من سيرة ابن
المبارك
الحمد لله حمدًا لا يُحصَى عددُه، ولا
ينقضي أمدُه، ولا ينفد مددُه، لك الحمد ربنا على نعمائك، ولك الشكر على آلائك،
وأشهد أن لا إله إلا الله لا رادّ لقضائه، ولا مانع لعطائه، ولا محصي لنعمائه،
وأشهد أن نبينا محمدَا عبده ورسوله، بعثه بالحنيفية السمحة والملة القويمة، صلى
الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن سلك سبيله بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن مما يحيي موات القلوب
وينعش الأرواح سيرُ الصالحين، فالنفوس مجبولة على التأسي بمن تحب والشوقِ لمنافسة
من تعجبُ به، كيف إن كان المحبوب من سلف الأمة الصالح.
وسنقف اليوم متأملين جوانبَ من سيرة
علمٍ شهير وبدرٍ من بدور الأمة منير، وهو ابنُ المبارك رحمه الله تعالى.
عرف عنه الناس شديدَ خوفه من رب العالمين، وكثرة
عبادته وتألهه، ولعله فيمن مدحهم ربنا سبحانه بقوله تعالى: "إنما يخشى الله من
عباده العلماء".
وهذا هو العلم النافع، الذي يقود إلى خشية الله تعالى،
ورحم الله ابن مسعود إذ يقول: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا.
وقال القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن
المبارك، فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل علينا هذا الرجل حتى
اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان
يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام نتعشى
في بيت إذ طَفيءَ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وأخذ يبحث عما يوقد به المصباح، فمكث
هنيهة، ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك
ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضُلَ هذا الرجل علينا، ولعله
حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القبر والآخرة.
وقال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة
أتى زمزم فاستقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابنَ أبي المنوال حدثنا عن محمد
بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ماء زمزم لما شرب له"
وهذا أشربه لعطش يوم القيامة.
وقال نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك:
قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر: (ألهاكم التكاثر)
إلى الصبح، ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
وقال نعيم أيضا: كان ابن المبارك يكثر الجلوس
في بيته فقيل له: ألا تستوحش، فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا
أنت صليت لم لا تجلسُ معنا، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين وأنظر في كتبهم وآثارهم
فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ويروى عنه رحمه الله أنه قال:
اغتنم ركعتين زلفـى إلى الله إذا كنت فـارغـا مستـريحـا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكـانـه تسـبيـحــا
فاغتنام السكوت أفضـل من خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
قال نعيم: ما رأيت أعقل من ابن المبارك
ولا أكثر اجتهادا في العبادة منه.
ومن كلامه رحمه الله: إن البُصراء لا يأمنون
من خمسٍ: ذنبٍ قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمرٍ قد بقي لا يدري ما فيه
من الهلكة، وفضلٍ قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالةٍ قد زينت يراها هدى، وزيغِ
قلبٍ ساعةً فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا
قرأ كتاب الرقاق، يصير كأنه ثور منحور من البكاء، لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء.
وكان رحمه الله مستجابَ الدعوة، قال أبو
وهب: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال هل: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري، فدعا
له، فرد عليه بصره وأنا أنظر.
ومن جوانب القدوة في حياة ابن المبارك رحمه
الله: جهادُه في سبيل الله ابتغاء رضى الله عز وجل، فلم يغتر بعبادته فيتركَ الجهاد،
وكان ينصح أصحابه ألا تقطعهم العبادة عن الجهاد، فكتب إلى الفضيل بن عياض رحمه الله
قائلا:
يا عـابد الحرمين لو أبصرتنـا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعـه فنحورُنـا بدمائنـا تتخضب
أو كان يُتعب خيلـه في باطـل فخيولنا يوم الصبيحـة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنـا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقـد أتانـا من مقـال نبينـا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبارُ خيل الله فـي أنفِ امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتـاب الله ينطـق بيننـا ليس الشهيـد بميت لا يَكذب
مع التنبيه إلى إن الجهاد في سبيل الله عبادة، والعبادة لا تصح إلا بشرطين
هما الإخلاص واتّباع السنة، فلا يكفي الإخلاص مادام المرء مخالفًا للسنة، وكم من
مدعٍ للجهاد في هذا الزمان والله أعلمُ بحاله، فالأمر خطير يا عباد الله، فالروح
واحدة والحياة واحدة فلا يحملنكم الحرص على الخير وحب الشهادة في سبيل الله على
تجاوزِ التثبت من كون السبيلِ سبيلَ سنة وهدى لا ضلالة ومعصية.
وفي شأن ابن المبارك قال عبيدة: كنا سريةً
مع ابن المبارك في بلاد الروم فصاففنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو
فدعا إلى البِراز، فخرج إليه رجل فبارزه ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت
فإذا هو عبدُ الله بن المبارك، وإذا هو يكتمُ وجهه بكمّه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا
هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!
وقال ابن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمرِ
بنِ سليمانَ بطرسوس فصاح الناس: النفيرَ، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان،
خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين
وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرجُ إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك
فقال: يا فلان، إن قُتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالجه ساعة فقتل
العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج وطلب البِراز، فكأنهم
كاعوا عنه، أي جبنوا وتهربوا فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا
أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحداً وأنا حي فذكره
عبد الله بعد موته.
وقال محمد بن الفضيل بن عياش: رأيت ابن
المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنتُ فيه، قلت: الرباط والجهاد؟
قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا وارحم
ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح فساد قلوبنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
إن في سيرة ابنِ المبارك دروسٌ عظيمة للتجار
وأصحاب الأموال.
أولُها: النية الصالحة في طلب المال، فقد
كان ابن المبارك ينوي بتجارته الإنفاقَ على المساكين والإنفاقَ على إخوانه، والقيامَ
بحاجات أهلِ العلم ليتفرغوا لبث علمهم في الناس. وكان
ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل:
لولاك وأصحابُك ما اتجرت.
وعوتب
فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده فقال: إني أعرف مكان قومٍ لهم فضل وصدق، طلبوا
الحديث فأحسنوا طلبه، ولحاجةِ الناس إليهم احتاجَوا، فإن تركناهم ضاع علمُهم، وإن أعناهم
بثوا العلم لأمة محمد، لا أعلم بعد النبوة أفضلَ من بث العلم.
كان ينفق بسخاءٍ ولا يتعلق قلبُه بالمال،
بل يقضي به حاجاتِ المكروبين ودينَ المدينين، جاءه رجل فسأله أن يقضي دينا عليه، فكتب
إلى وكيل له، فقال الوكيل للمدين: كم الدينَ الذي سألتَه قضاءَه، قال: سبعُ مئة درهم،
وإذا عبدُ الله قد كتب له أن يعطيَه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات
قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني، فأجز
له ما سبق به قلمي.
كان رحمه الله متفقداً لإخوانه وتلاميذه
ويكثرُ النفقة عليهم، وقد ضرب المثل في الإخلاص في تفقد حوائجهم ومشاكلهم ولا
نزكيه على الله، قال ابنُ عيسى: كان ابنُ المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل
الرَّقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث. فقدم عبد الله
مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة
آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلّفه ألا يخبر أحدا ما عاش، فأُخرج
الرجل.
وسار ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين
من الرَّقة، فقال له: يا فتى أين كنت، لم أرك؟ قال: كنت محبوسًا بدين، قال: وكيف خَلَصْت
قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد
الله.
وقال ابن شفيق: كان ابن المبارك إذا كان
وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذ
نفقاتهم فيجعلها في صندوق، ويقفلُ عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد بأحسن
زِيٍّ وأكملِ مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد:
ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفِها فيقول: كذا وكذا،، ثم يخرجهم إلى
مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة، فيقول
كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو،
فيجصصَّ بيوتَهم وأبوابَهم، فإذا كان بعد ثلاثةِ أيام عمل لهم وليمة وأرسل إليهم، فإذا
أكلوا وسُرُّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمَه.
وكان يقول: ليكن مجلسُك مع المساكين وإياك
أن تجلس مع صاحب بدعة.
لقد كان ابنُ المبارك إنسانًا مباركًا،
وإماما ربانيا يُقتدى به، ليس في حياته فقط، بل مازال واعظا لنا بسيرته ووصاياه وهو
تحت أطباق الثرى. قال أحد الفضلاء:
مررت بقبر ابن المبارك غـدوة فأوسعني وعظا وليس بنـاطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا
وبالشيب الذي في مفـارقي
ولكن أرى الذكرى تنبـه عاقـلا إذا
هي جاءت من رجال الحقائق
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وأله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق