الحب والشوق بين المشروع والممنوع
الحمد لله كثيرًا على ترادف نعمائه, والشكر التام الكامل له على تراكم آلائه, لا مستحقّ للحمد على التمام سواه, خلق فسوّى, وقدّر فهدى, أتمّ علينا النعمة, وألبسنا العافية, ومن كل ما سألناه أعطانا, فلك الحمد ربنا كما ينبغي لك, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, أحقُّ من عُبدَ, وأَولى من أُحِبَّ, وأكرمُ من أُطِيعَ, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيّه وخليله وكليمه, خطيب الخلائق إذا وفدوا, ومبشر الناس إذا يئسوا, الأنبياء قد سكتوا لنطقه, والأملاك قد اعترفوا بحقه, إمام العابدين, وخاتم المرسلين, وقائد الغر المحجلين, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة. أشهد أن قد كان نبيُّنَا محمدٌ محمداً في قوله وفعله وخَلْقِهِ وخُلُقِهِ, جامعاً لحذافير كمالات البشر, أرسله الله بالهدى ودين الحق, السعيدُ من اتّبعه, والشقيُّ من عصاه, جمع الله بيننا وبينه في أعلى جنته, وأحيانا وتوفانا على سنته, صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذرّ شارق وما درّ بارق, وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان, أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واستعدوا بجميل الدين وعظيم الإيمان وحسن العمل للقائه، ويا أخا الإيمان –رحمني الله وإياك-: ابحث عن رسائل الشوقِ إلى الله تعالى في القرآن العظيم، وتعاهدها بقلبك وجوارحك؛ تكن من أهلها بإذن الله تعالى. فالشوقُ لله عز وجل مِنّةٌ من الله يمنحها الأبرارَ من عباده، فحسن الظن الراسخ لا يكون إلا بعلم بالله وعَمَلٍ صالح قدّمه بين يديه قُربانًا إليه.
والشوقُ هو تَوَقان النفس إلى الشيء، فكلما أحبّت تحصيلَه؛ ازداد شوقُها إليه. والشوق قد يكون لمُتَعِ الحس، وقد يكون للروح، وقد يكون لهما معًا. وكلما كان الشيء أحب؛ كانت اللذة بنيله أعظم. وقد كان ابن تيمية يخرج أحيانًا إلى الصحراء يخلو عن الناس، فيتنفّس الصّعداء، ويتمثل ببيت قيس وينحو به نحوًا جميلًا جدًّا:
وأخرجُ من بين البيوت لعلّني ... أحدّثُ عنكَ النفسَ بالسّرِّ خاليا
قال الحسن: "لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة؛ لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه". فأعلى الشوق هو الشوقُ إلى لقاء الله تعالى. ومن دعاء النبي ﷺ: "وأسألك لذّة النظرِ إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضرّاء مضرة، ولا فتنة مضلّة".
والجنة دار المحبين، وأُمنية المشتاقين، وموعد المؤمنين مع رب العالمين. ومن الشوق العذْبِ شوقُ المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مِن أشدِّ أمتي لي حُبًّا ناسٌ يكونون بعدي، يودُّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله". وأبشر وابتهج، فالجنةُ لم ولن يُخلق فيها السأم والملل، ومهما امتدّ زمانها فنعيمها متجدد لا ينضب وسرورها دائم لا يفنى.
وتأمل حال يوسف عليه السلام، فمع ابتلاءاته الكثيرة الشديدة لم يقل (توفني) إنما قالها بعد تمام النعمة بالملك والعافية والأهل عليه، قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) لقد قاده الشوقُ للقاءِ الله.
لولا التعلُّلُ بالرجاءِ لقُطِّعَتْ ... نفْسُ المحبِّ صبابةً وتشوّقًا
ولقد يكادُ يذوبُ منه قلبُهُ ... ممّا يقاسي حسرةً وتحرُّقًا
ويا أخا الإيمان: احرس قلبك من شيطان العشق، فإنّ القلبَ الخالي منزلٌ لدائه، فإن أدركت نفسك قبل تمكّنه؛ وإلا فالخوف أن يضيع من عمرك سنوات عديدة وأنت تعاني سكْراته وسَكَراته وغلوائه ومراراته، ويكفي من شؤمه أنه يبعدك عن حبيبك الحق بقدر ما يستولى من نياط قلبك وشعب روحك. وإن كان قلبُك ليس في يدك، فتصرفك في يديك، ومتى ما أذلّكَ قلبك؛ فدُسْهُ بقدميك، ويا لَها من ركضةٍ إلى الملأ الأعلى.
فالعشق هو الحالةُ التي تجتمع فيها جميعُ أنواعِ الجنونِ واللا معقول، ورأى ابن عباس شابًّا يُهادَى بين رجلين لضعفه، قد عَشِقَ فاصفرَّ لونُهُ، وذَبُل جسدهُ، وشَخَصَ بَصَرُه، فما زال يستعيذ يومَهُ بالله من العشق.
نظرُ العيونِ إلى العيونِ هو الذي ... جعلَ الهلاكَ إلى الفؤادِ سبيلًا
ما زالت اللحظَاتُ تغزوا قلبَهُ ... حتى تشحّط بينهنَّ قتيلًا
وإنَّ خفق الفؤاد بالحُبّ المباحِ هو كالمِلْحِ بل كالسكّر؛ إن فُقِدَ كسدَتْ الحياةُ، وإن زاد تلِفَتْ. وقد يُبتلى المؤمن بحبّ يَذهبُ بشغاف قلبه، فعليه أن يُجاهده ليسلم من غائلته، ولو لم يكن منها إلا فوات نصيبه من محبة إلهه الحق، فالمحل واحدٌ، والمحبةُ متباينة.
ولا يُغبطُ عاشق، لأنّ قلبَه ليس له، ومشاعرُه تضطرم في غيرِ بِرِّ، وخفقَاتُه تنبضُ في غير هُدَى، وهِمّته لا تتجاوز كيان إنسانٍ مثله، ولو لم يكن فيه إلا صرفُ قلبِ صاحبِه عن المحابِّ العظيمة الجليلة التي خُلق لأجلها لكفاه. والعاشق مسكين، محتاجٌ لصَدَقَةِ الشَّفقة، فهو من أشقى خلق الله طُرًّا.
وما في الأرضِ أشقى من محبٍّ ... وإن وجدَ الهوى حُلوَ المذاقِ
تراهُ باكيًا في كل حينٍ ... مخافة فُرقةٍ أو لاشتياقِ
فتسخنُ عينُه عند التلاقي ... وتسخنُ عينُه عند الفراقِ
ويا أيُّها الراحلُ للآخرة: تذكّرْ أنّ لِمحبّةِ الله ورسوله ودينه قد ضَعَنَتْ ركائبُ الأبرار، وركضت خيل المقربين، فأدرِكْهم ما دمت قادرًا، قبل النومة الطويلة التي صحوتها انشقاق قبرك للحساب. وكلُّ شيءٍ يُحَبُّ لغيره إلا الله تعالى فيُحَبُّ لذاته. ومَن أحبَّ الله؛ أحبَّ كلَّ ما يُحبه الله. وتأمل حُبَّ أبي بكر وأبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما أحبّه جدًّا، ولكن الأوّل أحبه لله، والثاني أحبه لنفسه مع الله، فلما اختلفت الحقيقتان؛ اختلف المصيران.
إنّ قيمةُ الحب قيمةٌ إنسانية عظيمة جدًّا، وفي أعمال القلوب هي المُقدَّمة حتى على الرجاء والخوف، وفي غايتها مع الخضوع تكون العبادة التي هي جوهر التوحيد. ومن الوصايا المهمة لكل مؤمن: الوصيةُ بمراجعة الأسباب العشرة الجالبة لمحبة الله تعالى، وقد ذكرها وفصّلها تقي الدين ابن تيمية رحمه الله. وقال ابن القيم رحمه الله: "من قرّت عينه بالله؛ قرّت به كل عين، ومن لم تقرّ عينه بالله؛ تقطّعت نفسُه على الدنيا حسرات". وقال شيخ الإسلام: "ما يُبتلى بالعشق أحدٌ إلا لنقصِ توحيده وإيمانه". وقال أيضًا: "من أراد السعادة الأبدية؛ فليلزم عتبة العبودية". وفي النونية:
وعبادةُ الرحمنِ غايةُ حُبِّهِ ... مع ذُلِّ عابدِه هما قطبان
وعليهما فَلَكُ العبادة دائرٌ ... ما دارَ حتى قامتِ القطبانِ
بارك الله لي ولكم..
................................
الخطبة الثانية
الحمد لله..
يا عبد الله: كُن عالي الهمّة، سامق الهدف، بعيد الرؤية. فأيامُكَ الآن هي تاريخُك غدًا، فاكتب تاريخك بيدك؛ فقَدْرُ المرءِ هِمّتُه. واعلم أنّ ما عند الله خير وأبقى، وأعلى همة العقلاء الفردوس الأعلى بلا حساب ولا عذاب، قال عبد الغني المقدسي رحمه الله: "أبلغُ ما سأل العبدُ ربَّه عزّ وجل ثلاثة أشياء: رضوان الله تعالى، والنظر إلى وجهه الكريم، والفردوس الأعلى". نسأل الله الكريم من فضله وجوده وإحسانه وكرمه.
وإذا كانت النفوسُ كبارًا ... تَعِبَتْ في مُرادها الأجسامُ
وكان المحدث البرْزَاليُّ رحمه الله إذا قرأ حديثَ الذي وقصته ناقته وهو محرم فمات، وفيه: "فإنه يُبعث يوم القيامة ملبّيًا". بكى ورقّ قلبُه كثيرًا؛ فكانت خاتمتُه أن مات محرمًا رحمه الله. فهل في حياتك ما تحيا لأجله وتموت لأجله؟ وقل لي: ما هِمّتك، أقل لك من أنت. وسئل ابن باز رحمه الله: من أين لك هذا النشاط وقد جاوزت التسعين؟ فقال ذا الهمة الشابّة: "إذا كانت الروحُ تعمل؛ فإنّ الجوارح لا تكلّ". فالهمةَ الهمة يا مريد القمّة، والغنائمَ الغنائم أيها النائم.
وعاجزُ الرأيِ مضياعٌ لفرصتِهِ ... حتّى إذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القَدَرَا
وإنّ الهَمَّ جزءٌ من الهِمّة، يُحرق صاحبه حتى يُنضجَ طموحَه بإذن ربه. ولقد ألقى النووي رحمه الله كلمةً كاويةً لكل ذي همّة عالية فقال بنصح وإشفاق: "وليس بعاقل من أمكنه درجةَ ورثةِ الانبياء ثم فوّتها". فاجعل غاية هِمتك الفردوس الأعلى، ومن وصايا السلف: "من نافسك في الدين؛ فنافسه، ومن نافسك في الدنيا؛ فألقها في نحره". لبيك إنّ العيش عيش الآخرة.
وواعجبًا لبعض البشر، كيف يلتفتون ويحتفون بتفاهات لا تستحق مجرد التّنبّه لوجودها.. فلا تكن منهم لك الله! بل كن لله، فتغدو الضميرُ الحيّ حين تتكلّم، والنهرُ الرقراق حينما تنصح، والكلمةُ الباسلة حينما تتفجّر، واليدُ المُثخِنةُ حينما تُجاهد، والمبدأُ الشاهق حينما تتقدّم، والفوزُ العظيم المبين حينما تُبعث.
وما العجزُ إلا أن تشاور عاجزًا ... وما الحزمُ إلا أن تَهُمَّ فتفعلا
واعلم أنّ العبادة هي روح العلم وحياته، فلا ينفع العلم بلا عمل، وقد استضاف الإمام أحمد أحدَ طلابه، فوضع عنده الماء بعد صلاة العشاء، ثم نام الإمام أحمد، فلما كان الفجر وَجَدَ الماء لم يتغيّر، فقال متأسفًا متعجِّبًا: "طالبُ علمٍ لا يقوم الليل"!
ويا أخا الإيمان: استمتع بحياتك، فروحُك وديعة من الله في جسدك، فأنتَ وديعةٌ عندَكَ، فأعط الآخرة حقّها والدنيا حظها، (ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض) وقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يُحبّ أن يَرَى أَثر نعمته على عبده". ويبقى للنفس حقٌّ في سويعات يُخلى بينها وبين رغيبتها، ويُغضى عنها مع راحتها مع من تحب من طيّبي البشر. واعلم أنّ الدنيا لا تطيب إلا بطاعة الله، وأنّ الآخرة لا تُنالُ إلا برحمته.
نعم، لا تطيب الحياة إلا بالتقوى، فمهما انغمس المرء في لذائذها وتثنّى بين أعطافها، فسيبقى في صدره فراغٌ كبير وحشرجةٌ كاوية ووخزاتٌ مؤلمة لا يُذهبها سوى طمأنينتُه بصحّة مسارِ حياته، ويقينِه بقُربه من مولاه وشوقه للقياه.
فعليك بطاعة الله ثم استمتع بالزمان كيفما كان، ولا حلاوةَ للدنيا إلا بالإيمان، فعش يومك بسرور واستبشار، فإنّ يومك الآن هو مستقبلُك الذي كنت تنتظره بالأمس، وهو ماضيك الذي ستحنّ إليه غدًا، وتاريخُك الذي ترقمه بمواقفك. واستمتع بيومك فهو لن يعود، وبصحبك فلن تجدهم دومًا، وبدينك فهو الخالد معك، وابتهج بأجملِ ماضيك، وتفاءل بمستقبلك، فدينك دين الفرح بالله وفضله. (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
وتذكر أنّ العمر أقصر من أن نضيعه في لحظات لا تقودُ لبحبوحة الجنة، فتلك اللحظات أثمن من أن نهدرها في زحام السنين.
واعلم أنّ كثرةَ استدعاءِ الماضي يورث في النفس كآبةً وسوداوية، وكثرةَ التأمّل والانتظار للمستقبل يورثها قلقًا، وخيرٌ لك أن تعيش يومَكَ متفائلًا بالقادم مستحضرًا جميل الماضي. ولتكُن لديك – أيها الفاضل -خصوصياتٌ وخبيئاتٌ جميلات لا يعلم بها سوى ربُّ البريات تبارك وتعالى.
واحرص دومًا على مراضي الله تعالى فلكل يومٍ وظائفه فأدِّها تنل أجرها وذخرها، ومنها صيام الست من شوال، قال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر » خرجه الإمام مسلم في الصحيح . وهذه الأيام ليست معينة من الشهر بل يختارها المؤمن من جميع الشهر، فإذا شاء صامها في أوله، أو في أثنائه، أو في آخره ، وإن شاء فرقها ، وإن شاء تابعها ، فالأمر واسع بحمد الله ، وإن بادر إليها وتابعها في أول الشهر كان ذلك أفضل ؛ لأن ذلك من باب المسارعة إلى الخير . ولا تكون بذلك فرضا عليه ، بل يجوز له تركها في أي سنة ، لكن الاستمرار على صومها هو الأفضل والأكمل ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل » والله الموفق .
اللهم صل على محمد..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق