فضل الاعتصام بالله
تعالى
19/8/1437
الحمد لله الملك
الجليل، المنزَّه عن النظير والعديل، المنعِم بقبول القليل، المتكرِّم بإعطاء الجزيل،
تقدَّس عمَّا يقول أهل التعطيل، وتعالى عمَّا يعتقد أهل التمثيل. نصب للعقل على وجوده
أوضح دليل، وهدى إلى وجوده أَبْيَن سبيل.
أحمده كلما نُطق
بحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأصلي على نبيه محمد النبي النبيل
وعلى آله وصحبه والتابعين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به تفلحوا
وتسعدوا، واعلموا أن الاعتصام بالله عصمة من الهلكة، ووقاية من الخلل، وأمان من
الخذلان، وسلامة من عثرات الطريق.
وجوهر الاعتصام: صدق الاعتماد وتجريد
التعلق وتمام الثقة ورسوخ اليقين. فمن اعتصم بماله قلّ، ومن اعتصم بعقله ضلّ، ومن
اعتصم بجاهه ذلّ، ومن اعتصم بالله عز وجل لا قلّ ولا ضل ولا ذل، بل إلى ذرى المُنى
يقينًا قد وصل.
ذلك أن الاعتصام بالله هو ركن التوفيق،
فالمرء في كل أطواره وأزمانه متردد بين جلب الخير وثباته ونمائه، أو دفع الضر أو
رفعه، ليس له حول وطول على الحقيقة البتة، إنما غاية جهده اتخاذ الأسباب المأمور
بها من لدن المسبِّب الخالق البارئ، فهو لا شيء إلا بمعونة إلهه وسيده ومولاه.
وهذه الأسباب لا تستقل بحدوث تأثيراتها بل لا
بد من صرف الموانع، ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة رب العالمين، فعاد الأمر طرًّا
لمن بيده مقاليد الأمور وتصاريف الأشياء، فمن رام التوفيق فليلذ بذلك الركن،
وليعتصم بمن لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر سواه.
والمعتصم بالله حقًّا في تحصيل إيمانه فغايته
الجليلة ليس وراءها مرمى، كيف لا، وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فلا
يقوم لقوته قوة، ولا يتخلف عن معيته توفيق.
ومتى أحسن العبد الاعتصام بربه انتظمت
له سائر أعماله وتيسرت له وانشرح صدره بها فإن الله شكور حميد. "فإن في القلب
فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمّه غير الإقبال عليه، وفيه
مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن
إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة
الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله
أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى بفوته
حسرة وعقوبة".
قال الله جل ذكره موصيًا عباده بالاعتصام بحبله
المتين الواصل إليه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا
وأنتم مسلمون . واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ
كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار
فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) فالاعتصام وصيته سبحانه
للمؤمنين به.
وقال مشترطًا الاعتصام به للتائب من أعظم جرم: (إن
المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا
وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله
المؤمنين أجرا عظيما (146)
وقال جل وعلا في بيان ألا معصوم من كل
كريهةٍ إلا من عصمه برحمته: (قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وأوصى الحريصُ الشفيق صلوات الله وسلامه
وبركاته عليه بتحقيق الاعتصام بالله، وبيّن طرق تحصيله فعن سفيان بن عبد الله
الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: حدثني بأمر أعتصم به، قال: «قل ربي
الله ثم استقم». قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال:
«هذا». رواه الترمذي وصححه. فبيّن أن ملاك التقوى الاعتصام بالله في لزوم
الاستقامة، ومن ذلك حفظ اللسان.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن صِمَامَ أمانِ
المؤمن اعتصامه بكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
حكيم حميد، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال – في حديث الحج الطويل -:
«وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله» رواه مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله: "ثم ينزل القلبُ منزل الاعتصام، وهو نوعان:
اعتصام بالله واعتصام بحبل الله، قال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا) وقال: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).
والاعتصام: من العصمة، وهو التمسك بما
يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام
بالله والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة،
والاعتصام به: يعصم من الهلكة، فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده،
فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين
الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة
والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
عباد
الرحمن: المعتصم بالله حقًّا هو المؤمن الموحّد، فهو رابط الجأش ناعم البال، أما ضعيف
العقيدة فهو مشتت الفكر موزع النفس، فمن المشاهد
أن الإنسان إذا تعلق قلبه بشيء واستحوذ عليه، أو ألمت به ملمة فلم تنفرج، تشتت فكره،
وذهب في طلب الغوث كل مذهب، وهام في كل واد، وقد تسول له نفسه الأمارة - إن كان
جاهلًا - أن يستصرخ النبي الفلاني، وقد تزين له أن ينادي فلانًا من المشايخ، أو يخضع
لجنية أو منجم أو رمال إلى آخر تلك المهالك الموبقة.
وأما
من توكل على اللَّه، ولم تتشعب به المذاهب وفقه اللَّه، وفتح اللَّه عليه طريق الهداية،
وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية من السكينة، ورزق من اجتماع الخاطر
ورباطة الجأش، وبرد اليقين، وهدوء النفس ما لا يحوط به وصف.
ومن فضائل الاعتصام يا عبد الله: اختصارُ
الطريق على نفسك، فلا تتشعبُ بك السبل، ومردك إلى الله بكل أحوالك، قال سبحانه:{
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } فالخلق إذا ماتوا
أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله، ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله،
فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا الاعتصام بحبل الله؟
ومنها: تكفيرُ الخطايا مهما بلغت. فحتى
المنافق إذا تاب واعتصم بالله حُطت عنه ذنوبه برحمة الله قال تعالى:{ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ
إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا }.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة2
الحمد لله وحده...
عباد الرحمن: من تأمل أحوال الناس
وسرعة تقلبهم في محن الدنيا وفتنها ومسارعتهم لركوب ما مآله هلكتهم أيقن أن الأمر
في غاية الخطر، وأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم، فموج الفتن بشبهاتها
وشهواتها يحول بين المرء وعقله، فيصبح الحليم حيرانًا ويضحي العالم على خطر فما
بال الجاهل، فاللهم رحماك رحماك!
قال الإمام الزهري رحمه الله: كان علماؤنا
يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة. وقال الإمام مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح من
ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. قال تقي الدين: "وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج:
هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله. والرسول: هو الدليل الهادي الخريت في
هذا الصراط كما قال تعالى: { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا } وقال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } { صراط الله الذي
له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور }.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله ثم قال: هذا سبيل الله
وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } رواه أحمد.
وإذا تأمل العاقل - الذي يرجو لقاء الله
- هذا المثال وتأمل سائر الطوائف وأن كلًّا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة
وأهل الحديث ويدعي أن سبيله هو الصواب - وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم
الذي لا يتكلم عن الهوى. (إن هو إلا وحي يوحى)".
إذا عُرف هذا فمعلوم أنما يهدي الله به
الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين لا بد أن يكون فيما بعث الله به رسوله
من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي
في ذلك لكان دين الرسول ناقصًا محتاجًا تتمة!
إذا تبين ذلك فالسعيد من اعتصم بموارد
العصمة الحقيقية الباقية دون الزائفة الفانية، فمن رام الثبات والهدى فليعتصم
برسالة سيد الثقلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، "فالسعادة والهدى في متابعة
الرسول صلى الله عليه وسلم والضلال والشقاء في مخالفته، وكل خير في الوجود إما عام
وإما خاص فمنشأه من جهة الرسول، وكل شر في العالم مختص بالعبد فسببه مخالفة الرسول
أو الجهل بما جاء به، وسعادة العباد في معاشهم ومعادهم مقرون باتباع الرسالة.
والرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها، وحاجتهم إليها
فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم
الروح والحياة والنور؟!
والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه
شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة ويناله من حياتها وروحها
فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له
نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) فهذا وصف المؤمن كان ميتًا
في ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس.
وأما الكافر فميت القلب في الظلمات.
اللهم صل على محمد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق