إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 31 مايو 2022

التوازن في حياة المسلم

 

التوازن في حياة المسلم

 

الحمد لله جعل الحمدَ مفتاحًا لذكره، وجعل الشكرَ سببًا للمزيد من فضله، ودليلاً على آلائه وعظَمَته، قضاؤه وحُكمه عدلٌ وحكمة، ورِضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفُو بحِلمه، خيرُه علينا نازِل، وتقصيرُنا إليه صاعِد، لا نقدِر أن نأخُذَ إلا ما أعطانا، ولا أن نتقِيَ إلا ما وقانا، نحمدُه على إعطائه ومنعه وبسطِه وقدرِه، البرِّ الرحيم لا يُضيرُه الإعطاءُ والجُود، مُسدِي النِّعَم وكاشِفِ النِّقَم، أصبحنا عبيدًا مملوكين له، له الحُجَّة علينا ولا حُجَّة لنا عليه، نستغفره ونتوبُ إليه مما أحاط به علمُه وأحصاه في كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيدُ البشر أجمعين ورسولُ ربِّ العالمين، فصلواتُ الله وسلامه عليه، وعلى آله وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن المؤمن بالله المتبع لشريعته، المتدبر لكتابه، متّزن العقل، متوازن النظر، لا يعطي أمرًا فوق حجمه ولا ينقصه عن قدره، قدر رفع الآخرة إذ رفعها الله تعالى، ووضع الدنيا حيث وضعها الله. قد فتح الله بصيرته فرأى بعيني قلبه حقيقة الدنيا فزهد فيها زهادة أهل القبور، فجعلها معبرًا وممرّا وزادًا لرحلته للدار الآخرة ومستمتعًا بالخير إلى حين.

عباد الرحمن؛ إن المؤمن الموفق الحكيم يعلم أنّ من أجلّ المهمات لبصيرته وعمله وحكمته ومصيره: الحاجةُ الملحّة للتوازن في النظر للأمور وتقدير أحجامها المعنويّة بلا وكسٍ ولا شطط. وسيّدة قواعد التوازن هي أن الذي يستحق أن تقلق لأجله هو الآخرة؛ درجاتها ودركاتها، أما الدنيا فمفروغ منها، رزقك وعمرك.

فالعابد الناسك لا يترهّب ولا يتبتل، كما أنه لا ينشغل بالدنيا عن الدين ولا يغفل عن زاد التقوى، بل يحرث الأرض بالإحسان كما أمره ربه، فيعمل لآخرته ولا ينسى نصيبه من الدنيا. قال ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت سبب الهموم والغموم؛ الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا. وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته.

فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح؛ لأنه يستغني بالرضا بالقضاء، فمهما قدّر له رضي. وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض، لأنه مملوك مدبَّر فتكون همته في عبادة الخالق.

 ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات. لأنه إما أن يكون مقصرًا في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض، يزهد في الفاني لينال الباقي. وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل. فينشغل بمحبة الله تعالى والشوق إليه والأنس به وتلمّح إحسانه ولطفه ورفقه وبرِّه والحياء منه ومخافته وذكره ودعائه وإحسان التعبّد له، فينتظم له الزهد في الدنيا وأهلها تبعًا.

فتراه متأدبًا في الخلوة به، مستأنسًا بمناجاته، مستوحشًا من مخالطة خلقه، راضيًا بما يقدّر له. فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره. فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش، لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبدًا في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة، نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول ولا قوة إلا به". (1)

ومن مسائل التوازن للمؤمنين: تقديرُ العالم وإجلالُه، فقد جفا عن حقّه وجلاله أقوام -وبخاصة حدثاء الأسنان – وجعلوا كلمته ورأيه وفتواه كفتوى آحادهم التي تلقفوها من الكتب مباشرة أو من فهومهم القاصرة أو من شبكاتٍ مجهولة سائرة، وغفلوا عن كبار أمورٍ لا تُدرَكُ إلا بعد النضج العلمي الطويل، وسهَوا عن مرتبة إجلال حَمَلَةِ الشريعة وتعظيم العلم الذي في صدورهم. فإن المعلومة التي يتأمّلها الإنسان أربعين سنة ويسقيها عصارة تجاربه ويُمِرّ عليها دلائل الوحي ليست كالتي تنطبع في ذهن غيره في ساعات، فيضمحل صفوُها لكَدَرِ ثاني الحال.

ومن مهمات مسائل التوازن العقلي للمؤمن: الانتباه لتلبيسات إبليس في الأوامر والمناهي الإلهية، فإن الشيطان الغادر قد يَلْبَسُ جُبّة الشيخ الناصح، وما بالك بمن عُمُرُه أطول من عمر البشرية كلها، وتجاربه مع بني آدم لا تُحصى، فهو خبيرٌ نفسي، وعدوٌّ ماكر، ومُخالطٌ غادر، نافثٌ خَطَرات، ومُزيّنٌ شهوات. ومن الكتب النافعة في هذا الباب إغاثة اللهفان لابن القيم وتلبيس إبليس لابن الجوزي رحمهما الله تعالى.

 عباد الرحمن؛ الموفق من عصمه الله من كيد الشيطان وإغوائه، وكان بمعزل في التقوى عن خطواته، فإنه يبدأ بالخطوة ليمشي بالمرء أميالًا، ويهوّن عليه الأمر لينكسر حاجز المناعة ضد الخطيئة، ويوسوس للمرء بالأمر حرصًا على بلوغ غيره وهكذا، وتأمل خَبَرَهُ مع برصيصا العابد.

عباد الله؛ الحذر الحذر من خطوات الشيطان؛ فهو يأخذ بالعبد في طريق غوايته خطوة بخطوة، ولقد وجد في هذا الزمان من كان يضع صورة القائد خّطاب رحمه الله في محفظته، حتى إذا فَتَر نظر إليها. والآخرُ علّق صورة والده المتوفّى، فكان يُحيِّي الصورة كلما دخل المنزل، وبعد مدّة زاد مع التحية ركوعٌ. فيا سبحان الله، حذو القذة بالقذة، وهل هلك قوم نوح ومن بعدهم إلا بذرائع الشرك في لبوس الصلاح، فاللهم غُفْرًا. فالتصوير والنحت هو ذريعة التعظيم والعبادة، (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثير) فيحرُم تعليق صور ذوات الأرواح مطلقًا، ويغلظ التحريم إن كانت لذي سلطانٍ على القلوب سواء لمحبته كالوالد، أو لعلمه كالعلماء، أو لعبادته كالصالحين، أو لمُلْكِه كالسلاطين والملوك.

 ولكنّ الشيطان بحمد الله ضعيف صغير حقير أمام مَنْ حَفِظَ أمرَ ربِّه وتعلق به واستعاذ واعتصم، فهو مجرد أزّازٍ، يوسوس في الصدر فيؤُز (2) الإنسان لمعصية الرحمن ولكن لا سلطان له على قلبه وعقله وإرادته وجوارحه، إنما هو مشير سوء ومسعّر فتنة لا حول له ولا طول ولا قوة إلا بالوسوسة، ويخنس حال ذكر الله تبارك وتعالى، فهو كما قال أبو حازم رحمه الله: "الشيطانُ وما الشيطان! أُطيعَ فلم ينفع، وعُصيَ فلم يضرّ". وربنا جل وعلا يقول: (إن كيد الشيطان كان ضعيفًا) وقال تعالى: (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخي إني كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب). فهو مجرد وسواس يخنس عند ذكر الله العظيم جلّ وعزّ. فالمؤمن يخشى الله وحده ويحذر كيد عدوّه وقد أجلى العليم عداوة الخبيث فقال سبحانه: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) فالاعتصام بحبل الله نجاة وحسن الرجاء بفضله فلاح.

من يتـق الله يُحمـد في عواقبه    ...  ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا

عباد الله؛ العبد الموفق إذا آتاه الله حظًّا من علم وأثارة من سبيل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون شديد العناية بفقه الأولويات والتوازنات وقواعد المصالح والمفاسد من التقديم والتأخير والتحصيل والاحتمال والدفع والرفع على ضوء المُحكمات الشرعيّة، فلا يمنع الرضا بالله من إعمال العقل وإتعاب الفكر في جلب مصالح الدنيا والآخرة ودفع مضارّهما، ذلك أن الذي أمرك بالرضا بأقداره هو من أمرك بتحصيل مصالح الزَّمَانين ومدافعة بلايا الدارين، (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، اللهم نسألك الحكمة والتوفيق والعصمة والهدى والسداد.

بارك الله لي ولكم...

...............

1-                   صيد الخاطر (1 / 111) بتصرف.

2-                   أي يهيّج ويغري ويزيّن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق