إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 16 مايو 2022

(ورضوان من الله أكبر)


(ورضوان من الله أكبر)

 الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا مزيدا.

 أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أنه ليس وراء رضوان الله لأهل الإيمان مطلب، فنسأل الله تعالى بوجهه الأكرم واسمه الأعظم أن يُحِلَّ علينا جميعًا ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين رضوانه الذي لا سخط بعده، إنه سميع قريب. قال تبارك وتعالى مبينًا مُبشّرًا مُرغّبًا واعدًا أهل الإيمان: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، "جامعة لكل نعيم وفرح، خالية من كل أذى وترح، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة، المروية للبساتين الأنيقة، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى. { خَالِدِينَ فِيهَا }، لا يبغون عنها حِوَلا {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ }، قد زُخرفت وحسّنت وأعدت لعباد اللّه المتقين، قد طاب مرآها، وطاب منزلها ومقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنّى فوقه المتمنّون، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفًا في غاية الصفاء والحسن، يُرى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها. فهذه المساكن الأنيقة، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس، وتنزع إليها القلوب، وتشتاق لها الأرواح، لأنها في جنات عدن، أي: إقامة لا يظعنون عنها، ولا يتحولون منها.

{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ }، يحلّه على أهل الجنة { أَكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون، والنهاية التي سعى نحوها المحبون، فرضا رب الأرض والسماوات، أكبر من نعيم الجنات. { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، حيث حصلوا على كل مطلوب، وانتفى عنهم كل محذور، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده". (1)

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا". (2) فرضا الله تعالى الذي لا سخط بعده أفضل من جنّة بلا دوام رضا، فلا نعيم للمؤمن إلا بعد رضا الله تعالى، وإنما بيّن لهم تعالى إعطاءَهم رضاه عليهم على سبيل التدرّج في ترقّي نعيمهم في الجنة للأعلى والأجمل والأفضل، وبأن رضاه عنهم لا يزول ولا يحول، وفي هذا غاية الأمن والحبور، كما قال تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر)، فالرضا جزء من نعيم الجنة، والجنة لا يدخلها إلا من رضي الله عنه، فالجنة ثمرة الرضا. وقد يكافئ السيد عبده وهو غير راض عنه، أما الرضا فله شأن ثان، وقد يرضا عنه في وقت دون آخر، أما ديمومة الرضا فلا مثيل لها، ولله المثل الأعلى. والجنة إنما طابت برضوان الله تعالى على أهلها. ثم لمّا كان الرضا قد أقرَّ عيونَ أهل الجنة بالفرح السابغ والأمن الدائم الخالد؛ أُعطوا فوقه نعيمًا زائدًا، وأيُّ نعيم؟! نسأل الله الكريم من فضله، إنه النظر لوجه الرحمن، إنه الزيادة. فعن صهيب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة؛ يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّضْ وجوهَنا؟ ألم تدخلْنا الجنة وتنجِّنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم". (3)

قال الحافظ رحمه الله في الفتح في كلامه على حديث: "ألا أعطيكم أفضل من ذلك..": "وفيه تلميح بقوله تعالى: (ورضوان من الله أكبر) لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكلّ من عَلِمَ أنّ سيّده راض عنه؛ كان أقرّ لعينه واطيب لقلبه من كل نعيم، لما في ذلك من التعظيم والتكريم. وفي هذا الحديث: أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه". (4) وقال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا يدل على أنه في ذلك الوقت حصل لهم هذا الرضوان الذي لا يتعقبه سخط أبدًا، ودل على أن غيره من الرضوان قد يتعقبه سخط. وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كلٌّ من الرسل: "إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله". (5)" (6) وقال ابن القيم رحمه الله: "وتأمل قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر)، كيف جاء بالرضوان مبتدأً منكَّرًا مُخبِرًا عنه بأنه أكبر من كل ما وعدوا به، فأيسرُ شيء من رضوانه أكبر من الجنات وما فيها من المساكن الطيبة وما حَوَتْه". (7) نسأل الله الكريم من فضله.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى مُحفّزًا همم الصالحين التواقين لعلّيين، (وما أدراك ما عليون): "خلق الله دارين، وخصّ كل دار بأهل، والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارًا لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثِرين لأمره، القائمين بمحابِّه؛ وهي الجنة.

 وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل طيّب من الذوات والصفات والأقوال.

 وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه، المُؤثِرين لمراضيهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله؛ وهي جهنم، وأودعها كل شيء مكروه، وسِجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشرّ بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.

 فهاتان الداران هما دارا القرار، وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزوّد المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما، وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير للإيمان بالدارين وإن كان غيبًا وجهُ شهادة تستأنس به النفوس، وتستدل به.

 فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها، ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال. فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخيّ، كما قيل:

فإذا رآك المسلمون تيقّنوا ... حورَ الجنان لدى النعيم الخالدِ

 فشمّروا إليه، وقالوا: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهممًا وجِدًّا وتشميرًا، لأن النعيم يُذكّر بالنعيم، والشيء يذكّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة (9) وإنما هي عشية أو ضحاها.

 فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله، يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتزّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذوّاقة توّاقة إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه، حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم". (12)

اللهم نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، ونسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، إله الحق.

بارك الله لي ولكم..

.......

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله تعالى قد وعد أولياءه بعليين، وعليّون من أبنية المبالغة للعلوّ والارتفاع، فهو أعلى الأمكنة وأشرف المراتب وأقربها من الله تعالى، فالله تعالى في أعلى العلوِّ كما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: "وأنت الظاهر فليس فوقك شيء". رواه مسلم (2713). وتحته مخلوقاته، فأقربها منه أشرفها. فلفظ عليّين يدل على المبالغة في العلوّ. فأعلى عليّين هي منزلة الوسيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ؛ فإنّه من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة". رواه مسلم ( 384 ).

والفردوس الأعلى في المرتبة الأعلى من علّيّين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان؛ كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نبشّر الناس؟ قال: "إن في الجنة مئة درجة، أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تُفجّر أنهار الجنة". رواه البخاري (2790). فالجنة مُقبَّبةٌ، وأوسطُ القبّة أعلاها كرأس الكُرَة، وعن أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سراقة-، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر - فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: "يا أم حارثة، إنها جنانٌ في الجنة، وإنّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى". رواه البخاري (2809).

يا عباد الله: إن مراتبُ الجنة العُلى – كأهل الغُرَف- عليّون بالنسبة لمن دونهم من أهل الجنة، فمراتب أهل الغرف عالية، وقد يكونون هم أهل الفردوس، وقد يكونون أدنى منهم لأن مراتب الجنة كثيرة جدًّا وساشعة المسافات. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ أهلَ الجنة ليتراءون أهلَ الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدرّي الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله؛ تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين". رواه البخاري (3256) ومسلم (2831).

والجنة كلها عليّون بالنسبة لما تحتها، كما في الحديث الطويل للبراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيقول الله تعالى: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض". أخرجه أحمد (18733) وأبو داود (3212 و4753) وصححه الألباني. فالجنة كلها عليون بالنسبة لأهل الأرض، والأبرار المقتصدون هم من المؤمنين الذين يُكتب كتابهم في عليين، كما قال سبحانه: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين)، وإن كان السابقون المُقرّبون أعلى منهم منازل.

 اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى واسمك الأعظم ووجهك الأكرم الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب، ووالدينا وأهلينا وأحبابنا والمسلمين، إله الحق آمين.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله...

........................................

1.    تفسير السعدي (1 / 343)

2.    البخاري 8/142 (6549)، ومسلم 8/144 (2829) (9)

3.    مسلم 1/112 (181) (297)

4.    فتح الباري (11 / 422)

5.    البخاري 4/163 (3340) و6/105 (4712)، ومسلم 1/127-128 (194) (327)

6.    مجموع الفتاوى (7 / 444)

7.    بدائع الفوائد (2 / 393)

9.    رويت عن ابن حزم، وأنه قالها لفاكهة وكان صائمًا: "يا فاكهة موعدك الجنة". ورويت عن فقير قالها، لشدة فقره، وقوّة صبره ويقينه.

10.                    نقل ابن الجوزي رحمه الله تعالى في المدهش (1 / 228) عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: "خُلِقتْ لي نفسٌ توّاقة، لم تزل تتوق إلى الإمارة، فلما نلتُها تاقت إلى الخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة".

11.                    في المسند (19670) ومسلم (2767) (49) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دُفِع إلى كلّ مؤمن رجل من أهل الملل، فقال له: هذا فداؤك من النار".

12.                    طريق الهجرتين (1/ 134-140) مختصرًا.

13.                    جامع العلوم والحكم (١/‏٢٧٥)

14.                    تفسير آيات أشكلت (1/ 317)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق