إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 17 مايو 2022

(والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

 

(والله يعلم وأنتم لا تعلمون)

 

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن ربكم حيي كريم ستير يجيب الدعوات ويقيل العثرات ويكشف الكربات، (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). وعلى الداعي تصديق الوعد بالإجابة، فلا يحمل همّها ما دام مستجمعًا أسباب قبولها، عالمًا معاني إجابتها بالتعجيل أو التأجيل أو كفاية الشر بقدرها أو ادخارها حسنات، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم؛ إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمّا أن تُعجّل له دعوتُه، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يُصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذا نُكثر. قال: "الله أكثر". (1) قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ينبغي لمن وقع في شدّة ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمرٌ من تأخير الإجابة أو عدمها. لأن الذي إليه أن يدعو، والمدعوُّ مالك حكيم، فإن لم يُجِبْ فَعَلَ ما يشاء في ملكه، وإن أخَّرَ فَعَلَ بمقتضى حكمته. ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه. فربما سأل سيلًا سال به! وروي أن أحد السلف كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف: "إنك أن غزوت أُسرتَ، وإن أُسِرْت تنصّرت".

فإذا سلّم العبد تحكيمًا لحكمته وحكمه، وأيقن أن الكل ملكه؛ طاب قلبه، قُضيت حاجته أو لم تقض. فإذا رأى يوم القيامة أن ما أُجيب فيه قد ذهب، وما لم يُجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط. فافهم هذه الأشياء، وسلّم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال". (2)

ومما يعين على الرضا والتسليم؛ اليقين بأن تدبير الله للعبد أجدى وأنفع من تدبير العبد لنفسه، وأن العاقبة غيب لا يعلمه إلا مولاه، فخير له أن يرضى بتدبير من هو أرحم به من نفسه، وتأمل قصة الخضر مع موسى عليه السلام في السفينة والغلام والجدار، وما تحتها من معان عظيمة في الرضا والتسليم والحمد والشكر لله رب العالمين. قال البغوي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا )، "قال: { فَانْطَلَقَا } يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها، وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مرّت بهم سفينة فكلّموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نَوْلٍ (3) فلما لججوا البحر أخذ الخضر فأسًا فخرق لوحًا من السفينة"، (4) فذلك قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ } له موسى { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أي: منكرًا، والإمرُ في كلام العرب: الداهية، وأصله: كل شيء شديد كثير.

{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }، قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا". (5) { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان، فمرّا بغلمان يلعبون، فأخذ الخضر غلامًا ظريفًا وضيء الوجه، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قال السدي: كان أحسنهم وجهًا، وكان وجهه يتوقّد حسنًا. قال ابن عباس: كان غلامًا لم يبلغ الحِنْث. وهو قول الأكثرين. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغلام الذي قتله الخَضِرُ طُبِعَ كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا". (6) { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } أي: منكرًا. قال قتادة: النُّكر أعظم من الإمر؛ لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك.

وقوله عز وجل: { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا } أي فعلمنا { أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } قال سعيد بن جبير: فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه. { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً } أي صلاحًا وتقوى { وَأَقْرَبَ رُحْمًا }، قال قتادة: أي أوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوجها نبيّ من الأنبياء، فولدت له نبيًّا فهدى الله على يديه أمة من الأمم.

قال مطرف: فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قتل. ولو بقي لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقال عز وجل: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). (7)

عباد الله: تدبروا قول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقوله عز و جل: (وان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)، قال ابن القيم رحمه الله: "فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة وهذا المحبوب شرّ له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصفٍ من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها شرّ كثير لا يعرفه!

فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرّ الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له؛ فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته؛ فكل ما هو فيه من محبوب هو شرّ له.

 فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارِّها وأسباب هلكتها في محبوباتها.

بارك الله لي ولكم..

..........

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، أما بعد؛ فاتق الله يا عبد الله حق تقاته، وانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى إذا أثمرت أشجارُها أقبل عليها يُفصِّل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خلّيت على حالها لم تطب ثمرتُها، فيُطَعّمها من شجرة طيّبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلّمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك.

 ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، بل يعطّشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زيّنت بها من الأوراق فيُلقي عنها كثيرًا منها لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عنها كثيرًا من زينتها وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهّمتْ أن ذلك إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.

 وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بَضَعَ جلده وقَطَعَ عروقه وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، وكان ذلك رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حمية له ومصلحة، لا بخلًا عليه.

 فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم اذا أنزل بهم ما يكرهون؛ كان خيرًا لهم من أن لا ينزله بهم، نظرًا منه لهم وإحسانا إليهم ولطفًا بهم، ولو مُكّنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا وإرادة وعملًا، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم كرهوا.

 ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جَنّة لا يشبهها فيها إلا نعيم الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا عن ربه. والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيّب النفس بما يُجري عليه من المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينته إلى أحكامه الدينية، وهذا هو الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك.

 وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره، فكلما كان بذلك أعرف كان به أرضى، فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة، لا يخرج عن ذلك البته، كما قال في الدعاء المشهور: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك بكل اسم هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي. ما قالها أحد قط الا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا" قالوا: أفلا نتعلّمهن يا رسول الله؟ قال: "بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن". (8) والمقصود قوله: "عدل فيّ قضاؤك" وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده من عقوبة أو ألم وسبب ذلك، فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبّب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن كما قال: "والذى نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء الا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن". (9) (10)

ومن يحمد الدنيا لعيشٍ يسرُّهُ  ...  فسوف – وربّي- عن قليلٍ يلومُها

اللهم صل على محمد...

........................

1.                    أحمد (10749) وجود سنده محققوه. والبخاري في الأدب المفرد (710)، والحاكم (1/ 493) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح.

2.                    صيد الخاطر (1 / 51) بتصرف يسير.

3.                    أي مجّانًا بلا أجرة.

4.                    البخاري (1 / 218)

5.                    البخاري: (5 / 326)، مسلم (4 / 1847-1850)

6.                    مسلم (2661)

7.                    تفسير البغوي (5/ 190-194) باختصار.

8.                    أحمد (3712) وضعفه محققوه من جهة الجهالة بأبي سلمة الجهني، وأنه راوٍ آخر غير أبي موسى الجهني. وصححه أحمد شاكر، وكان الأرناؤوط قد صححه في تخريج ابن حبان ثم تراجع عنه هنا، وصححه ابن القيم في إعلام الموقعين (1/150) وصححه الألباني في الصحيحة (199) وقال: "ليس في الرواة من اسمه موسى الجهني إلا موسى بن عبد الله الجهني، وهو الذي يكنى بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم.

9.                    مسلم (2999)

10.                    الفوائد (1 / 91- 94)

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق