إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 25 يوليو 2017

التعلق بالله تعالى.. الفضل والعلامات

 التعلق بالله تعالى.. الفضل والعلامات
الحمد لله على نِعَم لا تُحصى عددًا، وما أقضي بالحمد حقًّا، وأشكره ولم يزل للشكر مستحقًّا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له المالكُ للرقاب كلِّها رقًّا، كوَّن الأشياء وأحكمها خلقًا، وفتق السماء والأرض وكانتا رَتْقًا، و قسم العباد فأسعد وأشقى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ﴾
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أشرف الخلائق خَلْقًا وخُلُقا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وتقى، أما بعد:
 فلا إيمان إلا بتعلق, ولا عبودية إلا بتعلق, ولا إسلام إلا بتعلق, فمدار الدين على تعلّق القلب برب العالمين من جهة ربوبيته له وإحاطته به وحفظه وإمداده ورزقه, ومن جهة إلاهيته وحبه وعبادته وتوجّهه وإسلامه. فقلب المؤمن معلّق بربّه مهما باشرت يده تقليب الأسباب.  
والمؤمن يعلم أن الملك ملك الله, والخلق خلقه, والعبيد عبيده, فهو لا ينفك عن تعلقه بمن هذا شأنه سبحانه وبحمده.
والمؤمن الموفق يعلم أن الله خلقه لعبادته, وأن زبدة رسالة المرسلين هي تحقيق التوحيد وتجريد العبودية وحده لا شريك له "ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه صار يقول للناس: "قولوا: لا إله إلا الله" رواه أحمد بسند صحيح. ومعنى لا إله إلا الله: أن يكون التألّه - الذي هو حب القلب وخوفه ورجاؤه - لله وحده، فلا يكون القلب متعلقاً بغير الله جل وعلا.
والمتعلق بالله لا يُخذل في أشد الأهوال ولا يُنسى مع تتابع الكروب, بل تتتابع عليه ألطاف الملك الوهاب, وتتوالى عليه أمداد اللطيف الخبير, وهو ذاكرٌ لربه في كل حال, حتى مع التحام الأقران بتوالي الطعان ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
والمتعلق بالله لا تضيق عليه المخارج عند ادلهام الخطوب وتكاثف الغموم, قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "ضاق بي أمر أوجب غمًّا لازمًا دائمًا، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه. فما رأيت طريقاً للخلاص. فعرَضت لي هذه الآية: " وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً " فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم. فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج.
فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى، وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج.
ثم ينبغي للمتقي أن يعلم أن الله عز وجل كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب، فقد قال عز وجل: (ومنْ يتوكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حسبهُ ).
والمتعلق بالله بصير بحاله, عليم بعاقبة أفعاله, يعلم من أين يؤتى لذلك قلّت ذنوبه, حسن الظن بالمولى لذلك كثرت ضراعته وعظمت رغائبه, ويعلم أن لمولاه حِكَمٌ في تأخير إجابة دعواته أحيانًا.
عباد الله:  مَن تعلق بربه ومولاه كفاه ووقاه، وحفظه وتولاه؛ فهو نعم المولى ونعم النصير. ومَن تعلق بغيره وَكَلَه الله إلى مَن تعلق به؛ وخَذَلَه. قال وهبُ بن منبه: "أوحى الله تبارك وتعالى إلى نبيه داوُد عليه السلام: يا داوُد! أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم بي عبدٌ من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلتُ له من بينهن مخرجاً، أما وعزّتي وعظمتي لا يعتصم عبدٌ من عبادي بمخلوقٍ دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعتُ أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدمه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك" رواه أحمد.
إن المتعلق بالله لا يخشى غيرَه ولا يخاف سواه, لعلمه أن المخلوقين مهما أوتوا من قوة وخبرة وسلطان وبطش فلا يخرجون عن قَدَره وقُدرته طرفة عين, ولو اجتمعوا على أن ينفعوا أو يضروا أحدًا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون.
ومن تعلق بغير ربه فقد حكم على نفسه الحرمان وختمها بالخذلان, وأصل مادّة الشر في العالم هي من تعلق المخلوق بغير خالقه, وتأله قلبه لغير إلهه الحق, فما دخل القلب شرك بالله إلا من باب التعلق, فليعتن اللبيب الناصح لنفسه غاية العناية بحراسة هذا الباب لقلبه.
قال شيخ الإسلام: «والعبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره؛ فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله؛ فأعظم ما يكون العبد قدراً وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه، فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ولو في شربة ماء نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يُشرَك به شيء" قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "والله ما صدق اللهَ في عبوديته مَنْ لأحد من المخلوقين عليه ربَّانية".
وقال ابن القيم رحمه الله: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمَّل الله سبحانه حوائجه كلها، وحَمَل عنه كل ما أهمه، وفرَّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم؛ فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره.
فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته"
عباد الرحمن: وللتعلق بالله تعالى علامات ومنارات.
فمنها: الخضوع والخشوع لربه: فإذا تعلّق المؤمن بربّه فإنه يذل لأمره ويخضع ويخشع, ويعلم أن الأمر كله لله, وأن الدين دينه, فمهما جرت به رياح الأحكام فهو جارٍ معها رخيّةً كانت عليه أو شديدة, فالله خلقه ليبتليه وليظهر رسوخ قدمه في التسليم لأمره وشرعه. 
ومنها: الاستعداد للرحيل: ذلك أن المتعلق بالله مستعدٌّ للرحيل على الدوام, حازمٌ أمره قبل الموت, حاملٌ زاده قبل الفوت, حبلُ أمله في الدنيا أقصر من كراع نملة, وفي الآخرة أوسع من شعاع الشمس "ويجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً.
وَيَبكي عَلى الموتَى ويَترُكُ نفسه     ويزعَمُ أَنَّ قَد قَلَّ عَنها عَزَاؤُهُ
ولَو كانَ ذا رأىٍ وعقلٍ وَفِطنَةٍ      لكانَ عَليهِ لا عَليهِم بُكَاؤُهُ
ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان. ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا:
يعمّر واحدٌ فيغرّ قومًا      ويُنسى من يموت من الشبابِ
ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه. فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً. وإنما يقدم المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة لطول الأمل.
وإن لم تستطع قصر الأمل فاعمل عمل قصير الأمل. ولا تمسِ حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة فامحها بتوبة، أو خرقاً فارقعه باستغفار. وإذا أصبحت فتأمل ما مضى في ليلك. وإياك والتسويف فإنه أكبر جنود إبليس.
ومنها: تجديد التوبة النصوح: فالمتعلق بالله محسن لمتابه, فهو يعلم ان قلبَه محلُّ نظر ربه تعالى الذي لا تخفى عليه خافية, والحذرَ الحذر من المعاصي. فإن عواقبَها وخيمة.
فوا أسفاً لمعاقَبٍ لا يحس بعقوبته. قال ابن سيرين: عيرت رجلاً بالفقر فافتقرت بعد أربعين سنة.
فالله الله في تجويد التوبة وتجديديها عساها تكف كف الجزاء. والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات. فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر يصلح لك أحوال العلانية.
ومن علامات التعلق بالله: إحسان الظن بالمولى الكريم: فالمتعلق بربه كلّه أمل في فضله وكرمه وسعة رحمته, وتهش نفسه وتطرب لسماع البشارات للمؤمنين سائلًا ربه أن يسلكه سبيلهم, فهو منتظر لرحمة ربه في الآخرة, راغبًا راهبًا محبًّا, يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله: ومن علامات التعلق بالله تعالى: حراسةُ الوقت من الضياع: فالمتعلق بالله يعلم أن عمره قصير, وأن سنينه مهما امتدت وبسطت فمناه وآماله أكبر وأبعد من أن تحتويها, لذلك فهو يعمر الباقية ولو بخراب الفانية, فيجعل الدنيا معينة على تحصيل فوز الآخرة وفلاح الباقية, مجتهد في عمارة وقته بذكر الله وما والاه, مقدمٌ الأهم على المهم, متكامل في توزيع جهده, منظمٌ في ترتيب وقته, يقطع بحسن نيته وقوة عزيمته ما لا يقطعه الأفذاذ من أقرانه, متعلق بكليته بالله واثقٌ به متوكلٌ عليه مفوض أموره إليه.
يحزن للساعة التي يغفل فيها عن ربه, فإن اختلستها نفسه الأمارة, واستلبها القرين الرجيم حمل عليهما بنفس لوّامة لهما, فاستعاض عما سلف من غفلته بتدارك ما استقبله والاجتهادِ في تعويض ما فاته, فاطمأنت نفسه للخير الذي ترجوه, والأمل الذي ترقبه, فهو بين ادّكار واعتبار وفرح واستبشار, متقلب على مراضي ربه, مراوح بين الفرض والنفل, قد جهز راحلتي صبره وشكره, وزاملةَ زاد التقوى.
ومنها: توحيد التعلق بالله دون من سواه: وتفكر في قصة خطبة الصديق عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف علّق الناس برب الناس لا بغيره من مخلوقاته, فخطب الناس قائلًا: "أما بعد: فمن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر رضي الله عنه، فتلاها منه الناس كلهم؛ فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها" رواه البخاري. فأبو بكر رضي الله عنه قد احتمل هذ الخطب الجسيم لأن قلبه كان شديد التعلق بالخالق فوفّقه في ساعة الشدة, وتأمل فقهه بقوله: "فإن الله حي لا يموت" فيا لله! كم فيها للمؤمنين من ذخرٍ ورضى.
ومن العلامات: شدةُ الحرص على موارد حياة القلب ودفع أسباب ضعفه وموته. فلما كان القلب هو قطب رحى الإرادة, وصندوق ذخائر الإيمان, وبصلاحه صلاح النفس وفلاح المصير؛ كان له المحل الأرفع في استصلاحه وتنمية موارد الخير فيه والعمل على حراسته من غوائل الشيطان. ومن كان هذا حاله فهو البصير حقًّا والعاقل صدقًا, وعلى قدر صلاح القلب تكون نسبةُ تحسسه من دغل الذنوب وتفرسه في مآلاتها في حاله ومآله.
والمتعلق بالله حريص للغاية على رعاية أحوال قلبه. فالمتعلق بالله عن علم يخشى سقوطه من عين ربه لأدنى زلة, وخوفه من الله وخشيته وهيبته على قدر علمه به.
كما أنه يوطّن نفسه دائمًا لأحسن الأحوال مع الله مع اختلاف الأحوال عليه.
ومن أمارات التعلق بالله تعلقُ القلب ببيوت الله: فلما تعلق قلبه بربه هفت نفسه لبيوت الله التي رُفعت لذكره (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) فالمسجد هو قطب رحى راحة المؤمن فإذا خرج منه أحس ببَضعة منه بقيت خلفه فلا يطمئن حتى يعاودها، فهو ينتقل من صلاة لقراءة لذكر لتفكر لدعاء حتى اختلط حب المسجد بلحمه ودمه وعصبه، وكذلك المؤمنة في مصلاها في قعر بيتها فسلوتها وراحتها في صلاتها وذكرها ودعائها.

ويكفي المؤمن الذي أمسى بهذا الحنين لموطن السجود بشارةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله "رجل قلبه معلق بالمساجد" متفق عليه. فالمؤمن من عُمّار بيوت الله بقلبه وقالبه. والحمد لله رب العالمين. 

الرابط

التعلق بالله تعالى.. الفضل والعلامات


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق