خشية
الله عند السلف وعاقبة الذنوب
7/5/1436
الحمد لله....
عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى, وتزودوا لرحيلكم وخيرُ خير الزاد التقوى, واحذر الهوى فهو
يهوي بصاحبه للهاوية.
عباد الرحمن:
إن القامع لهواه حري بالفوز والفلاح في دنياه وأخراه, فهو شديدُ الخشية لله تعالى,
عظيمُ الرجاء به, يكدح في مراضيه ويلتذ بالقُرَبِ إليه, قال الله تعالى: (ان الذين
هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها
سابقون) "وقد روى الترمذي في جامعه وصححه الألباني عن عائشة رضى الله عنها قالت:
سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: "لا
يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون, ويخافون أن لا يتقبل منهم,
أولئك يسارعون في الخيرات"
عباد الله: إن الله
سبحانه قد وصف أهلَ السعادة بالإحسان مع الخوف, ووصفَ الأشقياء بالإساءة مع الأمن,
ومن تأمل أحوال الصحابة رضى الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف, ونحن جمعنا
بين التقصير - بل التفريط – والأمن! فهذا الصديق يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن.
وكان يُمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وكان يبكي كثيرًا ويقول: أبكوا
فان لم تبكوا فتباكوا. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل. وأُتي
بطائر فقلّبه ثم قال: ما صِيد من صيد ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح.
ولما احتُضر قال لعائشة: يا بنية, إني أصبت من مال
المسلمين هذه العباءة وهذه الحِلاب (وهو الإناء الذي يُحلب فيه اللبن) وهذا العبد,
فأسرعي به إلى بن الخطاب. وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتُعضد. وقال
قتادة: بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خَضِرَةٌ تأكلني الدواب.
وهذا عمرُ بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله:
(إن عذاب ربك لواقع) فبكى واشتد بكاؤه حتي مرض وعادوه. وقال لابنه وهو في الموت: ويحك
ضع خدي على الأرض لعل الله أن يرحمَني, ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي – ثلاثًا
- ثم قضى. وكان يمرّ بالآية في ورده بالليل فتخنقه العبرة فيبقى في البيت أيامًا ويعاد
ويحسبونه مريضًا. وكان في وجهه رضي الله عنه خطّان أسودان من البكاء.
وقال له ابن عباس: مصّر الله بك الأمصار وفتح بك
الفتوح, وفعل وفعل. فقال: وددت اني أنجو لا أجر ولا وزر.
وهذا عثمان بن عفان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى
تبتلّ لحيتُه. وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري الى أيتِهما يؤمر بي لاخترت
أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه,
وكان يشتد خوفُه من اثنتين: طولِ الأمل واتباعِ الهوى, قال: فأما طول الأمل فيُنسي
الآخرة, وأما اتّباع الهوى فيصد عن الحق, ألا وإن الدنيا قد ولّت مدبرة, والآخرة قد
ارتحلت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا,
فان اليوم عمل ولا حساب, وغدًا حساب ولا عمل.
وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشدَّ ما أخافُ على نفسى يوم القيامة
أن يقال: يا أبا الدرداء, قد علمتَ فكيف عملت فيما علمتَ؟
وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما
أكلتم طعامًا على شهوة, ولا شربتم شرابًا على شهوة, ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه, ولخرجتم
إلى الصَّعُدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم, ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل.
وهذا عبد الله بن عباس كان أسفلَ عينيه مثل الشراك
البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول:
يا ليتني كنت شجرة تعضد, وددت أني لم أُخلق. وعُرضت عليه النفقة فقال: عندنا عنزٌ نحلِبها,
وحُمُرٌ ننقل عليها, ومُحرَّرٌ يخدمنا, وفضل عباءة, وإني أخاف الحساب فيها.
وقرأ تميم الداري ليلةً سورة الجاثية, فلما أتى على
هذه الآية: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات)
جعل يرددها ويبكى حتى أصبح.
وقال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش فذبحني أهلي,
وأكلوا لحمي وحَسَوا مَرَقى. وهذا باب يطول تتبّعه يا عباد الله, ولكن اعلموا أن
من خاف اليوم أمِن غدًا بإذن الله, والله تعالى يقول: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)
وقال سبحانه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)
واحذروا يا
عباد الله سوء الخاتمة وبطلان العمل, وقد بوّب البخاري رحمه الله في صحيحه: بابُ خوف
المؤمن أن يحبط عملُه وهو لا يشعر. وقال ابراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا
خشيت أن أكون مكذِّبًا. وقال بن أبي مليكة ادركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه, ما منهم أحد يقول انه على إيمان جبريل وميكائيل.
وقال الحسن: ما خاف النفاق إلا مؤمن, ولا أَمِنه
إلا منافق.
وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشدك الله, هل
سمانى لك رسول الله؟ - يعني في المنافقين – فيقول: لا, ولا أزكى بعدك أحدًا.
عباد الحمن: إن
عاقبة اتباع الهوى هي الهاوية, وما دخل الشر على قلب امرئ إلا من قبل جهله وهواه,
وما ما أفلح وجهٌ إلا من قبل هداه بفضل مولاه.
إن النظر
لعاقبة الهوى كاف في قطع علائقه وبَترِ عروقه لمن كان له قلب, حتى وإن مسه طائف من
الشيطان لضعفه وطروء الغفلة على قلبه فسرعان ما يعود لكنف ربه والأوبة إليه
واسترحامه واستغفاره, أما من اتبع نفسه في السوء هواها وتمنى على الله الأماني بلا
عمل فلا يلومن غدًا إلا نفسه (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (ويحذركم الله
نفسه والله رؤوف بالعباد)
قال أبو جعفر
الطبري رحمه الله: "يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم
ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء
تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا
قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: تحذيرُه
إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه. وعن الحسن في قوله:
(ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه".
الخطبة
الثانية:
الحمد لله..
عباد الله:
اتقوا الله تعالى, واستبصروا بدينكم وتفقهوا فيه وحاسبوا أنفسكم قبل الحساب.
إن على المؤمن
الناصح لنفسه إن يحمي قلبه من الداء قبل حلوله, وأن يداويه بعد وقوعه, وإن يبادر
بحسم مادته قبل استفحاله. قال ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء: "فلنذكر
دواء الداء الذي إن استمر أفسد دنيا العبد وآخرته, فممّا ينبغي أن يُعلم أن الذنوب
والمعاصي تضر ولا شك, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها
في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم
والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه, فجعلت صورته أقبح
صورة وأشنعها, وباطنه أقبح من صورته وأشنع, وبدل بالقرب بعدًا, وبالرحمة لعنة, وبالجمال
قبحًا, وبالجنة نارًا تلظّى, وبالإيمان كفرًا, وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة,
وبزَجَلِ التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش, وبلباس
الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟
فهان على الله غاية
الهوان, وسقط من عينه غاية السقوط, وحلّ عليه غضب الرب تعالى فأهواه ومَقَته أكبر المقت
فأرداه, فصار قوّادًا لكل فاسق ومجرم, رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة,
فعياذًا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق
رأس الجبال؟
وما الذي سلط الريح
العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية, ودمرت ما
مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم, حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم
في أجوافهم, وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطيّة حتى سمعت الملائكة نبيح
كلابهم, ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعًا, ثم أتبعهم حجارةً من سجيل
السماء أمطرها عليهم, فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم؟ ولإخوانهم
أمثالُها, وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظُلل,
فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
وما الذى أغرق فرعونَ وقومَه في البحر, ثم نُقلت
أرواحهم إلى جهنم, فالأجساد للغرَق والأرواح للحرْق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات,
ودمّرها تدميرًا؟
وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن
آخرهم؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أُولي بأس شديد
فجاسوا خلال الديار, وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء, وأحرقوا الديار, ونهبوا
الأموال, ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه, وتبّروا ما علو تتبيرًا؟
وما لذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات, مرّة
بالقتل والسبي وخراب البلاد, ومرة بجور الملوك, ومرة بمسخهم قردة وخنازير, وآخر ذلك
أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؟
عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص, فرّق بين أهلها,
فبكى بعضهم إلى بعض, فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي, فقلت: يا أبا الدرداء, ما
يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال: ويحك يا جبير, ما أهون الخلق على
الله عز وجل إذا أضاعوا أمره, بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك, تركوا أمر الله
فصاروا إلى ما ترى.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه..