هل
تمنّي الموت من رُخَصِ الفتن؟
الحمد لله أبدعَ ما أوجدَ، وأتقنَ ما صنَعَ،
وكلُّ شيءٍ لجبروته ذلَّ ولعظمته خضَعَ، سبحانه وبحمده في رحمته الرجاء، وفي عفوِه
الطمعُ، وأُثنِي عليه وأشكُره؛ فكم من خيرٍ أفاضَ ومكروهٍ دفَع، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له تعالى في مجده وتقدَّس وفي خلقِه تفرَّد وأبدَع، وأشهد
أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع،
صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضلِ والتّقَى والورَع،
والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ولنهجِ الحق لزِم واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأُوصيكم - أيها الناس -
ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالحياة يعقُبُها الممات،
والأترابُ يُسلِمون للتراب، سبقَ القومُ بكثرة الصلاة والصوم، هجَروا لَذيذَ
المنام، وغايتُهم دارُ السلام، فالجِدَّ الجِدَّ - رحمكم الله - من أجل أن
تغنَموا، والبِدارَ البِدَارَ من قبل أن تندَموا، واطرُقوا في الدُّجَى بابَ
الرجاء، الموتُ بابٌ مورود، والأجلُ غيرُ مردود، ﴿ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ
مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [هود: 103- 105].
أيها المسلمون: يسأل كثير من الناس عند
كثرة الفتن سؤالًا يدل على حرصهم على لقاء ربهم تبارك وتعالى وهم أنقياء أتقياء
معافون، فيقول القائل منهم: هل
تمنّي الموت من رُخَصِ الفتن؟
والجواب: أن الأصل للمؤمن تمني بقاءه
في الحياة ليعبد ربه ويستكثر من خيره، فكل يوم يمر عليه يزيد فضله وأجره وذخره إلى
منقلبه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم من طال عمره وحسن عمله"، بيد
أنه يرخّص في الفتن ما لا يُرخص في غيرها، وذلك لأن الفتن سبب في اختلال الأمور،
وانقلاب القلوب، واختلال الأديان إلا من عصم الله تعالى بحياة صالحة رشيدة أو موت
مُسلّمٍ مُذهِب، فقد روى الترمذي (٣٢٣٣) وصححه الألباني من حديث ابن عباس رضي
الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث اختصام الملأ
الأعلى: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني
إليك غير مفتون ..» الحديث، وقد حمل الإمام مالك دعاء عمر رضي الله
عنه:
"اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط" الذي رواه عنه في موطئه فقال كما في الجامع
لابن أبي زيد القيرواني (١٨٢): "ولا أرى عمر دعا على نفسه بالشهادة إلا أنه
خاف التحوّل من الفتن، وقد كان يحب البقاء في الدنيا"، وكان من دعائه رضي
الله عنه في آخر عمره: «اللَّهمَّ ارزقني شهادة في سَبِيلك، واجعل موتي في بَلدِ
رسولك. قالت حفصة: فقلت: أنّى يكون هذا؟ قال: يأْتِيني به اللهُ إذا شاء»، البخاري
(١٨٩٠). وقد استجاب الله دعاءه.
وعليه؛ فلا يُشرع تمنّي الموت عند
الضرر إلا إن خاف المؤمن على دينه، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ أصابه، فإن كان لا بد
فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة
خيرًا لي". رواه البخاري 7/156 ( 5671 ) ومسلم 8/64 ( 2680 ) ( 10 )
وروى مسلم (4 / 2064) (2681) عن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خبّاب رضي الله
عنه وقد أكتوى سبع كيّات في بطنه، فقال: لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به. وروى أيضًا (4 / 2065) (2682) عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم
الموت، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه، إنّه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد
المؤمن عمره إلا خيرًا". وروى أحمد (7578) بسند صحيح عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّينّ
أحدكم الموت، إما محسن، فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيء لعله يستعتب". وقد
تمنّاه بعض الصحابة خوفًا على دينهم، فعند أحمد (16040) وصححه محققو المسند
والألباني في الصحيحة (٢/ ٦٧٢/ ٩٧٩) عن عُلَيمٍ، قال: كنا جلوسًا على سطح معنا رجل
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال يزيد: لا أعلمه إلا عبسًا الغفاري، والناس
يخرجون في الطاعون، فقال عبس: يا طاعون خذني، ثلاثًا يقولها، فقال له عليم: لم
تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم
الموت، فإنه عند انقطاع عمله، ولا يردّ فيستعتب" فقال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بادروا بالموت ستًّا: إمرة
السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا
يتّخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنّيهم، وإن كان أقلّ منهم فقهًا". وقد
تمنّى سيّد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه الموت ودعا لنفسه به بشرطه، - وقد يكون
قد نوى الدعاء بالشهادة لأنّ إصابته كانت في المعركة- فقد روى البخاري (4117)
ومسلم (1769) عن عائشة رضي الله عنها أن سعدًا أصيب يوم الخندق في أكحله – وهو عرق
في وسط الذراع يكثر فصدُه- فحسمه – أي قطع سيلانه بكيِّهِ - رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم بيده بمشقص، وضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب.. الحديث، وفيه: أن
سعدًا قال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذّبوا
رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من
حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها، واجعل موتي
فيها، فانفجرت من لُبَّتِه – وفي لفظ: من ليلته -، فلم يرعهم - وفي المسجد خيمة من
بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من
قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جُرحه دمًا، فمات منها». وعليه؛ فمن خاف حياته على دينه
رُخِّص له في تمنّي العافية بالموت غير مفتون. والله المستعان وعليه التكلان ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي
ولكم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق