مظاهر
الاعتصام بغير الله تعالى (2)
الحمد لله فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين، وبسط يده للسائلين،
قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فقضاها، وتوجهت له القلوب بلهفاتها فهداها، وضجت إليه
أصوات ذوي الحاجات فسمعها، ووثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعها، وطمعت بكرمه آمال
المحسنين فما قطع طمعها، بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار ، لا ملجأ للعباد
إلا إليه ولا معتمد إلا عليه. فأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده
ورسوله، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، أرسله ربه رحمة
للعالمين , وحجة على العباد أجمعين, فهدى الله به من الضلالة , وبصر به من الجهالة
, وكثر به بعد القلة , وأغنى به بعد العيلة , ولمَّ به بعد الشتات , وأمَّن به بعد
الخوف , فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر وسلَّم تسليمًا
كثيرًا.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به
تفلحوا وتسعدوا، واعلموا أن لضعف الاعتصام به تعالى مظاهر وعلامات، منها:
4 ــ ضعف اليقين:
اليقين: هو قوة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان
يرى بعينه ما أخبر الله به ورسوله من شدة يقينه، وعلى قدر اليقين يكون رسوخ الثقة
في الموعود الإلهي، وما أجمله وأبهاه وأحلاه. ومن الخطوب ما لا يداويه سوى موعود
الآخرة.
واليقين من أكبر أسباب الثبات عند الزعازع والنوازع
والرزايا والبلايا، عن ابن عمر ¶، قال: قلما كان رسول الله ﷺ يقوم من مجلس حتى
يدعو بهؤلاء الدعوات: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك،
ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن علينا مصائب الدنيا، اللهم
متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا([1])، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من
عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا،
ولا تسلط علينا من لا يرحمنا»([2]).
وفي وصية رسول الهدى ﷺ الشهيرة لابن عباس رضي الله
عنهما فقال: «كنتُ رَدِيفَ رسول الله ﷺ فقال لي: «يا
غلام، احفظ الله يَحْفَظْك، احفظ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ــــ أو قال: أَمَامَكَ
ــــ تَعَرَّف إِلى الله في الرَّخاء يَعْرِفْكَ في الشدة، إِذا سألتَ فاسألِ
الله، وإِذا استعنت فاستَعِنْ بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم
يكتبه الله لَكَ لم يَقْدِرُوا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه
الله عليك لم يقدروا على ذلك، جَفَّتِ الأقلام، وطُوِيتِ الصحف. فإن استطعتَ أن
تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكرهُ خيرًا
كثيرًا. واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولن
يغلب عُسْر يُسْرَينِ». ([3])
واليقين صمام أمان للنجاة غدًا، وفي حديث فتنة
القبر: «وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قيل: على
اليقين عشت وعليه مت، هذا مقعدك من الجنة»([4]).
واليقين خير مطلوب وأجمل مرغوب، فعن أبي بكر
الصديق ؓ أنه قام على المنبر ثم بكى، فقال: قام رسولُ الله ﷺ عام أولَ على المنبر،
ثم بكى، فقال: «سَلُوا الله العفْوَ والعافيةَ، فإِن أَحدًا لم يُعطَ بعد
اليقين خيرًا من العافية»([5]).
أما ضعف اليقين فسرابُ خيبة، وباب حيرة، وبحرُ شك،
وسحابة ضلال، فليعتن الناصح لنفسه بهذا الباب العظيم، فلليقين شأن ليس كغيره، فهو
أساس الدين الذي ترفع عليه أركانه، ويقوم عليه بنيانه، وهو فرقان الإيمان عن
النفاق، فالإيمان يقين والنفاق ريبة.
فكيف يعتصم من كان في قلبه قلق من حسن العاقبة
للمعتصمين، أو شكٌّ وريبة في حقائق الدين؟! إن ضعف اليقين سمٌّ للروح، وظلام
للبصيرة، ودهليز للخذلان، وزلزال للإيمان، والموفق حقًّا والسعيد صدقًا هو من
اعتصم بيقينه بموعود ربه تبارك وتعالى. وقد خاب من ولد آدم مَن حَمَلَ شَكًّا!
عباد الرحمن: ومن مظاهر ضعف الاعتصام بالله تعالى:
5 ــ الجزع:
فالجزع ضعف وفشل وانهزام، وهو معيب حتى في
الجاهلية. كما قال أبو طالب: «لولا أن تُعيِّرَني قُرَيْش، يقولون: إنما حَمَلَهُ
على ذلك الجَزَعُ، لأقْرَرْتُ بها عَينَكَ»([6]). وقد عزز الإسلام قيمة العزم والحزم والقوة، قال
خبيب ؓ لقريش لما أرادوا قتله: «دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين فقال:
والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت»([7]).
والجزع علامة ومظهر على وَهَنِ حبل الاعتصام في
قلب العبد، وانحسارِ حقائق الآخرة عن أطراف بصيرة الفؤاد، فالجزع دَهَش يزعج سكينة
الروح إلى اضطرابٍ وتشويشٍ وشتاتٍ، فيرميها من علياء يقينها وطمأنينة موارد علمها
إلى صخرات طيش العقل، وانفلات زمام أمرِ اللُّبِّ الحكيم في مهامِهِ الفشل
والحسرات. وعليه؛ فالجزع رِدَاءٌ رديءٌ على أكتاف المؤمن، وجدريٌّ قبيحٌ على
مُحيَّا المعتصم بربه الواثق بمعيته. فعليه من فوره الوضوء بماء التوبة، والتطهر
بغُسل الأوبة من الحوبة، والله يغفر ويعفو ويرحم ويكرم، وهل من خير إلا منه كرمًا
وفضلًا، وهل مِن دافعِ شرٍّ إلا هو عزةً ورحمة واقتدارًا.
فالمعتصم بالله حقيقة قوي حازم صابر، غير هيّاب
ولا جزوع ولا قنوط، ومن رأى في نفسه جزع فليراجع اعتصامه بمولاه فثَمَّ خلل هناك،
والله المستعان وبالله التوفيق والعصمة، والحمد لله رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما
فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب،
فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.
...................
الخطبة الثانية
الحمد لله
على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك
له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه
وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا
الله عباد الله. واعتصموا به على الدوام، واعلموا أن من مظاهر ضعف الاعتصام به:
6 ــ ضعف الصبر:
لما كان الصبر رأس الأعمال كان ضعفه مؤثرًا فيها
ضرورة، وعلى قدر ضعف الصبر يكون الانحدار في الخذلان، وما نال العباد خير دنيا ولا
آخرة إلا بركوبهم راحلة الصبر بإذن الله وتوفيقه.
والاعتصام بالله يمدّ الصبر بمادّته، فمن كان
بالله مستعصمًا كان من الصابرين.
7 ــ التردد وعدم الثبات:
فالمعتصم ثابت الخطى، راسخ المبدأ، واثق المسير،
نافذ البصيرة، فعنده من العلم بالله ما يهديه سواء السبيل، ومعه من مدد الله ولطفه
ما يحوطه بالتوفيق والثبات.
والعالم بربه شديد الاعتصام به { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ } [الأعراف: 170] أي يعتصمون به فقد حفظهم الله لحفظهم دينه وعملهم
بعلمهم واستمساكهم بحبله.
فالاعتصام جدار يسند المؤمن ظهره إليه وعليه، فما
حال من ضعف جداره أو سقط؟!
فاشدُدْ يديك بحبلِ الله معتصمًا فإنّه الركنُ إن خانتك أركانُ
8 ــ موالاة أعداء الله تعالى:
ذلك أن المعتصم بالله موال لله ولحزبه المؤمنين،
فهو لله وبالله ومع الله وإلى الله، يدور مع أمر ربه ومراده ومحابه ومراضيه، يوالي
أولياءه ويعادي أعداءه. والله تعالى يحفظه ويحوطه ويحرسه ويوفقه.
أما من اعتصم بغير مولاه فقد دخل عليه عدوه من
أبواب كثيرة واسعة، من أكبرها باب ترك الاعتصام بالله أو ضعفه، فكيف حال من وكله
الله لنفسه القاصرة أو خلقه العاجزين، بينما أعداؤه قد أحاطت بقلبه وروحه إحاطة
السوار بالمعصم؟! (ومن يهن الله فمال من مكرم) (ومن يضلل الله فماله
من هاد). ويا خيبة
المُغترّين!
اللهم صل على محمد..