علوُّ الهِمَّة بالرّضا بأقدار الله تعالى
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره
تقديرا، ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان بهم لطيفا خبيرا، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة وبشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا
منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم
تسليما كثيرا، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه تفلحوا وتسعدوا.
عباد
الرحمن؛ فقد يبدو لغير المتأمل أن الرضا بأقدار الله تعالى يضاد علوّ الهمة، والحق
أنه لا تعارض بينهما البتة، ذلك أن الرضا لا يمنع العمل في جلب مصالح العبد في
دينه ودنياه، والرضا يحوط زمن العمل من جهاته الثلاث؛ قبله وأثناءه وبعده: فيكون
الرضا سابقًا له بتوطين النفس عليه أوّلًا، ويكون مصاحبًا له باستشعاره في تفاصيل
العمل ثانيًا، ثم باستقرار وسكون القلب على ما بعده ثالثًا، فيكون العبد الموفق قد
ركب سفينة الرضا في كل مرحلة.
فالرضا
لا يعني ترك المنافسة في خيرات الآخرة وخيرات الدنيا، فالرضا بالله لا يمنع التاجر
ولا الفلاح ولا الموظف ونحوهم من الازدياد من توسيع معاشهم شريطة ألا يسخطوا تدبير
الله تعالى لهم، قال سبحانه: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، وقال سبحانه:
(ولا تنس نصيبك من الدنيا). فالله تعالى قد جعل الدنيا وسيلة لتحقيق رغائب الآخرة،
والموفق من لم يركن إليها، إنما يجعلها وسيلة ومعبرًا لتحصيل رضا ربه والدرجات
العلى من الجنة.
وقد
تعلو همّة الراضي بربه حتى يكتفي بأمور الآخرة عن فضول دنياه، ويكتفي من الدنيا
ببلغة تعينه على الطاعة، فيضع الدنيا حيث وضعها الله تعالى، ويرفع الآخرة حيث
رفعها سبحانه. فمُحَرِّك الزهد في الدنيا هو تمام الرضا بالله، فإن العبد لما
اكتمل رضاه بربه اكتفى به عما سواه. ومن هنا كان الرضا بالله أعظم سبب في رفع
الهمّة الصحيحة حقًّا، فالولوغ في السفساف ليس من الهمة في شيء، والتخوّض في
المعاصي ليس منها، إذ حقيقة الهمة: السعي لتحصيل معالي الأمور. ووظيفة الرضا هنا:
تصويب مسار البصيرة، ورفع سقف الرغبة.
وبما
أن الهمّة مشتقة من الهمّ – وفيه من الإزعاج والمشقّة والثّقل ما فيه- فإنّ الرضا
هو العقار المريح لقلق الترقّب، فالقلب والجوارح تعملان بجدٍّ لتحصيل معالي
الأمور، والمنافسة على منازل الجنة العالية، والمسابقة لرضوان الله تعالى، والقلب
مطمئن بربه راضٍ تمام الرضا بتقديره، لعلمه أن ما يختاره ربه له خير مما يختاره
لنفسه، لأنه قد بذل وسعه في مرضاته ورضي به وعنه.
كَريمٌ لا يُغَيِّرُهُ صَباحٌ ... عَنِ
الخُلُقِ السَنِيِّ وَلا مَساءُ
"واعلم
أنّ العباد إنما تفاوتوا وتباينوا، فباختيارهم نظر الله تعالى على اختيار أنفسهم
زادهم ذلك سرعة وقربًا من معونة الله تعالى له وصنعه وتسهيله عليهم، وبالسهو عنه
واختيارهم أنفسهم على نظر الله تعالى زادهم ذلك بطئًا وبعدًا من معونة الله تعالى
لهم وصنعه وتسهيله عليهم، فكن في نظرك إلى ربك ناظرًا بأن لا ترجو غير معونته،
واثقًا باختياره، فإن ذلك أقرب وأسرع في معونته لك.
فإن
المؤمنين الراضين بربهم قد توكلوا عليه ووثقوا به ولجأوا إليه قد أماتوا من قلوبهم
تدبير أنفسهم وجعلوا الأمور عندهم أسبابًا مع قيامهم بها والمحافظة عليها، فأولئك
ذهبوا بصفو الدنيا والآخرة لسكون قلوبهم إليه، فوجدوا بذلك الرَّوحَ والراحة، فهم
حماة الدين والعلماء بالله قد فاقوا على من سواهم باطمئنانهم به وسكونهم إليه.
إن
قاموا عرفوا بين يدي من هم قيام له، وكذلك إن ركعوا أو سجدوا أو تلوا القرآن أو
دعوا ربهم، لا تعزب قلوبهم عن ذلك، فيه زكت أعمالهم وصوّبت عقولهم، فهو يتعاهدهم
بلطفه ويسُوسُهم بتوفيقه؛ فقلّ عند ذلك خطؤهم وكثر صوابهم، فمن كان يريد الدخول في
محبة طاعة الله فلا يكن له ثقة إلا الله، ولا غنًى إلا به، ولا أمل غيره، يرجوه
ويتخذه وكيلًا في أموره كلها، راضيًا بقضائه فيما نقله إليه من أموره، راضيًا
باختيار الله له، متهمًا رأيه ولِما تسوّل له نفسه، مسلّمًا راضيًا عن الله، غير
متجبر ولا متملك فيما أحدث الله من مرض أو صحة أو رخاء أو شدة مما أحب أو كره.
فإذا
كان العبد كذلك ورث قلبه المحبة له والشوق إليه، وصار إلى منزلة الرضا بما كفاه
وحماه من الدنيا وإن قل، وأخرج من قلبه مطامع المخلوقين، فاستغنى بالله فجعله الله
من أولي الألباب، ثم ألهمه مولاه علمًا من علمه فعرّفه ما لم يكن يعرفه، وعلّمه ما
لم يكن يعلم، فعن الله أخذ علمه وبأمر الله جلّ ذكره، تأدب فطهرت أخلاقه لمّا آثر
أمر الله ولجأ إليه، فتمت عليه نعمة الله في الدنيا والآخرة.
فأولئك
المحبوبون في أهل السماوات المعروفون فيها، خفي أمرهم على أهل الأرض وظهر أمرهم
لأهل السماوات، لكلامهم هناك دويٌّ، ولبكائهم حنين تقعقع له أبواب السماء من سرعة
فتحها إجابةً لدعائهم، فأعْظِمْ بهم ما عند الله جاهًا ومنزلة، وأعظم بهم خوفًا من
الله وحسن ظن به، فهم مسرورون بربهم قريرة أعينهم طَرِبَةً قلوبهم بذكره مشتاقة
ساكنة مطمئنة إليه، تقدموا الناس وانقطع الناس عنهم، وأشرفوا على الناس واشتغل
الناس عنهم، فعجبوا من الناس وعجب الناس منهم!
انقطعوا
إلى الله بهمومهم وتعلّقوا به، ولجئوا إلى الله لجأ المستغيثين به المتوكلين عليه،
فقبلهم واجتباهم ونعّمهم وخصّهم وكفاهم وآواهم وعلّمهم وأسمعهم وبصّرهم، وحجبهم عن
الآفات وحجب الآفات عنهم، وأقامهم مقام الطهارة، وأنزلهم منازل السلامة، وأقام
قلوبهم بذكره فلم يريدوا به بدلًا ولا عنه حولًا، صيانة لديه وطربًا واشتياقًا
إليه، قد أذاقهم من حلاوة ذكره. ليس لهم مسكن غيره، تضطرب قلوبهم عند البعد عن
ذكره حتى ترجع إلى موضع حنينها.
ولهم
في كل يوم وليلة منه هدايا مجددة، فتارة يغلب على قلوبهم تعظيم ربهم وجلاله، وتارة
يغلب على قلوبهم قدرته وسلطانه، وتارة يغلب على قلوبهم آلاؤه ونعماؤه، وتارة يغلب
على قلوبهم تقصيرهم عن واجب حقّه، وتارة يغلب على قلوبهم رأفته ورحمته. ولهم في كل
تارة دمعة ولذة، وفي كل دمعة ولذة فكرة وعِبرة، وقلوبهم مستقلة به عما سواه. فهم
يُسقون من كل تارة مشربًا سائغًا يذيقهم لذته، ولهم في كل مقامِ علمٍ زيادةٌ
يعرّفهم ما يحدث لهم في قلوبهم من الزيادة، فلو رأيتهم وقد انقطعت آمال الخلق
عنهم، وأفضوا إلى الله جل ذكره بجميع رغباتهم، وانزاحت الأشياء الشاغلة عن قلوبهم،
فصمّت عنها أسماعهم، وانصرفت أبصار قلوبهم إليه، حتى إذا جنّهم الليل وزجرهم
القرآن بعجائبه من وعده ووعيده وأخباره وأمثاله شربوا من كل نوع كأسًا من الزجر
والتحذير والأخبار والأمثال والوعد والوعيد، ووجدوا حلاوة ما شربوا. حتى إذا صفا
يقينهم ارتفعوا إلى عظمة سيدهم وجلال مولاهم، فخضع كل عضو منهم لله، وخشعت كل
جارحة منهم لسكونها إليه، غير منتشرة عليهم همومهم، بل كل ذلك لذاذة لاستماعه، فقد
كشف لهم القرآن عن أموره، وكشف لهم عن عجائبه فيفهمونه. يحبّون الله ويحبون ذكره،
أقاموا مشيئتهم فيما وافق محبة ربهم، يغضبون لغضبه، ويُحبون لمحبته.
خفّتْ
عليهم مؤنة الدنيا فلم ينافسوا فيها أحدًا، فتلك حالاتهم في المطعم والملبس ما
تهيأ أكلوه ولبسوه، ورثوا نور الهدى فأبصروا مواضع حيل إبليس ومكره، فكسروا عليه
كيده، ودلّوا الناس على مواضع مكره، فهم نصحاء الله في عباده، وأمناؤه في بلاده،
ثم أسكن محبتهم في ملكوت السموات في عليين، فأحبهم وحببهم إلى ملائكته". (1)
بارك
الله لي ولكم...
..................
الخطبة
الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على
توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه
ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وارضَوا
به ربًّا وإلهًا ومدبّرًا.
قال
بعض العلماء: "من أعظم ما مُدحت به الجنة قوله تعالى: ﴿خالدين فيها لا يبغون
عنها حولا﴾ لأن الإنسان لو هيأ قصرًا في الدنيا من ذهب؛ وجمع فيه كل ما يحبه ويملأ
عينه ويسر قلبه؛ وأقام في ذلك المكان بعينه مدة؛ فإنه يملّه ويودّ لو انتقل إلى
هيئة أخرى من التلذذ، إلا منزلته في الجنة؛ فإنه لِفَرْطِ ما هو فيه من النعيم
الذي لا يُمل ولا يبلى، والسرور الذي لا يُسأم ولا يفنى، فإنه لا يبتغي عن منزلته
حِولًا، ولا عنها بدلًا". (2)
وتأمل
هذه الأحاديث الثلاثة: ففي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة،
وآتى الزكاة وصام رمضان، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله،
أو جلس في أرضه التي ولد فيها". قالوا : يا رسول الله، أفلا نبشر
الناس بذلك؟ قال: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في
سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس،
فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار
الجنة". وفي صحيح مسلم (4) قال صلى الله عليه وسلم: "يا
أبا سعيد؛ من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا وجبت له
الجنة" فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل.
قال: "وأخرى يرفع الله بها العبد مئة درجة، ما بين كل درجتين كما بين
السماء والأرض" قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد
في سبيل الله". وفي صحيح البخاري (5): إن أم الربيع بنت البراء -
وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله؛ ألا
تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غَرْبٌ- (6) فإن كان في الجنة صبرت،
وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال: "يا أم حارثة؛ إنها
جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى". قال ابن تيمية:
"فقد بين في الحديث الأول أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها،
وأن في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس
أعلاها، والحديث الثاني يوافقه في وصف الدرج المئة، والحديث الثالث
يوافقه في أن الفردوس أعلاها". (7) فَشَمِّرْ ذَيلَ العَزمِ عن ساقِ الحَزمِ
لك الله! وارحمِ اللهم ابن المبارك إذ قال حاثًّا على الجهاد مرغّبًا عليّاتِ
النفوس لعليين:
رِيْحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ
عَبِيرُنَا ... رَهَجُ السّنَابِكِ وَالغُبَارُ
الأَطْيَبُ
اللهم صل
على محمد..
...................
1- المدخل
لابن الحاج (3 / 32 -39) مختصرًا.
2- وانظر:
تفسير القرآن العظيم للسخاوي (1/504)
3- البخاري (4 / 16) (2790)
4- مسلم
(1884)، والنسائي (6/ 19 – 20)
5- البخاري 4/24 (2809)
6- أي مجهول المصدر، يقال: سَهْمٌ غَرْبٌ: لما لا
يُدْرَى راميه، والجمع: غُرُوب.
7- الرسالة العرشية (1 / 11) مجموع الفتاوى (6 /
555)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق