أسباب
معينة على الصبر على البلاء
أسباب
معينة على الصبر على البلاء
الحمد لله..
عباد الرحمن إن المؤمن مبتلى، وقد أهبطه الله تعالى للأرض ليبلوه أيحسن أو يسيء، فالسعيد من عاد لربه وقد أفلح وأنجح، وقد خاب من أولاد آدم من رجع بخيبته وخسارِه، وربنا تبارك وتعالى يقول: (ولبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم)
واعلموا أن ثمّة أسبابٌ معينةٌ بإذن الله على الصبر على البلاء. قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
واعلموا أن ثمّة أسبابٌ معينةٌ بإذن الله على الصبر على البلاء. قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:
"أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها
مقدرة في أم الكتاب قبل أن يُخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهوده حقِّ الله عليه في تلك البلوى،
وواجبُه فيها الصبرُ بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور
بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتّبها عليه بذنبه كما قال الله
تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة،
فشغلُه شهودُ هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة، قال علي
بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها
وقسمها، وأن العبوديةَ تقتضي رضاه بما رضي له به سيدُه ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام
حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع
ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه،
فيذهب نفعه باطلًا.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء
والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته
فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره، قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى
أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقال الله تعالى: (فعسى أن تكرهوا
شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) وفي مثل هذا القائل:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه
وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليَه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من
أوليائه وحزبه أم لا، فإن ثبت اصطفاهُ واجتباه، وخلع عليه خِلَعً الإكرام، وألبسه ملابس
الفضل، وجعله من أولياءه وحزبه.
وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرد وصُفع قفاه
وأُقصي، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم
بعد ذلك بأنّ المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعمًا
عديدة.
وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة،
وتشجيعُ القلب في تلك الساعة، والمصيبةُ لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا
بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم،
وفضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أن الله يُربّي عبده على
السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرجُ منه عبوديتَه في جميع الأحوال، فإن العبد
على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال.
وأما عبدُ السراء والعافية الذي يعبدُ الله على حرف
فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم
لعبوديته.
فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية
هو الأيمان النافعُ وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل
المؤمنين، وإنما يصحبه إيمانٌ يثبُت على البلاء والعافية، فالابتلاء كَيْرُ العبد،
ومحكّ إيمانه، فإما أن يخرج تبرًا أحمرَ وإما أن يخرج زَغَلًا محضًا، وإما أن يخرج
فيه مادتان ذهبيةُ ونحاسية، فلا يزال به البلاء حتى يُخرج المادةَ النحاسية من ذهبه،
ويبقى ذهبًا خالصًا.
فلو علم العبد أن نعمةَ الله عليه في البلاء ليست
بدون نعمة الله عليه في العافية؛ لشغلَ قلبَه ولسانه بشكره، ولقال: "اللهم أعني
على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه أبو داود بسند صحيح.
وكيف لا يشكر من قيّض له ما يستخرج خبثَه
ونحاسه وصيّره تِبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظرِ إليه في داره.
فهذه الأسباب ونحوُها تثمر الصبرَ على البلاء، فإن
قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، وألا يفضحنا بابتلائه، بمنه
وكرمه"(1).
بارك الله لي ولكم..
..............
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده
الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة". رواه الترمذي. أي بصبّ البلاء
والمصائب عليه جزاء لما فرّط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم
القيامة، ومَن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلًا في الدنيا خف
جزاؤه عليه، حتى يكفّر بالشوكة يشاكُها، حتى بالقلم يسقط من الكاتب، فيكفر عن المؤمن
بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال
البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" رواه الدارمي بسند حسن. وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده
حتى يلقى الله وما عليه خطيئة" رواه ابن حبان بسند حسن.
قال شيخ الإسلام: المصائب نعمة لأنها مكفرات
للذنوب، ولأنها تدعو إلى الصبر فيثاب عليها، ولأنها تقتضي الإنابة الى الله والذل له
والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.
فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا،
ومعلوم أن هذا من أعظم النعم، ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه
عذابه بمصائبه، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق الا أن يدخل صاحبَها بسببها في
معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس
من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب أو الكفر
الظاهر أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه بحسَب ذلك،
فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة المصيبة.
كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في
حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل رحمةً للخلق، والله تبارك وتعالى محمود
عليها، فإن اقترن بها طاعةٌ كان ذلك نعمةً ثانية على صاحبها، وإن اقترن بها للمؤمن
معصية فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية.
فمن ابتلى فرُزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه،
وحصل له بعد ما كفّر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاةَ ربه عليه حيث قال:
(أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) فحصل له غفران السيئات ورفع
الدرجات، وهذا من أعظم النعم. فالصبر واجب على كل مصاب فمن قام بالصبر الواجب حصل له
ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أراد بعبده
الشر أمسك عنه" أي أخّر عنه العقوبة بذنبه "حتى يُوافِي به يوم القيامة"
أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما
يستحقه من العقاب.
وهذا – يا عباد الله - مما يزهد العبد
في الصحة الدائمة خوفًا أن تكون طيباتُه عُجّلت له في الحياة الدنيا، والله تعالى لم
يرض الدنيا لعقوبةِ أعدائه كما لم يرضها لإثابة أوليائه، بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في
جواره ورضي عنهم كما قال تعالى: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
1- طريق الهجرتين (1 / 502)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق