ثبات الإمام أحمد رحمه الله تعالى
الحمد لله المُنعِم على عباده بدينِه
القويم وشِرعته، وهداهم لاتِّباع سيِّد المُرسلين والتمسُّك بسُنَّته، وأسبغَ
عليهم من واسعِ فضلِه وعظيم رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
دعوةُ الحقِّ يُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحيِّ، يُسبِّح له
الليلُ إذا عسعسَ والصبحُ إذا تنفَّس، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ
المُرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ
الأمةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته
الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن
تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس: اتقوا الله
حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واعلموا أن أحسنَ الحديث
كلامُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور
مُحدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة.
عباد
الرحمن: إن لإمام
أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مواقف عاطرة طاهرة جميلة في رضاه بأقدار
مولاه سبحانه، ودورانه مع أمره، والسباحة في بحر الرضا به، والسكون في دار
الطمأنينة بإلهه تبارك وتعالى. ولمّا قضى الله تعالى أمره، وأراد رفعته كتب في
اللوح أن يكتويَ مع أصحابه في كَيْرِ فتنة القول بخلق القرآن العظيم، ثم وفّقه بأن
أخرجه منها ذهبًا خالصًا إبريزًا، وجبلًا شامخًا عظيمًا، وعَلمًا للمُؤتَمّين بسنة
سيد المرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فمن بداية الفتنة، ثبّتَ الله
سبحانه قلب الإمام أحمد، وعَصَمَ لسانه من النطق تقيّةً بخلق القرآن، وأصرّ على
رفض هذه المقولة، وأعلن السنة: «القرآن غير مخلوق». والدولة من ورائه من سُدَّتِها
العليا إلى أخلاف السوء. فهذا ظهور للسنة وأهلها من أول يومها، وكسر للبدعة
والضلالة وأهلها.
ولهذا ساق ابن الجوزي بسنده إلى ابن
أبي أسامة قال: "حُكِيَ لنا أن أحمد بن حنبل قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد
الله ألا ترى الحق، كيف ظهر عليه الباطل؟ فقال: كَلّا، إن ظهور الباطل على الحق أن
تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعْدُ لازمة للحق» (1). ثم أظهر
الله تعالى أحمد السنة على أحمد البدعة، بالبرهان والحجة، وسقوط أحمد البدعة،
وتهافت شبهه، واختفاء مقالته، وهلك ابن أبي دؤاد ببغداد، ولم يشهد جنازته مخلوق
(2). وصدق ابن المديني رحمه الله تعالى في قوله: «أعَزَّ الله هذا الدِّين
برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة». (3)
ثم ابتلاه الله تعالى بالمحنة الثانية، وهي
مكيدة يديرها الحاقدون بعد ثلاث سنين من إخماد محنة القول بخلق القرآن، فأشعل
المفتونون حينها محنة ثانية للإمام أحمد، من باب الكيد له، خلاصتها: أن المتوكل
كان يكره العلويّين، ومن يؤويهم، فأعلن أخلافُ السوء أن الإمام أحمد كان يؤوي
علويًا من خراسان في داره، واستطاعوا بهذا تحريك المتوكل ضده، فبعث له المتوكل
بواسطة واليه على بغداد، فريقًا من الرجال والنساء، فكبسوا عليه داره ليلًا،
يُفَتّشُون عن وجود ذاك العلوي في داره، فخاب الفاتنون، وظهرت براءة أحمد، فَفَرحَ
المتوكل.
ثم ابتلاه ربه بالمحنة الثالثة وهي
محنة الدنيا، فقد بعث المتوكل للإمام أحمد جائزة الظهور بالحجة على ابن أبي دؤاد،
وهي عشرة آلاف درهم، مع مندوبه، بكتاب رقيق العبارة واعتذار، وإجلال للِإمام أحمد،
وتأكيد عليه بقبول الجائزة، ودعوته للمجيء إليه. فوقف أحمد حيران، ثم فُتح له
بقبولها، لكن ما طلع الفجر إلا وقد وزَّع الدراهم كُلَّها على أولاد المهاجرين
والأنصار وفقراء عامة المسلمين.
ثم ابتلاه الله تعالى بالمحنة الرابعة،
وهي محنة الدنيا الثانية، فقد خرج الإمام أحمد إلى المتوكل إجابة لدعوته، وفي
طريقه - لما علم المتوكل بخروجه- بعث بعشرة آلاف درهم لأولاد الإمام أحمد، ورغب
إليهم عدم إخبار أحمد بها. واستقبل قصر المتوكل الإمام أحمد، بما فيه من حَشَمٍ
وخَدَمٍ ووزراء، والعيون تنظر إليه بالتقدير والحب والِإجلال، في قصص يطول ذكرها.
لكن الإمام أحمد يرى أنه إن كان بالأمس- أيام محنة القول بخلق القرآن- في سجن
البدن، فهو اليوم في سجن الروح، فهو يتمنّى الخلاص والإذن له بالعودة إلى داره في
بغداد، والإمام يرفض العطاء، ويرفض السكنى عند المتوكل، ويرفض قبول شراء دار له في
بغداد. ويبعث بالكتاب بعد الكتاب لولده في بغداد بعدم قبول الجوائز والصلات،
ويوصيه بالحرص على الزهد والقناعة.
وأحمد رحمه الله تعالى يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء
الله تعالى أمام هذه المِحَن والفتن، وما زال في رِفعة وعلو، وجلالة
قَدْرٍ مَلأت قلوب الناس، وصار لقلوبهم مثل العافية لأبدانهم. وما أجود ما قاله
الذهبي حينما امتحن الإمام مالك رحمه الله تعالى في مسألة أَيمانِ البيعة:
"وهذا ثمرة المحنة المحمودة؛ أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما
كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، «ومن يُرد الله به خيرًا يُصِب منه». (4) وقال
النبي ﷺ: «كل قضاء المؤمن خير له» (5). وقال تعالى: (ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى
نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكُمْ والصّابِرِينَ) [محمد /٣١] وأنزل في وقعة أحد
قوله: (أوَلَمّا أصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى
هَذا قُلْ هُوَ مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ) [آل عمران/١٦٥]، وقال: (وما أصابَكُمْ مِن
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى/٣٠]،
فالمؤمن إذا امتُحن؛ صبر واتَّعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حَكم
مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له"
(6). (7)
بارك
الله لي ولكم..
...........
الخطبة
الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واسألوا ربكم الثبات على دينه حتى الممات، وأن تلقوه وهو راض عنكم، وأن يحسن عملكم وختامكم. فإن القلب قُلَّبٌ والنفسُ ذاتُ إقبالٍ وإدبارِ، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
عباد الله؛ إن النفس عجيبة مدهشة،
غريبة مبهرة، تارة تسمو فوق السحاب إلى السماء، وحينًا تثَّاقلُ إلى طينة الأرض
السفلى، وما بين ذينك فهي في اضطراب وثبات، وعزم ونقض، وزلزلة ورسوخ، حينًا تُحسن
وآخر تظلم، وما بين ذينك تعدل، لها رغائبُ خائبة تُضعِفُها النفسُ وتنفيها إن
أُلهِمتْ رُشدَها وغلَّبتْ عقلَها، وتقهرُها الطباعُ وتكسرها إن علت على عقلها
صولةُ شهوةِ إرادتِها، لها قرينان مصاحبان ملكيٌّ بالخير يُسدِّدُها ويهديها،
وشيطانيّ للشرّ يعدها ويُمنّيها، تارة أمّارة، وحينًا لوّامة، وخيرُها المطمئنة،
تبارك وتعالى من خلقها وسوّاها، وبارك فيها وأعلاها، فقال في محكم تنزيله: (ولقد
كرمنا بني آدم).
نفسُ المؤمن العابد لربه طاهرة، وللخير
توّاقة، وللمعالي نزّاعة، وللبركات والفلاح حائزة، أما من تجبّر وعتى؛ فنفسة خبيثة
خائبة خاسرة، والمُوفَّقُ من أخذ الله بيده للحسنى وزيادة.
فيا أيها النفس تفكّري، وبهُدى الله
استهدي، فكم لله تعالى عليكِ من أنعام خفيّة، وألطاف سابغة، وكرامات واصلة، لكن
أين شكركِ للحميد الشكور؟! (كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور).
والمقصود يا عباد الرحمن؛ أن للنفس مع
الرضا تقلّب واضطرام واضطراب يليه رسوخ للموفّقين، فكن -رحمك الله- منهم تفُز، وخذ
بأسباب ذلك، واهتم بما هنالك، علّك للخير تحُز، فكل ما نعمةٍ ونعيمٍ من فضل الله
الكريم لا شريك له.
اللهم
صل وسلم وبارك على محمد وآله..
.................
1. مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي
(١/٤٢١)
2. نقل الحافظ ابن كثير في البداية
والنهاية (١٠/٣٧٧) عن يحيى الجَلّاءِ أنَّهُ رأى كأنّ أحمد بن حنبلٍ في حلْقة
بِالمسجِد الجامع وأحمدَ بنَ أبي دُؤادٍ في حَلْقَةٍ أخرى، وكان رسولُ اللَّه ﷺ
واقِفٌ بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية: (فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ) [الأنعام
٨٩] ويُشِيرُ إلى حَلْقَةِ ابْنِ أبِي دُؤادٍ (فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام ٨٩] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.
3. رواه الخطيب في تاريخه (٤/ ٤١٨)
وابن أبي يعلى في الطبقات (١/١٣) ونحوها عن المزني كما في السير للذهبي (١١/ ٢٠١)
4. البخاري (10 / 94) وأكثر العلماء
ضبطوا الصاد بالكسر. قال أبو عبيد الهروي: "معناه: يبتليه بالمصائب ليُثيبه
عليها".
5. قطعة من حديث أخرجه أحمد في
مسنده (5 / 24) من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له". وسنده جيد.
قاله شعيب الأرناؤوط رحمه الله تعالى.
6. السير (٨/٧٣)
7. عن المدخل المفصل لمذهب الإمام
أحمد لبكر أبو زيد رحمه الله تعالى (١/٤٠٠) باختصار وتصرف يسير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق