهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهُها.
فإنما أبغض من اتّصف بالكبْر والعظمة والجبروت لأن اتصافَه بها ظلمٌ, إذ لا تليقُ
به هذه الصفاتِ ولا تَحْسُنُ منه, لمنافاتها لصفات العبيد, وخروجِ من اتصف بها من
ربقة العبودية, ومفارقتِه لمنصبه ومرتبته, وتعديه طورَه وحدَّه. وهذا خلافُ ما تقدَّمَ
من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان والصبر والشكر, فإنها لا تُنافي العبودية,
بل اتّصافُ العبد بها من كمال عبوديتِه, إذِ المتصفُ بها من العبيد لم يتعدّ طورَه,
ولم يَخرجْ بها من دائرة العبودية.
والمقصود: أنه سبحانه لكمالِ أسمائه وصفاته
موصوفٌ بكل صفة كمال, منزهٌ عن كل نقص. له كلُّ ثناءٍ حسن, ولا يَصدرُ عنه إلا كل
فعل جميل, ولا يُسمّى إلا بأحسن الأسماء, ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناء. وهو
المحمود المحبوب المُعَظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه وخلَقَه,
وعلى ما كل أمر به وشرعه.
ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى
واستقراءِ آثارها في الخلق والأمر؛ رأى الخلق والأمر منتظمَين بها أكملَ انتظام,
ورأى سَريان آثارها فيهما, وعلِمَ بحسَب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعلَه
وما لا يليق, فاستدل بأسمائه على ما يفعلَه وما لا يفعلَه, فإنه لا يفعلُ خلاف موجِب
حمده وحكمته. وكذلك يعلمُ ما يليق به أن يأمر به ويشرعَه مما لا يليق به. فيعلم
أنه لا يأمر بخلاف موجب حمده وحكمته.
فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا أو سفهًا
وعبثًا ومفسدة, أو ما لا يوجب حمدًا وثناءً فليعلم أنه ليس من أحكامه ولا دينه,
وأنه بريءُ منه ورسولُه, فإنه إنما يأمرُ بالعدل لا بالظلم, وبالمصلحة لا بالمفسدة,
وبالحكمة لا بالعبث والسفه. وإنما بَعث رسولَه بالحنيفية السمحة, لا بالغلظة
والشدة, وبعثه بالرحمة لا بالقسوة. فإنه أرحم الراحمين, ورسوله رحمة مهداة إلى
العالمين, ودينُه كلّه رحمة, وهو نبي الرحمة, وأمته الأمة المرحومة. وذلك كله موجَب
أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة, فلا يُخبَر عنه إلا بحمده, ولا يُثنَى
عليه إلا بأحسن الثناء, كما لا يسمى إلا بأحسن الأسماء.
وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن
حمد نفسه في أول الخلق وآخره, وعند الأمر والشرع, وحَمِدَ نفسَه على ربوبيته
للعالمين, وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع اتصافه
بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته إليه.
وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه, وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَريان
حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه, وحمد نفسه عليه؛ فنوّعَ
حمدَه وأسبابَ حمدِه, وجمعَها تارة, وفرقها أخرى, ليتعرّف إلى عباده, ويعرِّفَهم
كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه, وليتحبّبَ إليهم بذلك, ويحبَّهم إذا عرفوه وأحبوه
وحمدوه.
قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن
الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل
الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل
على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا) وقال تعالى: (الحمد لله الذي له ما في
السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) وقال تعالى: (الحمد
لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في
الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) وقال سبحانه: (وهو الله لا إله إلا هو له
الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) وقال سبحانه: (هو الحي لا إله
إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وقال: (فسبحان الله حين
تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون). اللهم صل وسلم
وبارك على محمد وآله وأصحابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق