الفرجُ
بعد الشدّة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم،
مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في
ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا
استُعيذَ به أعاذ. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما
كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الله
تعالى محمود على كل حال، وأفعاله كلها خير وحكمة.
يا
عبد الله؛ إنك إذا تأملت حكمة الله تعالى الباهرة في هذا الدين القويم والملة
الحنيفية والشريعة المحمدية التي لا تنال العبارةُ كمالَها، ولا يدرك الوصف حسنها،
ولا تقترح عقول العقلاء ولو اجتمعت وكانت على أكمل عقل رجل منهم فوقها، وحسب
العقول الكاملة الفاضلة إنْ أدركت حسنها، وشهدت بفضلها، وأنّه ما طرق العالم شريعة
أكمل ولا أجلّ ولا أعظم منها، فهي نفسها الشاهد والمشهود له، والحجّة والمحتجّ له،
والدعوى والبرهان، ولو لم يأت الرسول ببرهان عليها لكفى بها برهانًا وآية وشاهدًا
على أنها من عند الله، وكلها شاهدة له بكمال العلم وكمال الحكمة وسعة الرحمة والبر
والإحسان والإحاطة بالغيب والشهادة والعلم بالمبادئ والعواقب، وأنها من أعظم نعم
الله التي أنعم بها على عباده، فما أنعم عليهم بنعمة أجلّ من أن هداهم لها، وجعلهم
من أهلها، وممن ارتضاهم لها، فلهذا امتنّ على عباده بأن هداهم لها، قال تعالى:
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين) وقال معرّفًا لعباده
ومذكّرًا لهم عظيم نعمته عليهم مستدعيًا منهم شكره على أن جعلهم من أهلها: (اليوم
اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).
وتأمّل
كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام،
إيذانًا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ولا شيء خارجًا عن الحكمة بوجه،
بل هو الكامل في حسنه وجلالته، ووَصَفَ النعمة بالتمام إيذانًا بدوامها واتصالها،
وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها، بل يتمّها لهم بالدوام في هذه الدار وفي
دار القرار.
وتأمل
حسن اقتران التمام بالنعمة، وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم إذ هم
القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه إذ هو وليّها ومسديها والمنعم بها
عليهم، فهي نعمته حقًّا، وهم قابلوها. وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص،
وأنه شيء خُصّوا به دون الأمم، وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء
والاشتمال والإحاطة، فجاء: (أتممت) في مقابلة: (أكملت) و(عليكم) في مقابلة (لكم)
و(نعمتي) في مقابلة (دينكم).
وأكّد
ذلك وزاده تقريرًا وكمالًا وإتمامًا للنعمة بقوله: (ورضيت لكم الاسلام دينا) وكان
بعض السلف الصالح يقول: يا لَه من دينٍ لو أنّ له رجالًا". (1)
عباد
الرحمن؛ إنّ في صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر
بالدعاة إلى الله تعالى بل بعموم المسلمين أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا
بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو خير أسوة لخير أمة، ومن ذلك: ما كان مشركو مكة
يُلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، وقد كان صابرًا
محتسبًا، وما كان يزيد على قوله: "يا بني عبد مناف؛ أيّ جوار هذا؟!". (2)
وبعد أن اشتدّ أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج
النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنهم لم
يستجيبوا له، بل كفروا به، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفّوا على الطريق صفّين،
وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه الشريف.
قال ابن إسحاق رحمه الله: "ولمّا هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى
الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء
أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل، فخرج إليهم وحده.
تالله ما الدَّعَوات يهزمها الرَّدى ... يومًا
وفي التاريخ برُّ يميني
فالنور في قلبي، وقلبي في يَدَي ... ربّي، وربي
ناصري ومعيني
سأعيشُ معتصمًا بحبل عقيدتي ... وأموت مبتسمًا
ليحيا ديني
ولمّا
انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يؤمئذ ساده
ثقيف وأشرافهم، وهم إخوةٌ ثلاثةٌ عبدُ يالِيلِ بن عمرو ومسعود بن عمرو وحبيب بن
عمرو، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم فدعاهم إلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه
على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم: هو (3) يمرُط ثياب الكعبة إن كان الله
أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلّمك
أبدًا، لئن كنت رسولًا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردّ عليك الكلام،
ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
واغروا
به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجئوه إلى حائط
لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه،
فعمد إلى ظلِّ حَبَلَةٍ من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من
سفهاء أهل الطائف.
فلما
اطمأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروى: "اللهم إليك
أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ
المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوّ ملّكته أمري؟
إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، غير أنّ عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك
الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو
يحلّ عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". (4)
فلما
رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحرّكت له رحمهما؛ فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا
يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به
إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه يده قال: "باسم الله" ثم أكل، فنظر عدّاس في وجهه
ثم قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "ومِن أهل أيّ البلاد أنت يا عدّاس، وما دينك؟" قال:
نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِن
قرية الرجل الصالح يونس بن متّى" فقال له عداس: وما يدريك ما يونس
بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، كان نبيًّا
وأنا نبيّ". فأكبّ عدّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل
رأسه ويديه وقدميه.
قال:
يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك! فلما جاءهما عدّاس
قالا له: ويلك يا عدّاس! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي؛
ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبيّ. قالا له: ويحك يا
عدّاس، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
قال:
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من
خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمرّ به النفر من الجنّ الذين
ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جنّ أهل نَصيبين، فاستمعوا
له، فلما فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا،
فقصّ الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: (وإذ صرفنا إليك نفر
من الجن يستمعون القرآن) إلى قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم). وقال تبارك
وتعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) إلى آخر القصة من خبرهم في هذه
السورة. (5) فصلى الله وملائكته وصالح عباده وسلّم وبارك على هذا النبي الشفيق
الكريم.
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
وسلموا أموركم إليه، واعتصموا به، وثقوا به، وتوكلوا عليه.
ولَرُبَّ حَاجَـاتٍ تَعَـسَّـرَ نَـيْـلُهَا ... والخَيْرُ
كُلُّ الخَيْرِ فـي تَعْسِيْرِهَا
كُنْ وَاثِقًا بالله فِيمَـا قَـدْ
قَـضَى ... واتْرُكْ
أُمُورًا قَدْ دَعَاكَ لِغَيرِهَا
واجْعَلْ حيَاتَكَ كُلَّها بيَدِ الَّذِي ... لولاهُ لَنْ
تَقْوَى عَلَى تَدْبِيرِهَا
واتْرُكَ هَوَاكَ لِأَمْرِ رَبِّكَ واحْتَسِبْ ... لَا
تَلْتَـفِتْ للنَّفْسِ عِنْدَ زَئِيْرِهَا
مَنْ يَتَّقِ الرَّحْمَنَ يَلْقَ سَعَادَةً ... يَعْيَا
لِسَانُ الخَلْقِ عَنْ تَفْسِيْرِهَا
عباد
الرحمن؛ كلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛
قويت عبوديته له وحرّيته مما سواه؛ فكما أنّ طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له،
فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت
تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيرَه. فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب
عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن
العبودية لله، لا سيّما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه
معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما
على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم،
ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى
به بذنوب عباده خبيرا }. (6)
اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجي ...
قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ ... فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي
وَفَوائِدُ مَولانا جُمَلٌ ... لِسُرُوحِ الأَنفُسِ والمُهَجِ
اللهم
صل على محمد..
..........
1- مفتاح دار السعادة (1 /301-
304) مختصرًا.
2- سيرة ابن هشام، (1/416)
وتاريخ الطبري، (2/343)
3- يعني نفسه، ولكن لورع الراوي
وإجلالًا للكعبة أن يذكر ما يوهم السوء على نفسه حيالها لم يذكرها كما قالها، بل
قال "هو" بدلًا من "أنا"، ومثل هذا رواية وفاة أبي طالب حينما
روى الراوي قوله: "أنا" إلى "هو على ملة عبد المطلب". رواه
البخاري (2/119). وهذا دارج سائغ جميل.
4- رواه الطبراني ورجاله ثقات، غير ابن إسحاق وهو
مدلس وقد عنعن. وابن إسحاق إمام في المغازي ضعيف في الحديث، فإن أخذت الخبر كسائر
أخبار السيرة المرسلة فهو كما ترى، أما إن أعملت الصنعة الحديثية ففي صحته كلام.
والحديث قد روي مرسلًا عن محمد بن كعب القرظي، وعن الزهري. وضعفه الألباني في فقه
السيرة (1 / 125) وانظر: السيرة النبوية (2/71)، مجمع الزوائد (6/35)، تاريخ الطبري
(1/345). وكان ابن تيمية وابن القيم يذكرانه من ضمن أدعية النبي صلى الله عليه
وسلم، وهو دعاء عظيم المعاني جليل الفوائد عليه أنوار النبوة. وانظر: العبودية (1
/ 86) ومجموع الفتاوى (6 / 387) وزاد المعاد في هدي خير العباد (3 / 31)
5- تهذيب سيرة ابن هشام (1 /123
- 124)
6- العبودية، ابن تيمية (1 / 87)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق