إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 23 مايو 2022

ثمارُ الرّضا بالله تعالى

 

ثمارُ الرّضا بالله تعالى

 

الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات. أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة، وبراهين عظمته القاهرة، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله، واغترف من بحر جوده وأفضاله. وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى كافة البريات. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الفضلاء الثقات، وعلى أتباعهم بإحسان، وسلم كثيرا . أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن الإسلام تسليمٌ واستسلام، فهو استسلامُ المتوكلين على ربهم قبل نزول القضاء، وإسلامُ الأمر والقلب لله بعد نزوله، وإسلام الوجه لله إخلاصًا لكل عبادة وقصد، وإسلام الاتّباع لرسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه عند كل حركة وسكون.

عباد الرحمن: إنّ ثمرة الرضا بالله تعالى مباركة طيّبة، وكيف لا تكون كذلك وهي استناد إلى ركن سعادة الدنيا والآخرة، وهي الثقةُ بتدبير الحيّ القيوم البرّ اللطيف، وانغماسٌ في بحر الطمأنينة لتدبير العليم القدير الحكيم الرحيم، وارتواء بالفرح والغبطة والسرور بالله تبارك وتعالى.

فيا صاحبي؛ تأمّل ما عندك لا ما ليس عندك، فإنّ ما عندك من جود ربك الوهاب الكريم، وما ليس عندك فهو من حكمة ربك اللطيف الرحيم. وكن من أهل الحياة الطيبة (فلنحيينه حياة طيبة) وهي الإيمان والقناعة، وقد مات حبيبك صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة. ففوّض أمرك إلى من بيده مقاليد الأمور وأعِنَّةِ النواصي ومفاتح الأرزاق، واعلم أنّه أرحم وأعلم وألطف وأرفق وأحكم بك من نفسك.

وإذا البشائر لم تحِن أوقاتُها  ...  فلِحكمةٍ عند الإله تأخرتْ

سيسوقها في حينها فاصبر لها   ...  ‏حتى وإن ضاقت عليك وأقفرتْ

وتقولُ سبحان الذي رفع البلا  ...  ‏مِن بعد أن فُقد الرجاء تيسرتْ

والمؤمن الصالح راضٍ ومرضيٌّ عنه حال رحيله لربه تعالى، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قالت عائشة- أو بعض أزواجه-: إنا لنكره الموت. قال: «ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبّ إليه مما أمامه، فأحبّ لقاء الله، وأحبّ الله لقاءه. وإن الكافر إذا حُضِرَ بُشّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه». (1) قال ابن القيم رحمه الله: "ثمرة الرضا: الفرحُ والسرور بالرب تبارك وتعالى". (2)

هذا وإن الرضا بالله تعالى يورث الشوق العظيم إليه، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر؛ فقال: «إنّ عبدًا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده؛ فاختار ما عنده»، فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له. وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُخَيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أَمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي لاتخذت أبا بكر، إلا خُلّة الإسلام، لا يبقينّ في المسجد خَوْخَة (3) إلا خوخة أبي بكر". (4) وحُقَّ للصديق ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

هذا، وإنّ من ثمار الرضا الطيبة أنّ الرضا بقضاء الله تعالى عند فقد الأحبة كالولد سبب لدخول الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: «لا يموت لإحداكنّ ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلتِ الجنة». فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: «أو اثنين». (5)

والاسترجاع مع الرضا مؤذنٌ بخلفٍ طيّب، فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها. إلا أخلف الله له خيرًا منها». (6)

ومن حمد الله تعالى واسترجع عند المصيبة فهو موعود ببيت في الجنة، وإذا بنى الله لعبد بيتًا أسكنه إياه، ولا حَمْدَ ولا استرجاعَ إلا على متنِ الرضا، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد». (7)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّةُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة». (8) والصفيُّ هو الحبيب المُصافي سواء أكان قريبًا في النسب أم لا.

ومن ثمار الرضا بالله تعالى: أنها سببٌ لمحبة الله ورضاه وتجنب سخطه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أرضى الناس بالله، وأسرّ الناس بربه، وأفرحهم به تبارك وتعالى.

والرضا دليلٌ على زيادة الإيمان وحسن الإسلام، وحبل متين للفوز بالجنة والنجاة من النار، ومظهر من مظاهر صلاح العبد وتقواه. وصاحبها موعود بالبشرى في الآخرة، وهي دليل حسن ظن العبد بربه، وطريق إلى الفوز برضوان الله تعالى، فالرضا يثمر رضا الرب عن عبده، فإن الله عز وجل شكور حميد، وإذا ألححتَ عليه وطلبتَه وتذلّلتَ إليه أقبل عليك وقرّبك.

 والرضا – فاعلم - يضفي على الإنسان المسلم راحة نفسية وسكينة روحية، ويجنّبه – بإذن الله - الأزمات النفسية من قلق زائد وتوتر وعجلة وانفعال وغضب، كما أنها طريق واضح إلى تحقيق السلام في مجتمعات الناس، فإن المجتمع مكون من لبنات أفراد، فإن استقاموا استقام.

كما أنّ الرضا يخلّص من الهمّ والغمّ والحزن وضيق الصدر ووحره وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال، ولذلك فإن باب جنة الدنيا يفتَح بالرضا قبل جنة الآخرة؛ فالرضا يوجب طمأنينة القلب وراحته وبَرْده وسكونه وقراره، بعكس السخط الذي يؤدي إلى اضطراب القلب وريبته وقلقه وانزعاجه وضيقه وعدم قراره.

فالرضا ينزِل على قلب العبد سكينةً لا تتنزّل عليه بغيره ولا أنفع له منها؛ ومتى ما نزلت على قلب العبد السكينة استقام وصلُحت أحواله وصلُح باله، وكان في أمنٍ ودَعَةٍ وطيبِ عيشٍ ورغد روح وسعادة حال. كما قيل: "من قرَّت عينه بالله تعالى؛ قرَّت به كل عين، ومن لم تقرَّ عينه بالله؛ تقطّعَ قلبُه على الدنيا حسَرات".

عباد الرحمن: إنَّ مِن أعظم ثمار الرضا ذلكم النعيم الروحي والسكينة القلبية والطمأنينة النفسية للراضي بربه تعالى. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا". (9) وقال: "من قال: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولًا؛ وجبت له الجنّة". (10)

وإنّ من ثمار الرضا: نقاء الصحيفة من درن خطايا اللسان، وذلك بسلامة الكلام حتى على من مسّك أذاه، وهذا من جميل الرضا وهو من الحكمة أيضًا، فأكبر الخيبة وأعظم الغبن: أن تُهدي أغلى ما لديك أبغض من لديك. فهذه ثمرة الغِيبة! وقد قيل: أحق الناس بالشفقة ‏رجلٌ نصب خيمته على رصيف السالكين، يمرّون خِفافًا إلى المعالي، ويُفني عمره وهو يصف أحوالهم وينتقد مسيرهم، ‏فيا ضيعة الأعمار راحت سبهللًا!

وبما أنّك لن تُرضي الناس – ولو حرصت – فاكتف بإرضاء رب الناس وهو من سيكفيك الناس سبحانه وبحمده. فارضَ بربّك، وارض بقسمه وقضائه، وثق بحكمته ورحمته، وقد أحسن ابن دريد في وصف خيبة من رام إرضاء الناس فقال:

وما أحدٌ من ألسنِ الناس سالمًا  ...  ولو أنّه ذاك النبيُّ المطهّرُ

فلا تحتفل بالناس في الذمّ والثنا  ...  وﻻ تخش غير الله فالله أكبرُ

وللرضا ثمرات وثمرات جامعها الفوز والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، والله المستعان.

 

بارك الله لي ولكم....

...............

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الحزن راجع في الجملة لأحد أمور أربعة:

 الأول: أن المبتلى بذلك قد أعطى الأمر الذي أحزنه أو أهمّه أكبر من حجمه، مع أن الدنيا بأسرها لا تستحق ذلك، فهي تافهة لا تستحق تقطيب الجبين لأجلها، ولا زفرات الحزن لفقدها، ولا اللهث لتحصيل ترفها، وهي دار الأحزان والآفات ومجمع الهموم والنكبات لمن لم يصحبها بطاعة الله وذكره والفرح به واليقين به والرضا به وعنه، فعلام نعطيها أكبر من حجمها؟!

 فالعاقل من وضعها حيث وضعها الله تعالى، ولم يرفعها فوق همّته لآخرته وعقباه، ولم يزاحمها بها همًّا وإرادة واشتغالًا، فهي دار ممرّ ومعبر لا بقاء ومقرّ، فنحن – وإن حزنّا لأجلها لضعفنا أحيانًا – فينبغي أن يكون حزنًا عارضًا سريع الزوال، مشفوعًا ممزوجًا بالرضا بالقضاء واليقين بحكمة الله وعلمه ولطفه ورحمته، والفرح بالله تعالى الذي إن حصل فكل ما سواه زائل.

الثاني: قد يكون ذلك بسبب تقصير العبد في أمر الله تعالى، وتساهله في مناهيه، فقد يكون مقصّرًا في ذكر ربه، ومن أعظم الذكر الصلاة، قال سبحانه: (وأقم الصلاة لذكري)، ومن أعرض عن الصلاة وقصّر فيها فلا يستغرب ضنك عيشه وضيق نفسه وكدر حاله، قال سبحانه: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). فليراجع نفسه من قريب، وليتب إلى الله تعالى من فوره، وليعلم أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده وأوبته بعد حوبته وقربه وازدلافه بعد بُعده واستيحاشه، وهذا الألم النفسي من حزن على الماضي أو همّ بحاضر ومستقبل هو من سياط تأديب العبد الآبق من سيده الرحيم المحب اللطيف الرفيق إلى حبائل عدوه الماكر المبغض الكاره، فيأذن الحكيم تعالى بدخول الألم قلبَ عبده لينفض عن قلبه غين الغفلة ويقشع عن بصيرته غيم الذنوب ويجلو عن نفسه وعقله وروحه وصحيفته كدر الأوزار ووسخ الخطايا وقتر الغفلات! فحينها ينتبه العبد فيرجع إلى كنف مولاه ورحمة سيده ولطف إلهه سبحانه وبحمده وهو الحكيم اللطيف الخبير.

 الثالث: قد يكون الهم والحزن لطف من الله محض للعبد كيما يرفع به درجته في المهديين المرضيين، فقد قال الرحمة المهداة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: "ما يصيب المسلم من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". (11) لذا فقد يكون الابتلاء - ومنه الهمّ والحزن - مُسَبًّبا على ذنب سابق، وقد يكون لمحض الرحمة والفضل، فحتى أكمل الخلائق صلى الله عليه وسلم لم يسلم من ذلك ليرفع الله تعالى درجته ويجزل مثوبته.

الرابع: الحزن لأجل دين الله تعالى، إما لفوات طاعة أو وقوع في خطيئة أو تألم وتوجّع لحال المسلمين المكلومين، وهو حزن الصالحين، وفيه تفصيل، وسيأتي بسطه قريبًا إن شاء الله تعالى، وعليه التكلان وإليه المرجع والمآب.

 عباد الله: إن الرضا بالله تعالى يفتح باب السلامة من الغشّ والحقد والحسد؛ لأن المرء إذا لم يرضَ بقسمة الله سيبقى ينظر إلى فلانٍ وفلانٍ، فتبقى دائمًا عينه ضيقةٌ وحاسدٌ ومتمنٍّ زوال النعمة عن الآخرين. والسخط يدخل هذه الأشياء في قلب صاحبه.

وصاحب الرضا واقفٌ مع اختيار الله، يحسّ أن عنده كنزٌ إذا رضي الله عنه أكبر من الجنة، لأن الله عندما ذكر نعيم الجنة قال: (ورضوانٌ من الله أكبر)، فرضا الله إذا حصل فهو أكبر من الجنة وما فيها. ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و مساكنَ طيبةً في جناتِ عدْنٍ و رضوانٌ من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ). فرضا الله أكبر من الجنة. ومن رضي الله عنه أدخله الجنة.

اللهم املأ قلوبنا بالرضا بك وعنك، وأعذها من تسخط أقدارك، اللهم صل على محمد..

.................

1.    البخاري، الفتح 11 (6507)، ومسلم (2683)

2.    المدارج (٢ ‏/ ١٧٣)

3.    الخوخة: هي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين.

4.    البخاري، الفتح 7 (3904) واللفظ له، ومسلم (2382)

5.    البخاري، الفتح 3 (1249)، ومسلم (2632) واللفظ له.

6.    مسلم (918)

7.    الترمذي (1021) وحسن إسناده الألباني.

8.    البخاري، الفتح 11 (6424)

9.                    مسلم (34)، والترمذي (2623).

10.                    أبو داود (1529) وصححه الألباني.

11.    البخاري 7/148 ( 5641 ) ومسلم 8/16 ( 2573 ) والنصب هو التعب والمشقة، أما النّصب فهو المرض. قال العثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين 1/109) معلقًا على هذا الحديث المبشّر العظيم: "المصائب تكون على وجهين: فتارة إذا أصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله فيكون فيها فائدتان: تكفير الذنوب، وزيادة الحسنات. وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويغفل عن نيّة الاحتساب والأجر على الله، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذًا هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه. فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر لأنه لم ينو شيئًا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر، وإما أن يربح شيئين كما تقدم. ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة، فليتذكر الاحتساب من الله على هذه المصيبة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق