من
خصال المؤمنين: السهولة وعدم التكلّف
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم،
مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في
ذكره، الذي إذا أُطيع شَكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا
استُعيذَ به أعاذ. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما
كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن من
خصال الإيمان عدم التكلف، لأن المؤمن يعلم أن ما أصابه لم ليخطئه، وما أخطأه لم
يكن ليصيبه، وأن الحادثات المقدّرة مرغوبة كانت أو مرهوبة فالتكلّف -إن لم يضر -
فهو لا ينفع. والمستريح هو الوسط البسيط غير المتكلف الشطيط.
والتكلف هو أن تتكلف حالًا ليس لك، كأن
تتزيّا بمال غيرك، أو تدعي علمًا أنت تجهله، أو فهمًا أكبر من عقلك، أو تطلب ما
ليس لك، أو تتعدى المباح للإسراف. قال النووي رحمه الله في تعريفه: "هو فعل
وقول ما لا مصلحة فيه بمشقة". (1)
قال الله تعالى ناهيًا عن التكلّف: {
قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } وعن عمر رضي الله عنه قال:
"نُهينا عن التكلّف". (2) وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه فقال: "يا أيها الناس، من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم،
فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }.
(3) وما عاش مرتاحًا ولا صادقًا المتكلف.
والمؤمن ليس من أهل التكلّف والتصنّع،
وقد ذُكِر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "العلم نقطة كثّرها
الجاهلون". (4) أي أنّ أصل العلم الذي فقههُ الصحابة رضي الله عنهم
كان نزرًا نافعًا، وهو أصول قيّمة ومحكمات جامعة تُرجع إليها المسائل وتُعرض عليها
الدلائل، ويفيءُ طالبُ العلم بها لبركة الوحي الصافي، ويَرِدُ بها الحقَّ الوافي،
وهو فقه الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعماله، وهو ليس بهذه
الكثرة المُشَتِّتة، إنما شقّق الناس بعدها وتشدّقوا وأوغلوا وغالوا. فبركة العلم
في صفائه من كدر التكلّف، ونقائه من دَغَلِ المخالفة.
والرضا بالمكتوب لا ينفي صُنْعَ
مستقبلٍ أجمل لك وللأجيال القادمة، فكن متوكّلًا لا متواكلًا، وعازمًا لا
متوانيًا، فقد أهبطك الله للأرض لتعمرها بالعبادة وتعبرها بالصالحات وتتزوّد منها
بُلغتَكَ لدارك في الآخرة: (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا
من رزقه وإليه النشور).
وسرُّ جمالِ الحياةِ البساطةُ،
فالحياة سهلة وعيشها يسير إن رأيتها كذلك، لكنّها شديدة التعقيد إن تعاملت معها
بتعقيد، والإكسير موجود لكنه السهل الممتنع: إنه القناعة.
إن كان لا
يُغنيك ما يكفيكا ... فكلُّ ما في الأرض لا يُغنيكا
والتكلّف مُنغِّصٍ لطيب اللقيا،
والمثاليّة قتّالةٌ للإبداع. وكم من بيتٍ عامرٍ إلا من أهله، وآخر مُقِلٌّ إلا من
أُنْسِ سكانه ودفء أرواحهم وقرب قلوبهم لقلوبهم. وإنّ العبرة ليست في مظاهر الدنيا
وأقنعتها الجميلة، بل في حقائق القلوب ورغائبها الأصيلة، وبما أنها تنتهي غدًا
برضا رب العالمين أو سخطه؛ فعلام الغفلة عن الأمر الكبير. والكثير من المظاهر
الجميلة التي نراها في الناس تخفي تحتها بؤسًا لا يطاق، ولكن الناس يخفون الأسى
ويظهرون السعادة، فاحمد الله كثيرًا على العافية.
ولا عارَ إن
زالتْ عن الحُرِّ نعمةٌ ... ولكنَّ عارًا أن
يزول التجمُّلُ
ومن نعيمك غير المنظور: أنّ الله قد
عزّ ماء وجهك فلم يُهرق للئيم، فما قطع عنق كريم كحاجته عند من لا يكرم وفادة
سُؤْلِهِ. وعلى سبيل الراحة؛ تجرّعِ القناعة.
لا تَحرَصَنْ
فالحِرْصُ ليسَ بِزَائدٍ ... في الرزق بل يُشقي الحريصَ
ويُتعِبُ
ولقد اختصّ الله عز وجل بعض عبادة
بخصلة جميلة نفيسة نادرة، وهي أنّهم يرون أفضل ما في الناس، ويعاملونهم بحسَب ذلك.
فكن لطيفًا بشوشًا دمثًا، ولا بأس ببعض مزاح يزيل ثِقَلَ التكلّف وزَمَانَةَ
الجِديّة، لكن لا يكن ديدنًا ولا مؤذيًا، والفكاهةُ في غير أوانها ضربٌ من
الحماقة.
إذا لم يكن صفوُ
الوِدَادِ طبيعةً ... فلا خيرَ في ودٍّ يجيء تكلُّفَا
والأخلاقُ – فاعلمن- جزءٌ كبير من
المنهج النبوي، ومن قصّرَ فيها؛ ففيه نقص من تلك الجهة بقدر نقصه، فليستعن بالله
في هدايته لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو. فكن – وفقك الله –دمثَ الأخلاق،
رقيقَ الحاشية، سهلَ العريكة، بهيَّ الابتسام، طلْقَ المُحيَّا، ليِّن الخطاب، وقد
قالت العرْبَاء: من لانت كلمتُه وجبت محبتُه، وما تَشاتمَ اثنانِ إلا غَلَبَ
ألأَمَهُما.
وكُن كما أنت على سجيّتك وطبيعتك
وعفويتك بلا تكلّف، وعش سهلًا حنونًا فهي سنّة نبينا ﷺ، أمّا تصنّعُ الرزانة في
العلاقة بالناس الأقربين؛ فحقيقتُه وضعُ جدران عالية بين المُترَزِّنِ وبينهم بقدر
ذلك التصنّع النّكِد، وليس المقصود إخلال المروءة بل دفع التعالي، وخيرُ الأمور
أوساطُها. ولا تدّعي زيادة علمٍ أو تقى أو ذكاء أو مال، وإيّاك وتصنّع المثالية.
وروّح عن نفسك حينًا، وقد قال
معاوية لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: ما اللذة؟ قال: "طرحُ المروءة".
وقال المأمون: "ما بقيت لي لذّةٌ إلا وجودُ أخٍ أضعُ بيني وبينه مؤنة
التحفّظ". وقال مالك بن دينار: "أثقلُ إخواني عليّ من يتكلّف لي وأتحفّظ
منه، وأخفّهم على قلبي من أكون معه كما أكون لوحدي". وقال الشافعي: "ليس
بأخيك من احتجت إلى مداراته". وﺳُﺌِﻞَ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﻫﻞ ﻛﺎﻥ
ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﻳﻀﺤﻜﻮﻥ؟ ﻗﺎﻝ: "ﻧﻌﻢ، ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥُ في ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ ﻣﺜﻞ الجبال". وقال بكر
بن عبد الله: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمازحون، حتى
يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق؛ كانوا هم الرجال".
جماع ذلك؛ كن كما أنت بلا تكلّف ولا
تصنّع، أرسل نفسك على سجيّتها وكن بطبيعتك، ولا تدّعي لنفسك إيمانًا أزكى، ولا
صدرًا أصفى، ولا ذكاءً أحدّ، ولا علمًا أغزر، ولا مالًا أكثر، ولا مقامًا ليس لك.
فأول درجةٍ في سلم الراحة أن تكشف نفسك
كما هي، فلا تُعليها ولا تُدنيها إلا تواضعًا، وليس الإزراء بأشدّ من الاستعلاء،
ومن تواضع لله رفعه. وليس معنى ذلك أن تسوطها بسياط الكبت والهضم لما لها فيه سبب
فلاح ولطيفةُ فرحٍ، فنفسك أسيرتُك فارحمها رحمك الرحمن، والقصدَ القصدَ تبلغوا.
بارك الله لي ولكم..
.............
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أن حسن أخلاق المؤمن نابع من إيمانه بمولاه، قد باع نفسه لربه، فهو لله
وإلى الله ولا يرجو إلا الله. طابت سريرته فحسنت علانيته، يترقى درَج حَسَنِي
الأخلاق ليفوز بقرب مجلسه يوم القيامة من حبيبه وقرة عينه رسول الهدى صلوات الله
وسلامه وبركاته عليه وآله، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إن من أحبِّكم إليّ، وأقربِكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنُكم
أخلاقًا، وإن أبغضَكم إلي وأبعدَكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدّقون
والمتفيهقون". قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون،
فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون". (5)
وقال
عبد الله بن المبارك رحمه الله في تفسير حسن الخلق: "هو طلاقة الوجه، وبذل
المعروف، وكف الأذى".
أبُنيّ إن البرّ أمرٌ هيّنٌ ... وجهٌ
طليقٌ ولسانٌ ليّنٌ
إن من
صفات المؤمن التقي حسنُ الخطاب ولين الكلم، فمن حسن الخطاب أن قوم نوح عليه السلام
لما قالوا له: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) ووصفوا أتباعه بذلك وبالغوا في
الاستهجان؛ لم يسكت عليه السلام على الباطل، بل وصف المستضعفين بأحسن وصف فقال بلطف:
(وما أنا بطارد المؤمنين)، أما سابّيهم فلم يسبّهم، بل أبطل الباطل بهدوء وقوة حجة
وحكمة. ولما اتهموه بالضلال لم يتهمهم بمثله تلطّفًا في الخطاب لعله أن يصل
لقلوبهم فيهتدوا فيفلحوا، (قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين . قال يا قوم
ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من
الله ما لا تعلمون). وقال هود عليه السلام لمّا سفّهوه: (يا قوم ليس بي سفاهة
ولكني رسول من رب العالمين).
ومن
التلطف في الخطاب قوله تعالى في سياق محاججة الرسل لمخالفيهم: (وإنا أو أياكم لعلى
هدى أو في ضلال مبين . قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون). وقد أمر
الله موسى وهارون عليهما السلام بلطف الخطاب لأعتى الكفرة فرعون فقال: (فقولا له
قولا لينا)، فلما حقت علية الضلالة وانقطع أمل الهدى صاح به الكليم: (وإني لأظنك
يا فرعون مثبورا).
وأمرنا
الله بالجدال الحسن إلا من عتى وظلم وبغى وكابر وأصرّ فقال: (ولا تجادلوا أهل
الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم). ويكفينا على الإطلاق وصية ربنا
الأعز الأكرم: (وقولوا للناس حسنا). وإياك وجدال ثلاثة: الأحمق والمستكبر والجاهل، كما
قيل: "المجادلة مع الأغبياء تُشبه قتْل بَعوضة وقفتْ على خدّك، قد تقتلها،
وقد لا تقتلها، لكن في كلتا الحالتين سينتهي بك الأمر لأنْ تصفع نفسك"!
وبالجملة؛
فالمؤمن بربه يجلله الخلق الحسن والصدر الطاهر واللسان العاطر والقلب المخموم، ومن
رضي عن ربه وبربه ولربه أرضاه ربه، (ورضوان من الله أكبر)، نسأل الله الكريم من
فضله العميم.
عباد
الرحمن؛ ومن جميل أخلاق المؤمنين ورسوخ سجاياهم الصدق، فالمؤمن بربه تعالى يهفو
لبلوغ مرتبة الصدّيقية التي تلي النبوة وتعلو الشهادة، يقول الصدق ولو قتله الصدق،
يطابق باطنه ما ظهر من قوله وعمله، مؤمن بربه تعالى مصدّق لرسوله صلى الله عليه
وسلم.
هو
غير محتاج لكذب يذبُّ به عن نفسه أو يهجم به على ما ليس له، فهو يدور مع قدر الله
مسلّمًا قياد فؤاده لمن بيده مقاليد الأمور، يدافع القدر بالقدر مع التسليم في
الأمرين للقادر سبحانه، يحرث عمره بإخلاص ويبني حياته بصدق ويقبل على آخرته بيقين،
يقول الصدق وبه يعمل، ليس من الكَذَبَة في شيء لا ظاهرًا ولا باطنًا، ممتثلًا أمر
ربه الأكرم: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
اللهم
صل على محمد..
..................
1- رياض
الصالحين (86)
2- البخاري
(7293)
3- البخاري
(4809)
4- رواه
ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) وانظر: مجموع مؤلفات عقائد الرافضة والرد
عليها (24 / 59)
5- الترمذي (2018) وقال: حديث حسن. وابن حبان (5557) وصححه الأرناؤؤط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق