الصَّرْع
الحمد
لله، وبعد؛
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان بهم
لطيفا خبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان
على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة وبشيرا
ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن رأسُ
مال المؤمن دِينُه وإيمانُه وإسلامُه، واعلموا أن المؤمن مبتلى كما قال تعالى: (لنبلوَكم
أيُّكم أحسنُ عملا). واعلموا أن من جملة الابتلاءات المرض والسقم، ومنها الصرْعُ، فعن
عطاء بن أبي رباح رحمه الله قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أُريكَ
امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه
وسلم، فقالت: إني أصرع، وإني أتكشّف، فادع الله تعالى لي . قال: "إن
شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيَكِ" فقالت:
أصبر، فقالت: إني أتكشّف فادع الله أن لا أتكشّف، فدعا لها". (1) وفي الحديث
تخيير المرأة بين الصبر وضمان الجنة، وبين الدعاء لشفائها الناجز، فاختارت ما عند
الله رضي الله عنها، قال ابن بَطَّالٍ رحمه الله: "وفي الحديث فضل الصرْع،
وفيه أن اختيار البلاء والصبر عليه يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ
بالرخصة لمن علم من نفسه أنه يطيق التمادي على الشدة ولا يضعف عن التزامها".
(2) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث أن الأخذ بالشدة أفضل من
الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على
ترك التداوي، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من
العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية،
ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة
المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل". (3)
عباد
الرحمن؛ تأمّلوا حال نبيِّ الله أيوبَ عليه السلام، فإنه صبر ورضي طويلًا حتى
إذا بلغ به الأمر دعا: (رب إني مسني الضر). فالعبد دائر في رحى العبودية، فإن غلب
على ظنه صلاح حاله بالعافية، وقوّته على العبادات، وانشراح صدره بالذكر ونحو ذلك
فليدع بخصوص أمره وكشف ضره وبتفويض الخيرة لله تعالى له، وإن غلب على ظنه تلذُّذه
بالصبر والرضا والحمد والشكر فليلزمه طاقته، وليسأل ربه العافية بكل حال، فإن ضعف
لعارض أو طول مدى فليدع ربه، فكلا الأمرين خير وبرّ وعبادة، والعافية مع الشكر باب
للجنة، كما أن الصبر والرضا بابان لها، وكلها مجتمعة في الأمر الواحد للمؤمن
الواحد إن وفقه الله تعالى لفقهها والعمل بمقتضاها. ونبينا صلى الله عليه وسلم
يقول: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن
أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». (4)
عباد الله؛ إن الصرْع- بتسكين الراء-:
هو علة في الجهاز العصبي تصحبها غيبوبة وتَثَنّي في العضلات. وهو منقسم على الروح
والجسد، فصرع الروح علّته قوى خفية كتلبّس الجان للمصروع، فيؤثر على الجسد فيصرعه.
ودواء هذا النوع بالتوكل على الله تعالى وبالرقية والدعاء والاستغفار.
أما صرع الجسد فهو علّة في الأعصاب لها أنواع
سببها – بإذن الله - خلل في الجهاز العصبي، ودواء هذا النوع هو عين دواء النوع
الأول مع زيادة أدوية الأطباء الحسية كوخزات الكهرباء أو بالأدوية والعقاقير
المعتادة، ومع تقدم العلوم الطبية في مجال أمراض الدماغ والأعصاب عُرفت أنواع
عديدة من الصرع تعود إلى خلل في كهرباء الدماغ يؤثر في أعضاء البدن، ولها أدوية
تنظم كهرباء الدماغ فتمنع الصرع بإذن الله. وكذلك لبعض أنواعه علاج بالجلسات
النفسية أحيانًا.
والصرع بنوعية من جملة الابتلاء الإلهي كبقية
الابتلاءات بالأمراض وغيرها التي تستوجب رجوعًا لله تعالى، وتعلقًا به سبحانه،
وانطراحًا بين يديه، وانكسارًا لعظمته، وتذلّلًا لعزته تبارك وتعالى، مع بذل الوسع
في رفع البلاء بالدعاء دومًا، وباستحباب الدواء أحيانًا.
عباد الله، ليس كل صرع سببه الجن كما
بيّنّا، ولكن قد سيتلي الله تعالى أحيانًا عبده فيسلطهم عليه اختبارًا لصبره ورضاه
وحمد وإيمانه، واعلموا أن وجود الجن، أمر معلوم متيقن منه، ومنكر الجن كافر
لتكذيبه صريح القرآن والسنة المتواترة، فقد ذكرهم الله تعالى في آيات عديدة، كقوله
عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، بل أنزل سورة سميت باسمهم، قال
تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا). وعدم
رؤيتنا لهم لا ينفي وجودهم، فقد جعل الله لهم خاصية الاختفاء عن أعيننا، قال
سبحانه وتعالى: ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ )، وذكر سبحانه وتعالى أصل خلق الجن فقال
تعالى: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ )، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجانّ من نار، وخلق
آدم مما وُصف لكم"، رواه مسلم (5314)
ولا يوجد في طوائف المسلمين من ينكر
وجود الجن، بل حتى الكفار من اليهود والنصارى يؤمنون بوجودهم، قال ابن تيمية رحمه
الله في مجموع الفتاوى (18/10): "لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود
الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم. وجمهور طوائف الكفار
على إثبات الجن. أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار
المسلمين.. وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلومًا
بالاضطرار".
وقد ذُكر تلبس الجان للإنسي في سورة
البقرة فقال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس)، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا على هيئة المصروع
الممسوس. وقد جاء في السنة ذكر المسّ كذلك – وهو التلبّس - فعند ابن ماجه (2 /
1174) (3548) وصححه الألباني عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "لما
استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى
ما أدري ما أُصلّي! فلمّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
"ابن أبي العاص؟" قلت: نعم يا رسول الله، قال: "ما جاء بك؟"
قلت: يا رسول الله، عرض لي شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي. قال: "ذاك
الشيطان. ادنُه"، فدنوت منه، فجلستُ على صدور قدمَيّ. قال: فضرب صدري بيده
وتفل في فمي وقال: "اخرج عدوَّ الله"! ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال:
"الحق بعملك". قال: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد". وفي رواية: فقلت:
يا رسول الله، إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: "يا شيطان، اخرج
من صدر عثمان". فما نسيت شيئًا أريد حفظه". أخرجه البيهقي في دلائل
النبوة ( 5 / 308 ) وقال الألباني في السلسلة (6/ 999): "إسناده صحيح.. وفي
الحديث دلالة صريحة على أن الشيطان قد يتلبس الإنسان ويدخل فيه ولو كان مؤمنًا
صالحًا، وفي ذلك أحاديث كثيرة منها حديث يعلى بن مرّة، وذكر فيه خبر أمّ الصبي
التي اعترضت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها في سفره، وفيه: "وأتته
امرأة فقالت: إن ابني هذا به لممٌ منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أَدنيه". فأدنته منه فتفل في فيه وقال:
"اخرج عدوَّ الله، أنا رسول الله". ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "إذا رجعنا؛ فأعلمينا ما صنع". فلما رجع رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ استقبلته ومعها كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"خذ هذا الكبش فاتخذ منه ما أردت". فقالت: والذي أكرمك؛ ما رأينا به
شيئًا منذ فارقتنا.. الحديث". أهـ.
وقال العثيمين رحمه الله في شرح رياض
الصالحين (1 / 40- 41): "والصرع نعوذ بالله منه نوعان: صرع بسبب تشنج الأعصاب
وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل الأطباء بإعطاء العقاقير التي تسكّنه أو تزيله
بالمرة. وقسم آخر بسبب الشياطين والجن، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه، ويدخل فيه،
ويضرب به على الأرض، ويغمى عليه من شدة الصرع، وهذا النوع من الصرع له علاج يدفعه،
وله علاج يرفعه. فهو نوعان:
أما دفعه فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية
الصباحية والمسائية، وهي معروفة في كتب أهل العلم، منها آية الكرسي فإن من قرأها
في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح. ومنها سورة الإخلاص
والفلق والناس، ومنها أحاديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فليحرص الإنسان عليها
صباحًا ومساء، فإن ذلك من أسباب دفع أذيّة الجن.
وأما الرفع فهو إذا وقع بالإنسان فإنه
يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى
يخرج". أهـ
بارك الله لي ولكم...
...........................
1- البخاري 7/150 و151 ( 5652 ) ومسلم 8/16 ( 2576 )
وعند البخاري في رواية عن عطاء: "أنه رأى أم زفر تلك المرأة الطويلة السوداء
على ستر الكعبة" وفي معرفة الصحابة لأبي نعيم (6 / 3375) عن
عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: "ألا أريك امرأة من أهل الجنة"؟
قال فأراني حبشيّة صفراء عظيمة، يقال: هذه شقيرة.
2- شرح صحيح البخاري (9 / 376) كذلك ذكره
العيني في عمدة القاري (31 / 254)
3- فتح الباري (10/143)
4- مسلم (2999)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق