من
أريج أخبار الراضين بالله تعالى
الحمد لله، الحمد لله استخلفَ الإنسانَ
في الأرض ليعمُرها، وخلق له ما في السماوات وما في الأرض وسخَّرَها، أحمده -
سبحانه - وأُثني عليه وَالَى علينا نعمَه وآلاءَه لنشكُرَها، ومن رامَ عدَّها فلن
يحصُرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ أرجو عند
الله أجرَها وذُخرَها، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رسمَ معالمَ
الملَّة وأظهرَها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أفضلَ
هذه الأمة وأكرمَها وأبرَّها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين،
وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس -
ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عز وجل - رحمكم الله -، وأخلِصُوا لربكم القصدَ
والنيةَ فإنما الأعمالُ بالنياتِ، واجتهِدوا في الطاعة فقد أفلحَ من جدَّ في
الطاعات، والزَموا الصدقَ في المُعاملة فإن دين الله في المُعاملات.
بادِروا - رحمكم الله - إلى ما يحبُّه
مولاكم ويرضاه؛ فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفَه وجناه (يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) [النبأ: 40]، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا
عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ
وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 30].
عباد الرحمن؛ إنّ للراضين برب العالمين
صحائفُ بالعطر مسطورة، وأخبار بالفوز مشهورة، ومقاماتٌ لعِلِّيينَ – برحمة الله –
مبرورة. ففي القرآن ميعادهم، وفي السنة بشاراتهم، وفي ألسُنِ العالمين عَبَقُ
أخبارِهم. كتب الله أن من حفظ دينه حفظه، ومن صدق عهد الله صدقه، ومن أحسن عمله
كان عند الله من الفائزين، (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)، فشمِّرْ
يا عبد الله للفردوس فقد رُفعت سُهمانها للمُقرّبين، ونُشرت راياتها للمشمّرين،
(فتوكل على الله إنك على الحق المبين).
يا حبّذا رندُ العقيقِ وبانُهُ
... سُقِيَ العقيقُ وأهلُهُ وزمانُهُ
راقتْ خمائلُه ورقَّ نسيمُهُ ... وصَفَتْ على حصبائه غدرانُهُ
أخبارُهم نثْرُ العبير، ونشْرُ المسك الذّرير،
يَضُوعُ في الآفاق، ويجمع السالف بالشاهد المُقيم، ذلك أن أخبار الراضين للصالحين
مُرْضِيَة، ولِقلوبهم – بإذن الله- رابطة، فالسالك يفرح لأثرِ السابق، يشدُّ
بسيرته أزْرَ فؤادِه إذا لم تَرَ عينُه المُؤنسين، (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل
ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين).
وصلوات الله وسلامه وبركاته ونعماؤه
على إمامِ الراضين، وقائدِ الشاكرين، وسيّدِ الصابرين، وأطيبِ الحامدين، رسول
الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. لولا أنَّ
الله ابتعثه للناس رحمةً ما نجا من نجا من أمته، ولا وصلَ من رام الفلاحَ حينَ
الحشرِ من نُقلته، فله حقوقٌ عظيمةٌ وصنائعُ جسيمةٌ في عنق كلِّ مؤمن إلى يوم
القيامة.
عَمَّت فَواضِلُهُ وَعَمَّ
مَصابُهُ ... فَالناسُ فيهِ كُلُّهُم مَأجورُ
رَدَّت صَنائِعُهُ إِلَيهِ
حَياتَهُ ... فَكَأَنَّهُ مِن نَشرِها مَنشورُ
إنّ من أسباب الثبات على دين الله
أوقات الشدائد والفتن، وانشراح الصدر بالرضا بالله تعالى مطالعةُ سير المرسلين.
ومن أولئك الخليل إبراهيم صلى الله
عليه وسلم، وتدبرْ وصف الله تعالى له عليه السلام بكونه أمّة: (إن إبراهيم كان
أمة)، وتأمل كيف كانت صفة الرضا بالله وعن الله معلَمًا واضحًا من معالم شخصيته
وآثار سيرته عليه السلام، وكيف كان إمام المستسلمين لأمر الله، (إذ قال له ربه
أسلم قال أسلمت لله رب العالمين)، وكيف أتمّ الكلمات التي ابتلاه الله بها، (وإذ
ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، وكيف سلّم أمره وابنه تمامًا لربّه تعالى،
(فلما أسلما وتله للجبين)، ثم جاهَدَ في الله حق جهاده في الدعوة والجهاد باللسان
والحجة واليد – بكسر الأصنام – والصبر العظيم والرضا العجيب والحمد الكبير لربه
حينما كان يُبتلى فيه بحرقه في النار وبالأذى فيرضى ويسلّم، ويجاهد لوحده أمّة
كافرة جائرة لوجه ربه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة
قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة
إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين). قال الإمام المجدد رحمنا الله وإيّاه في
الكلام على هذه الآية الكريمة: (إن إبراهيم كان أمّة): "لئلّا يستوحش سالكُ
الطريق من قلّة السالكين، (قانتا لله)، لا للملوك ولا للتّجار المُترفين،
(حنيفًا)، لا يميل يمينًا ولا شمالًا كفعل العلماء المفتونين، (ولم يك من
المشركين)، خلافًا لمن كثّر سوادهم وزعم أنّه من المسلمين". (1)
عباد الله؛ وإن من سادة الراضين بالله
تعالى الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما، المبرأةُ من فوق سبع سماوات، التي
جعلها الله فرقانًا بين أهل الإيمان والإحسان والسنّة وأهل النفاق والرفض والبدعة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن تأمل قول الصديقة وقد نزلت براءتها فقال
لها أبواها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لا أقوم إليه
ولا أحمد إلا الله؛ عَلِمَ معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها، وإفراده
بالحمد في ذلك المقام، وتجريدها التوحيد، وقوّة جأشها، وإدلالها ببراءة ساحتها،
وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له، وثقتها بمحبة
رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. قالت ما قالت إدلالًا للحبيب على حبيبه، ولا
سيّما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال، فوضعته موضعه. ولله ما كان
أحبّها إليه (2) حين قالت: "لا أحمدُ إلا الله، فإنه هو الذي أنزل
براءتي". ولله ذلك الثبات والرزانة منها، وهو أحبّ شيء إليها، ولا صبر لها
عنه، وقد تنكّر قلب حبيبها لها شهرًا، ثم صادفت الرضا وقربه، مع شدة محبتها له،
وهذا غاية الثبات والقوة". (3)
معشر الراضين بالله تعالى؛ إن الرضا
بالله تعالى قد اختلط بأرواح الصحابة رجالًا ونساءً، وكل مصاب بين أعينهم يصغر
إزاء مصيبة الدين بفقد الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله
عنه قال: «مرَّ رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار، وقد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها
(4) مع رسول الله ﷺ بأحد، فلما نُعُوا لها، قالت: فما فعل رسول الله ﷺ؟ قالوا:
خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟، قال:
فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة». (5)
ومن جميل الأخبار لأهل الرضا واليقين
خبر جابر وأبيه وزوجه رضي الله عنهم، فقد روى الإمام أحمد بسنده في مسنده (6) عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
المدينة إلى المشركين ليقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر، لا عليك أن تكون
في نَظَّارِي (7) أهلِ المدينة، حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني
أترك بنات لي بعدي، لأحببت أن تقتل بين يديّ (8). قال: فبينما أنا في النظّارين
إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي، عادِلَتَهُما على ناضح (9)، فدخلَتْ بهما المدينة
لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: "ألا إنّ النبي صلى الله عليه وسلم
يأمركم أن ترجعوا بالقتلى، فتدفنوها في مصارعها حيث قُتلت"، فرجعنا بهما
فدفنّاهما حيث قُتلا، فبينما أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ جاءني رجل
فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباكَ عُمّالُ معاوية (10)، فبدا فخرج
طائفةٌ منه، فأتيتُه فوجدته على النحو الذي دفنته، لم يتغيّر إلا ما لم يدع القتل،
(11) فواريتُه. (12) قال: وترك عليه دينًا من التمر، فاشتدّ عليّ بعض غرمائه في
التقاضي، فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله، إن أبي أصيب يوم
كذا وكذا، وترك عليه دينًا من التمر، وقد اشتدّ عليّ بعض غرمائه في التقاضي،
فأحبُّ أن تعينني عليه لعلّه أن يُنظرني طائفةً من تمره إلى هذا الصِّرام المقبل
(13)، فقال: "نعم، آتيك إن شاء الله قريبًا من وسط النهار"، وجاء معه
حوارِيُّوه (14)، ثم استأذن، فدخل وقد قلت لامرأتي: إن النبي صلى الله عليه وسلم
جاءني اليوم وسط النهار، فلا أرينّك، ولا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيتي بشيء، ولا تكلّميه، فدخل ففرشت له فراشًا ووسادة، فوضع رأسه فنام، قال: وقلت
لمولى لي: اذبح هذه العَنَاق (15)، وهي داجن سمينة، والوَحَا (16) والعَجَل،
افرغ منها قبل أن يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معك، فلم نزل فيها
حتى فرغنا منها، وهو نائم، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ
يدعو بالطَّهور (17)، وإني أخاف إذا فرغ أن يقوم، فلا يفرغنّ من وضوئه حتى تضع
العَناق بين يديه، فلما قام قال: "يا جابر، ائتني بطَهور"، فلم يفرغ من
طهوره حتى وضعت العَناق عنده، فنظر إلي فقال: "كأنك قد علمت حبّنا للّحم، ادع
لي أبا بكر"، قال: ثم دعا حوارييه الذين معه فدخلوا، فضرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم بيديه وقال: "بسم الله، كلوا"، فأكلوا حتى شبعوا، وفَضلَ لحم
منها كثير قال: والله إن مجلس بني سَلِمَة (18)، لَيَنظرون إليه، وهو أحبّ إليهم
من أعينهم (19)، ما يقربه رجل منهم مخافة أن يؤذوه، فلما فرغوا قام، وقام أصحابه
فخرجوا بين يديه، وكان يقول: "خلّوا ظهري للملائكة" (20)، واتبعتهم حتى
بلغوا أُسْكُفَّةَ الباب (21)، قال: وأخرجت امرأتي صدرها (أي: تقدمت قليلًا للنبي
صلى الله عليه وسلم لتُسمِعه كلامها.)، وكانت مستترة بسَفِيفٍ (22) في البيت،
قالت: يا رسول الله صلِّ عليَّ وعلى زوجي (23) صلّى الله عليك. فقال: "صلّى
الله عليك وعلى زوجك".
ثم قال: "ادع لي فلانًا" لغريمي الذي
اشتدّ علي في الطلب، قال: فجاء فقال: "أَيْسِرْ جابر بن عبد الله (24)
طائفةً من دَينك الذي على أبيه إلى هذا الصِّرَام المقبل"، قال: ما أنا
بفاعل، واعتلَّ (25) وقال: إنما هو مال يتامى، فقال: "أين جابر"؟ فقال:
أنا ذا يا رسول الله، قال: "كِلْ له، فإنّ الله سوف يُوفِّيه"، فنظرتُ
إلى السماء، فإذا الشمس قد دَلَكَت (26)، قال: "الصلاة يا أبا بكر"،
فاندفعوا إلى المسجد فقلت: قرّب أوعيتَك، فكِلتُ له من العَجوة فوفّاه الله، وفَضل
لنا من التمر كذا وكذا، فجئتُ أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده،
كأني شرارة (27). فوجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلّى (28)، فقلت: يا رسول الله ألم تر أني كلت لغريمي
تمره، فوفّاه الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا، فقال: "أين عمر بن
الخطاب؟" فجاء يهرول، فقال: "سل جابر بن عبد الله عن غريمه،
وتمرَه" فقال: ما أنا بسائله قد علمتُ أن الله سوف يوفّيه، إذ أخبرتَ أنّ
الله سوف يوفّيه، (29) فكرر عليه هذه الكلمة ثلاث مرات، كل ذلك يقول: "ما
أنا بسائله، وكان لا يُراجع بعد المرة الثالثة (30)، فقال (31): يا جابر؛ ما فعل
غريمُك وتمرُك؟ قال: قلت: وفّاه الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا. فرجع إلى
امرأته، فقال: ألم أكن نهيتك أن تكلّمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أكنتَ
تظنُّ أنّ الله يوردُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيتي، ثم يخرج، ولا أسأله
الصلاة عليّ وعلى زوجي قبل أن يخرج (32).
بارك
الله لي ولكم..
...........
الخطبة
الثانية
الحمد
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا
لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله
عباد الله، واعلموا أن أخبار السلف لتشرح الصدور وتعمر
القلوب ونزهد في الدنيا الفانية، ومن ذلك ما جاء عن نافع قال: اشتكى ابن لعبد الله
بن عمر رضي الله عنه، فاشتدّ وجْدُهُ عليه (33)، حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على
هذا الشيخ أن يَحدث بهذا الغلام حَدَث، فمات الغلام. فخرج ابن عمر في جنازته، وما
رجل أشدّ سرورًا منه، فقيل له في ذلك، فقال ابن عمر: إنما كان رحمةً له، فلما وقع
أمر الله رضينا به. (34)
أما خبر عروة بن الزبير رحمه الله عجيب
في شأن الرضا بالله تعالى، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قد ذكر غير واحد
أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجّهًا إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت
الآكلة (35) في رجله في واد قرب المدينة، وكان مبدؤها هناك، فظنّ أنها لا يكون
منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلّا وهي قد أكلت نصف ساقه! فدخل
على الوليد، فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت
رجله كلها إلى وركه، وربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته. فطابَتْ نفسُه بنشرِها.
وقالوا له: ألا نَسقيك مُرَقِّدًا حتى
يذهب عقلك منه؛ فلا تُحس بألم النشر؟ فقال: لا والله ما كنت أظنّ أن أحدًا يشرب
شرابًا أو يأكل شيئًا يُذهِب عقله! ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في
الصلاة، فإني لا أحسّ بذلك، ولا أشعر به. (36) قال: فنشروا رجله من فوق الآكلة،
من المكان الحيّ؛ احتياطًا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تضوّرَ ولا
اختلَج، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله. فقال: اللهم لك الحمد، كان
لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا، فلئن كنتَ قد أخذتَ فقد أبقيت، و إن كنت قد أبليت
فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، وعلى ما عافيت.
قال: وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه
محمد، و كان أحبّهم إليه، فدخل دار الدوابّ فرفسته فرس فمات، فأتوه فعزَّوه فيه،
فقال: الحمد لله، كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيت ستةً، فلئن كنت قد ابتليت
فلطالما عافيت، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت.
فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة. قال:
فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى، فلما كان
في المكان الذي أصابته الآكلة فيه قال: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا
نَصَباً } [ الكهف : 62 ]، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه، و يُعزُّونه
في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه. فأنشد
عروة في ذلك أبياتًا لمعن بن أوس يقول فيها:
لعمرُك ما أهويتُ كفِّي لريبةٍ *** و
لا حَمَلتني نحو فاحشةٍ رجلِي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** ولا
دلّني رأيي عليها ولا عقلي
ولستُ بماشٍ ما حييتُ لمنكَرٍ *** من
الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثرٌ نفسي على ذي قرابة *** وأوثر
ضيفي ما أقامَ على أهلي
وأعلم أنّي لم تصبني مصيبةٌ *** من
الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي" (37)
وعن مغيرة قال: اشتكى ابن أخي الأحنف
إلى الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى وجَع ضرسه، فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ
أربعين سنة ما ذكرتُها لأحد (38). وهذا الصنيع العزيز بالكفّ عن الشكوى لغير الله
تعالى هو امتثالٌ لقوله تعالى في شأن يعقوب عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى
الله).
ولله هذه العائلة المُعاذيّة الطّيّبة، فعن شهر
بن حوشب رحمه الله تعالى قال: طُعن عبد الرحمن بن معاذ بن جبل رضي الله عنه (39)،
فدخل عليه أبوه فقال له: كيف تجدك أي بني؟ قال له: يا أبت: ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [البقرة ١٤٧] فقال له معاذ: ﴿سَتَجِدُنِي إن شاء
الله مِنَ الصّابِرِينَ﴾ [الصافات ١٠٢]. (40)
وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: عاد
نفرٌ من الصدر الأول رجلًا، فوجدوه في الموت، فقال له بعض القوم: ما عندك في مصرعك
هذا؟ قال: "الرضا". (41) وكفى به للمؤمنين من العاديات ملاذًا.
اللهم
صل وسلم وبارك على محمد وآله...
......................
1. تيسير
العزيز الحميد (1 / 78)
2. أي: إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
3. زاد المعاد (3/ 231)
4. أي: قتلوا جميعًا.
5. سيرة ابن هشام (٢/ ٩٩)
والدلائل للبيهقي (٣/ ٣٠٢)
6. المسند (15281) وقال محققوه:
إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نبيح العنزي، فقد روى له أصحاب السنن،
وهو ثقة.
7. قال السندي: قوله:
"نَظَّاري أهل المدينة" بفتح نون وتشديد ظاء، أي: في جملة النظّارين
لعاقبة الأمر من أهل المدينة.
8. أي: ليس المقصود الضَّنُّ
بك، وإنما المقصود الشفقة على البنات، بأن تكون لهن بعدِي بعدَ الله تعالى.
9. أي: جعلت كل واحد منهما في
جهة من البعير. وفيه صبر نساء الصحابة ورضاهن بالقضاء، وقوة شكيمتهن عند مرارات
البلاء.
10. أي: خرجت جثة والدك جرّاء
عملهم حين أجرى معاوية رضي الله عنه العين لأهل المدينة.
11. أي: إلا ما غيّره القتل.
12. أي: دفنته في قبره. وروى
البيهقي عن جابر أيضًا، أنه قال: لمّا أجرى معاوية العين عند قتلى أُحُد بعد
أربعين سنة، استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة بن
عبد المطلب فانبعث دمًا"، وفي رواية ابن إسحاق: "فأخرجناهم كأنّما دفنوا
بالأمس". وفي رواية الواقدي عن جابر أيضًا: "فحفرنا عنهم فوجدتُ أبي في
قبره كأنما هو نائم على هيئته، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه،
فأُزيلت عنه فانبعث جرحُه دمًا"!
13. أي: يؤخر مطالبتها إلى جذاذ
التمر في السنة الآتية.
14. أي: خاصةُ أصحابِه
وأحِبَّائه.
15. وهي أنثى المعزى الصغيرة، وتسمى:
الجفرة.
16. الوحا: من ألفاظ الحثّ والأمر
بالعجلة والإسراع. يُمدّ ويقصر، وهو دومًا منصوب على الإغراء.
17. عرفوا عاداته وصفاته وسنّته لمّا
اشتدّ حبهم له واتّباعهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
18. أي: قبيلته الأدنون منه في
مجلسهم وناديهم.
19. أي: من قلّة اللحم حينها.
20. أي: تتبعه ملائكة الرحمن بأمر
الله تعالى فتحفّه وتشيّعه وتحرسه.
21. أي: عتبة الباب التي يُوطأُ عليها والجمع: أُسْكُفّاتٌ.
22. السَّفِيف: ما يُنسج من الخوص.
23. الصلاة من الله تعالى الثناء،
ومن عباده الدعاء، وفيه جواز الصلاة على الشخص بقول: صلى الله عليك، ولكن بلا
مداومة، إنما المداومة والالتزام تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
24. أي: أنظره إلى وقت الصرام المقبل.
25. أي: تعلّل بحجة أن المال مال
أيتام.
26. أي: زالت، وقت صلاة الظهر، وفي
التنزيل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس).
27. أي: من الإسراع والفرح بقضاء
دينه، وبإجراء دليل النبوّة على يديه، فقد كان ميزانه يرجح بخرق العادة له ببركة
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
28. لأن منازل بني سلِمة بعيدة عن
مسجده صلى الله عليه وسلم، فهم يصلّون في مسجدهم، ولما أرادوا القرب منه بالمنازل
أمرهم بالبقاء في منازلهم حمايةً لثغر المدينة. فعند مسلم (664) من حديث جابر قال:
أراد بنو سلِمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال لهم: "إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد"؟ فقالوا:
نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: "بني سلِمة، ديارَكُمْ، تُكتب آثارُكم،
ديارَكم تكتب آثاركم". أي: الزموا دياركم لتكتب خطواتكم إلى المسجد.
29. ليقينه بالصادقِ في حاله
ومنطوقه، المصدوقِ من ربِّه وخليلِه صلى الله عليه وآله وسلم وبارك.
30. أي: رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
31. أي: عمر رضي الله عنه.
32. وهذا من محبّتها له صلى الله
عليه وسلم، وتبرّكها باتّباعه ودعائه لهما رضي الله عنهما، واغتنامها فرصة خلوّه
صلى الله عليه وسلم لهما عن سائر الناس، ونصحها لزوجها بسؤاله صلى الله عليه وسلم
الدعاء له ولها.
33. أي: عظم خوفه وشفقته من شدّة محبته
له.
34. موسوعة ابن أبي الدنيا (١/ ٤٥٧)
35. وهي ما تسمى اليوم بالغرغرينا،
وهي موت أنسجة الجسم، إما لنقص تدفق الدم إليها، وإما لإصابتها بعدوى بكتيرية
خطيرة. وتصيب الغرغرينا عادةً الأطراف بما فيها أصابع القدمين وأصابع اليدين،
ولكنها قد تصيب أيضًا العضلات والأعضاء الداخلية مثل المرارة.
36. لاستغراقه في مناجاة ربه تبارك
وتعالى. "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ صلّى". رواه
أبو داود، (1321) وصححه الألباني.
37. البداية والنهاية (9 / 120 ،
121)
38. صفة الصفوة (٣/ ١٤٠)
39. أي: أصيب بمرض الطاعون.
40. موسوعة ابن أبي الدنيا (٥/ ٣٤١)
41. عن: حياة السلف بين القول
والعمل، أحمد الطيار (١/٤٦٠)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق