(وعسى أن تكرهوا شيئًا
وهو خير لكم)
الحمد لله خلق الخلق وبالعدل حكم,
مرتجى العفو ومألوهُ الأمم, كل شيء شاءه رب الورى, نافذ الأمر به جف القلم, لك
الحمد ربي, من ذا الذي يستحق الحمد إن طرقت طوارق الخير, تبدي صنع خافيه, إليك يا
رب كل الكون خاشعة, ترجو نوالك فيضا من يدانيه, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا
شريك له , أسلم له من في السماوات والأرض طوعا وكَرْها وإليه يرجعون , وأشهد أن
محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واستمسكوا بدينه، واعلموا أن المؤمنَ راضٍ مسلّم لأمر ربه تعالى
ليقينه بعلمه محكمته ولطفه ورفقه ورحمته، وأن ما يختاره مولاه له خير مما يختاره
هو لنفسه، فهو أرحم به من نفسه ومن والديه له، فهو راض سعيد بتدبير ربه واختياره
مهما كان حاله الظاهر بائسًا، فاختيار الله تعالى لعبده خير من اختيار العبد
لنفسه، فهو أعلم وأرحم وأحكم وألطف وأرفق به من نفسه، فعلام يتبرّم العبد بفعل
مولاه.
وتدبر
مرارًا قوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر
لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، ولاحظ كيف وصف الله تعالى الأمرَ الذي كرهته بعض
النفوس بالخير لها وهي لا تعلم، وكيف وصف الأمر الذي أحبته بالشر لها، فلم يذكر أن
غيره خير منه ونحو ذلك، بل وصفه بالشرّ، مع أنها – لجهلها بالعاقبه – تُحبّه!
فإنها لجهلها تحب ما فيه حتفها وهلاكها وتكره ما فيه نجاتها وفلاحها. ثم قف كثيرًا
عند خاتمة الآية وسلّم لربك كلَّ أمرك (والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، فعِلْمُ الله
كامل تامّ مستغرق لكل أمرك ماضيه وحاضره ومستقبله، ومحيط بكل تفاصيله، ويعلم كل ما
يكتنف أمرك من أمور أخرى تغيّر حقيقته أو مساره، ففوّض أمرك إليه، وسلّمه له، وارض
به كل الرضا، واعلم أنه لا يخيب مع ربه من هذا دِينُ قلبِه.
وَرُبَّ باكٍ
فَواتَ حاجَتِه ... وَفي الفَواتِ النَجاةُ مِن عَطَبِه
ومن
عرف حقيقة الدنيا والآخرة هانت نفسه لله تعالى، وقرّت عينه به، واكتفى به عمّا
سواه، ولم يلتفت لِما فاته من حطام الدنيا ما دام دينُه مُعافى، فعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية. فما أستطيع أن أسأله
هيبة له.. الحديث وفيه: فقلت (1): يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت
رسول الله، فقال: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟». (2)
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد
التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض، فإن
دعا وسأل بلوغ غرض؛ تعبّدَ الله بالدعاء، فإن أُعطي مراده شكر، وإن لم ينل مراده
فلا ينبغي أن يلحّ في الطلب؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: (
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )، ومن أعظم الجهل أن يمتعض
في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر،
ودعائي لم يستجب. وهذا كله دليل على جهله وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة.
عباد
الرحمن؛ من الذي حصل له غرض ثم لم يُكدّر؟! هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأخرج
منها، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسماعيل بالذبح (3)
ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة،
وجميع الأنبياء على هذا. وأما ما لقي نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع
والأذى وكدر العيش فمعلوم، فالدنيا وضعت للبلاء، فينبغي للعاقل أن يوطّن نفسه على
الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلُطْفٌ، (4) وما لم يحصل فعلى أصل الخلق
والجبلّة للدنيا، كما قيل:
طُبِعتْ على كدرٍ وأنت تريدُها ... صفوًا من الأقذاءِ
والأكدَارِ" (5)
وقال
ابن القيم رحمه الله في الآية: (وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون): "في هذه الآية عدة حكم وأسرار
ومصالح للعبد، فان العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي
بالمكروه؛ لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من
جانب المضرة؛ لعدم علمه بالعواقب. فان الله يعلم منها مالا يعلمه العبد. وأوجب له
ذلك أمورًا منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شقّ عليه في الابتداء، لأن
عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خير لها وأنفع. وكذلك
لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى وإن هويته نفسه ومالت إليه، وأنّ عواقبه كلها
آلام وأحزان وشرور ومصائب.
وخاصَّةُ
العقلِ تحمّل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة والخير الكثير، واجتناب
اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل، فنظرُ الجاهل لا يجاوز
المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيّس دائمًا ينظر إلى الغايات من وراء ستور
مبادئها، فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي
كطعام لذيذ قد خُلِطَ فيه سمّ قاتل، فكلّما دعته لذته إلى تناوله نهاه ما فيه من
السمّ، ويرى الأوامر كدواء كريه المذاق مُفضٍ إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه
كراهة مذاقه عن تناوله أمَرَهُ نفعُه بالتناول. ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم تدرك
به الغايات من مبادئها، وقوة صبر يوطّن به نفسه على تحمل مشقة الطريق لما يؤول
إليه عند الغاية. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك، وإذا قوي يقينه وصبره هان
عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة.
ومن
أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا
بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.
ومنها:
أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه ولا يسأله ما ليس له به علم، (6) فلعل مضرته
وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئًا، بل يسأله حسن الاختيار له، وأن
يرضيه بما يختاره، فلا أنفع له من ذلك.
ومنها:
أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمدّه فيما يختاره له بالقوة عليه
والعزيمة والصبر، وصرَف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن
عواقب اختياره له ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه. (7)
ومنها:
أنه يريحه من الأفكار المُتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرّغ قلبه من التقديرات
والتدبيرات التي يصعد منها في عَقَبَة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما
قدّر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا
جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اختياره لنفسه. ومتى صح
تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به، فيصير بين عطفه (8) ولطفه،
فعطفه يقيه ما يحذره ولطفه يهوّن عليه ما قدّره. وإذا نفذ القدر في العبد كان من
أعظم أسباب نفوذه تحيّله في رده، فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي
ربّه". (10)
وتأمل
دعاء الاستخارة تجد فيه راحة الصدر وقرة العين ورسوخ الثقة وثلج اليقين، فعن جابر
بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّم أصحابه
الاستخارة في الأمور كلها كما يعلّم السورة من القرآن، يقول: «إذا همّ
أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك،
وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم،
وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر- ثم يسميه بعينه- خيرًا لي في
عاجل أمري وآجله- أو قال: - في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- فاقدُره لي، ويسّره لي،
ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو
قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم
رَضّني به». (10)
بارك
الله لي ولكم..
................
الحمد
لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا
لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله
عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن من
الرضا والتفويض الإكثار من الحوقلة ومن ما شاء الله، لأن التوكل موصل للرضا. ومن
أدامهما كُوفئ بنخلِ الجنة وقوّةِ الدنيا. قال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله:
"قول ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلا بالله. قالها الإمام مالك لمن سأله
كيف حصلت هذا العلم؟ وهذا الدعاء فيه شبه إجماع من أهل العلم أن من افتتح به
الدرس يُفتح عليه". (11) ومن صيد خواطر ابن الجوزي رحمه الله أنه قد عقد
فصلًا سمّاه: الندم على ما فات، قال فيه: "تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم - في
الأغلب - قد بُخسوا من حظوظ الدنيا، ورأيت الدنيا - غالبًا - في أيدي أهل النقائص.
فنظرت
في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص، وربما تقطع بعضهم
أسفًا على ذلك. فخاطبت بعض المتأسفين فقلت له: ويحك تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه:
أحدها: أنه
إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها تربح التأسّف على فوتها، فإن قعودك
متأسفًا على ما ناله غيرك، مع قصور اجتهادك غاية العجز.
والثاني: أن
الدنيا إنما تُراد لتُعبَر لا لتُعمَر، وهذا هو الذي يدلك عليه علمك ويبلغه فهمك.
وما يناله أهل النقص من فضولها يؤذي أبدانهم وأديانهم. فإذا عرفت ذلك ثم تأسفت على
فقدِ ما فقدُه أصلحُ لك، وكان تأسُّفُك عقوبةً لتأسّفِكَ على ما تعلم المصلحة في
بُعْدِه، فاقنع بذلك عذابًا عاجلًا، إن سلمت من العذاب الآجل.
والثالث: أنك
قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة من مطاعم الدنيا ولذاتها، بالإضافة إلى الحيوان
البهيم، لأنه ينال ذلك أكثر مقدارًا مع أمن، وأنت تناله مع خوف وقلة مقدار. فإذا
ضوعف حظك من ذلك كان ذلك لاحقًا بالحيوان البهيم من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل
الفضائل. (12) وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب. فإذا آثرت - مع قلة الفضول
- الفضول، عدت على ما علمت بالإزراء، فشُتّت علمك، ودُللت على اختلاط رأيك".
(13)
فَلا تَجزَع وَإِن أَعسَرتَ يَومًا ... فَقَد
أَيسَرتَ في الزَمَنِ الطَويلِ
وَلا تَيأَس فَإِنَّ اليَأسَ كُفرٌ ... لَعَلَّ
اللَهَ يُغني عَن قَليلِ
وَلا تَظنُن بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوءٍ ... فَإِنَّ اللَهَ
أَولى بِالجَميلِ
اللهم
صل على محمد...
.....................
1.
القائل هنا هو عمر رضي الله عنه.
2.
البخاري، الفتح 8 (4913) واللفظ له، مسلم (1479)
3.
ذكر المؤلف رحمه الله إسحاق، والصواب وعليه الأكثرون أن الذبيح هو إسماعيل
عليه السلام، وآيات الكتاب بهذا شاهدة.
4. أي
أن العبد إذا أعطاه الله مراده فإن هذا على خلاف سنّة الدنيا المُكَدّرة، إنما هو
محض كرم الله تعالى ولطفه به.
5. صيد
الخاطر (399)
6. ولا
يمنع هذا من دعاء ربه ما فيه صلاحه وقيامه من جلب الخير الخاص ودفع ضده، فالعبد
على الدوام يسأل ربه كل حاجته، فما هو إلا به، وأنّا له إلّا عليه، قال سبحانه:
(وقال ربكم ادعوني استجب لكم).
7. وتظهر
هذه المعاني الجميلة في دعاء الاستخارة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعلمه أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن.
8. العطف
هنا هو الرحمة والحنان.
9. الفوائد
(1 / 136- 138) مختصرًا.
10. البخاري،
الفتح 13 (7390)
11. المجموع
(ص: ٤٨٢)
12. أي
لا يكن حظك كحظ الحيوان الذي غاية همته طعامه ولذته، لأنك إن زدت في همتك لتحصيل
ما حصّله كنت شبيهًا له فيما يُحصّله وفيما حُرِمَ منه من فضائل الدين والعقل،
وحُرمْتَ لذلك ما أُعطيه أهلُ الفضائل مع نقص لذائذ دنياهم الحسية.
13. صيد
الخاطر (1 / 5)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق