إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 11 مارس 2019

(هو سمّاكم المسلمين)


(هو سمّاكم المسلمين)
الحمد لله العليم الحكيم الرحمن الرحيم، أمر بالاعتصام بحبله المتين والاجتماع، ونهى عن الفُرقة والتنازع والضياع، جَعَلَ أُخوّة الدِّين من الدِّين، وأمر بالموالاة فيه كلَّ حين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقَ وقدّر، وملك ودبّر، وشرع ويسّر، فله جميلُ الحمدِ مقدّمهُ والمؤخّر، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيّ الخاتم والناصح المشفق والمصطفى الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا إنّ الأمة في هذا الزمن الذي استدارت على قصعتها أيدي الكفرة والفجرة، ورُميت من نبالٍ عديدة، وانكسرت على كاهلها النصال فوق النصال؛ لهي حقيقةٌ فورًا بنبذ أسباب التفرّق، وتحصيل طرائق الاجتماع، وما ذاك إلا بهُدى الله (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا). ولقد أمر الله تعالى عباده عند النزاع بالرجوع إليه فقال جل شأنه: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ذلك خير وأحسن تأويلًا) أي خير لكم في عواقبكم كلها في الدنيا والآخرة.
عباد الرحمن: إنّ داء الأمّة منها، كامنٌ في جوفها، ودواؤها في يدها إن رامت عافية وشفاءً، فمصيبتنا في أنفسنا أعظم من مصيبتنا بأيدي أعدائنا، ولو اعتصمنا بحبل الله حقًّا ما أدالهم الله علينا، لكننا خَذَلْنا دينَنا فخُذلنا، ولو عُدنا لرِحابه ورِياضه كما أُمرنا لعادت لنا عزتنا وشموخنا، ولقد استطال أهلُ النفاق وصالَ أهل الكتاب وشمَتَت أُمم الشرك حتى كادت أن تقول بلسان حالها: وعَدَلْنا مَيْل بدرٍ فاعتدلْ.
إن من أسباب غُثائية أمتنا في هذا الزمان: تشاحنُ وافتراقُ من تأكّدَ عليهم التَّحابُّ والاجتماع! فتفكّكت العُرى الجامعة فأمست أمتنا كما قال هاديها عليه الصلاة والسلام: "ولكنكم غثاء كغثاء السيل".
لقد عظّم الله أمر الاجتماع، وأمر به ونوّه بأهله، ولا بقاء للدين إلا باجتماع أهله عليه، ومتى تفرّقوا فيه تفرّقوا عنه، فجُوزُوا برفعِ العافية عنهم وإدالة عدوهم عليهم. وحديثُ حذيفة أصل في تعظيم شأن الاجتماع، فقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير. فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دَخَنٌ". قلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرفُ منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاةٌ إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ فقال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلّها ولو أن تَعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك".
 فيا عباد الله إياكم والانتساب لجماعات سوى المسلمين والمؤمنين، من مسميات وحزبيات تفرّق الناس ولا تجمعهم، ولتهنِكم تسميةُ الله لكم: (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا) وجواب الأُمَّةِ ربَّها يوم القيامة حين يسألهم: "من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون".  قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "من أمكنه الهُدى من غير انتساب إلى شيخ معيّن فلا حاجة به إلى ذلك ولا يستحب له ذلك، بل يكره له. وأما إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك؛ مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم، أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه؛ فإنه يفعل الأصلح لدينه. وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده. فأما الانتساب الذي يفرّق بين المسلمين وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة وسلوك طريق الابتداع ومفارقة السنة والاتباع؛ فهذا مما يُنهى عنه ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم". انتهى كلامه رحمه الله.
واعلم يا عبد الله أنّ مراعاة الاجتماع العام للأمة مع النقص أولى من تحصيل بعض السنن الخاصة، وتأمّل كيف أتمّ ابنُ مسعود خلف عثمان في منى وقال: "الخلافُ شرّ". وصلى ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما خلف الوليد بن عقبه مع سُكره مراعاةً للاجتماع، فأنْكَرَا ولم يُزايِلَا. وكذلك فعل أنس لما سأله رجل عن وقت الرمي فأخبره ثم قال: "افعل كما يفعل إمامُك". وقد أفتى الإمام أحمد من صلّى خلف من يقنت في الفجر بالمتابعة مراعاة للاجتماع، فالاجتماع مقصود لذاته، ومن أعظم الاجتماعات الاجتماع على الإمام الأعظم، وتأمل فضيلة تنازل الحسن رضي الله عنه سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته عن إمارة المؤمنين لمعاوية رضي الله عنه مراعاة لاجتماع المسلمين على إمام واحد، فاغتبط به أهل الإسلام حتى سمّوا ذلك العام: عام الجماعة. فلخطر مقام السلطان وخطر زعزعته على أمن الناس وسكينتهم ودينهم؛ قد شدد الشرع في حرمة الخروج عليه أو نقض بيعته أو شق عصاه بلا مبرر ومسوّغ من الشريعة، فلا بد للسلطان من هيبة لعدله، فهو كهفُ الرعية الذي إليه تأوي بعد الله. والوِلاية إذا لم يكن لها حراسة من الشرع تناهبتها الأطماع، فآخر ما يسقط من رؤوس الصديقين حب الرئاسة.
فعلى كل موفق أن يحرص على حفظ الجماعة من التشقق والتصدّع والفرقة وذهاب الريح، فكَدَرُ الجماعة خيرٌ من صفو الفُرْقة، قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). فالفُرقة لا يرضاها سوى مرضى القلوب، والحلّ عند النزاع هو الرجوع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ويكفي للفُرقة شؤمًا يا عباد الله أنها معصيةٌ لله تعالى، ومع ذلك فلها ثمار نكِدَةٌ مسمومة، فهي تقتل في الأمة روح وحدتها، وتكسر عضد قوّتها، وتخضد أشواك حِرَابِها عمّن راموا حَربَها.
 ومن ثمارها البشعة: حرمانُ بركة العلم، والوقوعُ في فخّ الجدل العقيم، وتسليطُ الأعداء، وإشغال أهل العلم والفكر والتوجيه بجهد لا طائل من وراءه، وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وشقّ عصاهم، والانشغال عن البناء إمّا بالهدم أو بالترميم، واضمحلال قدْر أهل العلم من صدور الناس، وحرمانهم من بركة علمهم وتربيتهم وسَمْتهم، وإفساد القلوب وقسوتها.. في قائمة لا تُحصى من حروف الخيبة والخسار، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولكم يحزّ في نفس المؤمن مرأى شبابٍ في عمر الزهور وميعة الصبا، يتقحّمون أمور الأمة الكبار، التي لا يُصدر فيها إلا عن مجامع فقهية، فيفتون في المسائل العظام رعونة وجهلًا. فخيرٌ لك – يا أيها الموفّق -الانصرافُ عن هذه الفتن المدلهمة كافّة، والانشغال بالتحصيل النافع والعمل الصالح والعبادة الدائمة. ومن أُعجب بنفسه سقط لأنْفِهِ. ومن رأى خلاف الصواب الذي يعتقده فعليه بيانه، فالمؤمنون نَصَحَةٌ والمنافقون غَشَشَة، لكن بدون تخوينٍ ولا تبديعٍ ولا تفسيقٍ وتحزيبٍ وسوءِ ظنٍ ورميِ أعراضِ عباد الله بالتُّهم جزافًا ظلمًا وعدوانًا.
عباد الرحمن: لقد جاءت الشريعة بالتأكيدُ على ضرورة الاجتماع، وسدِّ كل ذرائع النزاع والافتراق المذموم بالقول والعمل. وأولُ الاجتماع هو اجتماع القلوب على المحبة في الله والأخوّة في دينه. ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عبادَ الله إخوانًا". ويكفيك إيجابُ الله تعالى على نفسه الكريمة المقدسة بأن يُحبّ من أحبّ فيه، فيالها من كرامة ومنّة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: وجبتْ محبّتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذِلين فيّ".
وإن غربةَ الإسلام قد تستحكم في زمان ومكان وترتفع في غيرهما، وحكمة الله تعالى من وراء هذا كله، (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) بلى وعزةِ ربّنا. وعلى قدر استحكام غربة الإسلام تعظمُ مواطن الطلب لمواقف الأخيار. ورُبَّ مُبارَكٍ قد أسقط الله به عن الأمة العذاب بعدما حمَّ، وفروض الكفايات تنقلب للأعيان عند عدم الكفاية كلٌّ بحسَب ما أوتي، وعلى قدرِ ما بُسِطَ له. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "المتمسّك بدينه حال الغربة أسعد الناس، ويكون من جنس السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا، وفي الآخرة درجتهم بعد الأنبياء عليهم السلام". وخيرُ عباد الله من استعمله ربّه في طاعته، واستغرسه في عبادته، وكان في المكان والزمان والحال الذي ينبغي أن يكون فيه المرضيّون. اللهم اسلكنا جميعا في سبيلهم وانظمنا في سلكهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
ويا عبد الله كن من أهل تحقيق لا إله إلا الله ومن ذلك صدقك في الولاء والبراء لله وحده، فقد وَهَنَ هذا الأصل الإيماني في قلوب كثير من أهل الإسلام في هذا العصر، فكُن وليًّا لله ولدينه ولحزبه المؤمنين بريئًا متبرئًا من الشيطان وأحزابه، والله تعالى يقول: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فلا بد من مراجعة هذا الأصل على الدوام، ففي زمان اختلاط المفاهيم واتساع الشُّبه وتطاحن الأفكار؛ يبقى الولاء والبراء معيارًا لصدق الإيمان. قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: "إذا أردتَ أن تعلم محلّ الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى تزاحمهم على أبواب الجوامع، ولا تنظر إلى ضجيجهم في الموقف بـ"لبيك" ولكن انظر إلى مواطأتهم لأعداء الشريعة".
ويا أيها المؤمن: احتسب لله كل حركة وسَكَنة لك وأخلص دينك له وأبشر ببُشراه، قال ربنا جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) فخذ الدين كلَّه لا بعضه، واستقم كما أمرت لا كما اشتهيت، وانتهر صولة نفسك الأمارة برهبة الموقف غدًا بين يدي الجبار جل جلاله، وتذكّر ساعة: "إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضبْ قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي. ".. الحديث في الصحيحين.
بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
الحمد لله,,, كثيرٌ من الشباب يعيش في حيرة من أمره ويقول: إنّ الأمورَ قد التبستْ عليَّ، ولا أدري أين الجادة النبوية حتى أضمن السلامة.
 فأقول لكل من ضربته الحيرة: أيْ أخي الصالح، إنّ الحكمة عند الالتباس تقتضي التوقف تمامًا حتى لا تقع في الإلباس، وتكرعَ في حقوق الناس، لذلك فعُدْ بالأمر من أوّله، واترك هذه المناهج كلّها، واعتصم بالقرآن والسنة ففيهما مقنعٌ عن كلام الناس وجدالهم ومرائهم. وأول الانحراف: الخللُ في مصدر التلقي.
 واعلم أنك متى انطرحت بين يدي مولاك، وضرعت إليه بكفِّ فقيرٍ كسيرِ قلبٍ، وردّدتَ بصدقٍ وإلحاح: "اللهم ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لِمَا اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". وأخذتَ بأسباب الهدى؛ من الاعتصام بالله، ثم بما أوحاه من القرآن والسنة، ثم انشغلتَ بما أجمعَ عليه أهل العلم، فأكببتَ على حفظ كتاب الله وتفهّمه وتفسيره، وحفظ ما استطعت من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وقرأتَ عليها ما تيسر من شروح أهل السنة، وثنيت ركبتيك عند دروس من وثقت بعلمه وورعه، وثنيت خناصرك على كتب أهل الدعوة السلفية وما سبقهم من كتب الأئمة كشيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير ومن سبقهم من الأئمة الأعلام، وكنت ذا حظّ من عبادة ظاهرة وباطنة، وكانت لك خبيئةٌ من عملٍ صالح لم يطّلع عليه سوى علام الغيوب، واجتنبت ظاهر الإثم وباطنة؛ فأنا ضمين لك –بإذن الله -بتوفيقٍ وفلاحٍ. فالله تعالى لا يضيع أولياءه، ولا يردّ سائله متى بذل أسباب الإجابة ولو بعد حين، ولَتذوقنَّ حلاوة الأيمان، وانفساح الصدر، وانشراح النفس، وراحة البال، وهنأة العيش، والسلامةَ من قيل وقال، وردَّ فلانٌ وكتبَ فلان، وانظروا فضيحةَ فلان، وانشروا كلام فلانٍ في فلان ... إلى آخر ذلك الغثاء الذي لا يصفوا منه بعد التحقيق الا القليل مما قد كُفيته بردود الراسخين، دون الشاغبين المتفيهقين. وكلُّ أمرٍ تلجلجَ في صدركَ، وتردّدتَ فيه؛ فأَغمِضْ عينيك، ثمّ تخيّل مقامك بين يدي الله تعالى غدًا، فمتى كنتَ كذلك؛ فستعرفُ حينها ما ينبغي عليك فعله، إذْ قد زالتْ عن عينيك غشاوةُ الهوى. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ما سَجَتِ الغواسقُ، وهَمَتِ الغَوادِقُ، ودامتِ الخلائق، وعددَ أنفاسِ أهلِ الجنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق