موجز
السيرة النبوية
منقولة بتصرف يسير
..أما بعد: أيها
الناس: اتقوا الله تعالى واحمدوا ربكم على ما أنعم به عليكم من بعثة هذا النبي الكريم
الذي أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور وهداكم به من الضلالة وبصركم به من العمى
وأرشدكم به من الغي فلله الحمد رب العالمين.
لقد بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل
على رأس الأربعين من عمره فجاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء وهو الغار الذي في أعلى
الجبل المسمى جبل النور، فأول ما نزل عليه قوله: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان
من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم [العلق:1-5].
ثم ذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وكان
ورقة قد دخل في دين النصارى وعرف الكتاب فأخبره النبي بما حصل له من الوحي، فقال: ورقة
يا ليتني فيها جذعا يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال النبي : ((أو مخرجي هم)).
استبعد أن يخرجه قومه من بلاده فقال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن
يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم أنزل الله تعالى على رسوله بعد أن فتر الوحي مدة:
يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر [المدثر:1-5].
فقام بأمر ربه فبشر وأنذر وكان أول من أجابه من غير
أهل بيته أبو بكر وكان صديقا له قبل النبوة فلما دعاه بادر إلى التصديق به وقال بأبي
وأمي أهل الصدق أنت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصار من دعاة الإسلام حينئذ
فأسلم على يديه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي
وقاص، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.
ومكث يدعو الناس سرا حتى نزل قوله تعالى: (فاصدع
بما تؤمر وأعرض عن المشركين) . فصدع بأمر الله تعالى وجهر بدعوته فجعلت قريش تسخر به
وتستهزئ به ويؤذونه بالقول وبالفعل، وكان من أشد الناس إيذاء له وسخرية به عمه أبو
لهب الذي قال الله فيه: تبت يدا أبي لهب وتب [المسد:1]. إلى آخر السورة.
حتى بلغ من إيذائهم له أن ألقوا عليه سلى الناقة
وهو ساجد فلم يقدر أحد على رفعه عنه فلم يزل ساجدا حتى جاءت ابنته فاطمة فألقته.
فلما رأى استهانة قريش به وشدة إيذائهم له ولأصحابه
خرج إلى أهل الطائف يدعوهم فقابل رؤساءهم وعرض عليهم، فردوا عليه ردا قبيحا، وأرسلوا
غلمانهم وسفهاءهم يقفون في وجهه ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه فرجع عنهم ومد يد
الافتقار إلى ربه فروي أنه قد دعا الله تعالى فقال: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي
وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني
إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك
أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل
علي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك))
ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على عبادة الله وحده
لا شريك له وأن يمنعوه إذا قدم عليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فأذن الله لرسوله
بالهجرة إليهم فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه وكان بصحبته أبو
بكر فاختفيا في غار ثور ثلاثة أيام والمشركون يطلبونهم من كل وجه حتى كانوا يقفون على
الغار الذي فيه رسول الله وأبو بكر فيقول أبو بكر يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدمه
لأبصرنا فيقول رسول الله : ((لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، فلما
سمع بذلك الأنصار جعلوا يخرجون كل يوم إلى حرة المدينة يستقبلون رسول الله حتى يردهم
حر الظهيرة، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله إليهم هو أنور يوم وأشرفه.
فاجتمعوا إلى رسول الله محيطين به متقلدين سيوفهم
وخرج النساء والصبيان وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله يريد أن يكون نزوله عنده
وهو يقول دعوها فإنها مأمورة حتى إذا أتت محل مسجده اليوم بركت، فيذكر أنه لم ينزل
فقامت فسارت غير بعيد ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت
جرانها فنزل عنها رسول الله وسكن دار أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه، ثم
بعد ذلك أذن الله له بقتال أعدائه الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم
بالآخرة هم كافرون. فأظهره الله عليهم وأيده بنصره وبالمؤمنين.
ولما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المؤمنين
اختاره الله لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
فابتدأ به المرض في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول فخرج إلى الناس عاصبا رأسه فصعد
المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قُتلوا في أحد ثم
قال: ((إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند
الله))، ففهمها أبو بكر فبكى وقال : بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا وأنفسنا
وأموالنا فقال النبي : على رسلك يا أبا بكر ثم قال : إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله
أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته وأمر
أبا كبر أن يصلي بالناس، ولما كان يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع
الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة اختاره الله تعالى لجواره، فلما نزل به جعل
يدخل يده في ماء عنده ويمسح به وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم شخص
بصره نحو السماء وقال: اللهم في الرفيق الأعلى فتوفي يوم الاثنين.
فاضطرب الناس عند ذلك وحق لهم أن يضطربوا حتى جاء
أبو بكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن من كان يعبد محمدا فإن
محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: وما محمد إلا رسول قد
خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران:144]. إنك ميت وإنهم
ميتون [الزمر:30]. فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل في ثيابه تكريما له ثم
كفن وصلى الناس عليه أرسالا بدون إمام ثم دفن ليلة الأربعاء صلوات الله وسلامه عليه
. (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي
الله الشاكرين [آل عمران:144]. وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن
يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:145].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.