إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 21 أغسطس 2019

التوبة وسعة رحمة الله والدعوة إلى سبيله


التوبة وسعة رحمة الله والدعوة إلى سبيله
منقولة بتصرف وزيادات
الحمد لله رب العالمين، يسمع دعاء الخلائق ويجيب. يؤنس الوحيد، ويَهدي الشريد، ويُذهب الوحشة عن الغريب. يغفر لمن استغفره، ويرحَم مَن استرحمه، ويُصلح المعيب. يستر العصاة، ويمهل البغاة، ومن تاب منهم قُبِل وأثيب. من أطاعه تولاه، ومن غفل عنه لا ينساه، وله من الرزق نصيب. نحمده تبارك وتعالى ونرجوه الأمن والأمان والرضا والرضوان في يوم يسقط الجنينُ فيه والصغيرُ فيه يشيب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المهيمن والرقيب. من تبع شرعه والاه،
من آوى إليه آواه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به فهو مولاه، ومن ارتجاه مخلصًا لا يخيب. وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله المقرب والحبيب. خَلْقُهُ نعمة، ومبعثُه رحمة، وشمس سنته لا تغيب. هو تاجُ أولي العزائم، وقدوةٌ لكل صائم وقائم، وباتباعه تحلو الحياة وتطيب. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الصحب والآل ومن تبعهم بإحسانٍ يا قريب يا مجيب، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا إليه واستغفروه.
أيها المؤمنون، يحيط بابن آدم أعداء كثير، من شياطين الإنس والجن، يحسّنون القبيح، ويقبحون الحسن، تنضم إليهم النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والهوى، يدعونه إلى الشهوات، ويقودونه إلى مهاوي الردى. ينحدر في موبقات الذنوب صغائرِها وكبائرها، ينساق في مغريات الحياة، وداعيات الهوى، يصاحب ذلك ضيق وحرج وشعور بالذنب والخطيئة فيوشك أن تنغلق أمامه أبوابُ الأمل، ويدخل في دائرة اليأس من روح الله والقنوطِ من رحمته.
ولكن الله العليم الحكيم، الرؤوف الرحيم، الذي يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير؛ فتح لعباده أبواب التوبة، ودلهم على الاستغفار وجعل لهم من أعمالهم الصالحةِ كفارات، وفي ابتلاءاتهم مكفرات. بل إنه سبحانه بفضله وكرمه يبدل سيئاتهم حسنات: (والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:27، 28].
أيها الإخوة في الله، لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأ حصيناً، يلِجُهُ المذنبُ معترفا بذنبه، مؤملاً في ربه، نادماً على فعله، غيرُ مصرٍ على خطيئته، يحتمي بحمى الاستغفار، يُتبع السيئة الحسنة؛ فيكفر الله عنه سيئاته، ويرفع من درجاته.
التوبة الصادقة تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر والشرك ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. وقتلةُ الأنبياء ممن قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقالوا إن الله هو المسيح بن مريم -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا لقد ناداهم المولى بقوله: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:74].
فتح ربكم أبوابه لكل التائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وخاطبكم في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)) رواه مسلم، وفي التنزيل: (قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]،( وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء:110]، ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء. كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمن الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صواماً قواماً قانتاً لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
أيها المؤمنون، من تدنس بشيء من قَذَرِ المعاصي فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا أذنب عبد فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة: فليعمل ما شاء)) رواه البخاري، يعني مادام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه غيرَ مُصر.
عباد الرحمن: جاء من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله: أحدنا يذنب، قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه قال: ((يغفر له ويتاب عليه)). قال: فيعود فيذنب. قال: ((يكتب عليه)). قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: ((يغفر له ويثاب عليه. ولا يمل الله حتى تملوا)) رواه الحاكم بسند حسن.
وسئل علي رضي الله عنه عن العبد يذنب؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب. قيل حتى متى؟ حتى يكون الشيطان هو المحسور.
وقيل للحسن رحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا، فلا تملوا من الاستغفار.
إلى جانب التوبة والاستغفار ـ أيها الإخوة ـ تأتي الأعمال الصالحة من الفرائضِ والتطوعاتِ تُكفَّرُ بها السيئات، وتُرفعُ بها الدرجات. قال صلى الله عليه وسلم: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله يقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة". وقال: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر". وقال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وانصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام". أخرج كل ذلك مسلم في صحيحه من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهذا باب واسع لا يكاد يقع تحت حصر من طلب الرزق، وإطعام الطعام، وحسن الخلق، والسماحة في التعامل، وطلب العلم، وقضاء الحوائج، وحضور مجالس الذكر، والرحمة بالبهائم، وإماطة الأذى. فأبشروا وأملوا وأحسنوا الظن بربكم.
يضاف إلى ذلك يا عباد الله ما يصيب المسلم من البلايا في النفس والمال والولد، وما يَعرِضُ له من مصائب الحياة ونوائب الدهر، فهي كفاراتٌ للذنوب، ماحياتٌ للخطايا، رافعات للدرجات.
في خبر الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله له بها حتى الشوكة يشاكها)) وفي رواية: ((إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)). وفي الموطأ والترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة))، وفي رواية الموطا: ((ما يزال المؤمن يُصابُ في ولده وحامته ـ أي أقربائه وخاصته ـ حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة)).
أيها المسلمون، إن العبد إذا اتجه إلى ربه بعزم صادق وتوبة نصوح موقنا برحمة ربه واجتهد في الصالحات دخلت الطمأنينة إلى قلبه، وانفتحت أمامه أبواب الأمل، واستعاد الثقة بنفسه، واستقام على الطريقة، واستتر بستر الله.
 (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، أحمده سبحانه وأشكره وأسأله المزيد من فضله وكرمه، عليه توكلت وإليه متاب. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختارُ من أشرف الأنساب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ واعلموا أن من الناس من يخدعه طولُ الأمل، أو نَضْرَةُ الشباب، وزهرةُ النعيم، وتوافرُ النعم، فيُقدم على الخطيئة، ويسوّف في التوبة، وما خدع إلا نفسه، لا يفكر في عاقبة، ولا يخشى سوء الخاتمة. ولقد يجيئه أمر الله بغتة: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ [النساء:18].
ومن الناس من إذا أحدث ذنبا سارع بالتوبة، قد جعل من نفسه رقيبا يبادر بغسل الخطايا إنابة واستغفارا وعَمَلًا صالحا، فهذا حري أن ينضم في سلك المتقين الموعودين بجنة عرضها السماوات والأرض ممن عناهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين [آل عمران:135، 136].
فهذه حال الفريقين أيها المؤمنون، فاتقوا الله وأنيبوا إليه.
ولا تيأسوا يا عباد الله من  رحمته، ولا تتوانوا  عن الدعوة إلى سبيله، ومهما رأى الغيورون على حرمات الله من ضعف الاستقامة في الدين وانتشار الفساد وضعف الاحتساب ووهن الانقياد فعليهم بإحسان الظن بالله والعملِ على رفع أسباب الفساد بما شرعه الله لهم من أبواب تغيير المنكر وإقامة المعروف، وألّا يرفعوا عذاب الله بعذاب الله، بل بالتوبة والتجرّد والاستغفار وحسن الاتّباع، وما أكثرُ الأبواب المقدُورة في الواقع، ولكن الكسلَ والتراخي والإخلادَ إلى الأرض والعجلةَ والتواكُلَ مؤذنةٌ للمخذولِ بقذف الملامة على غيره وتزكية نفسه، والله المستعان. ولقد قال لقمان لابنه: يا بنيّ، إيّاك والكسلَ والضجر، فإنّك إذا كسَلتَ لم تؤدّ حقًّا، وإذا ضجرت لم تصبر على حقٍّ. (فلا تعجل عليهم إنما نَعُدُّ لهم عدّا).
ومن سنن الله تعالى أن المنكَر العام إذا لم يُحتسب في دفعه وإنكاره فإن العقوبة تكون عامّة، قال الكبير العظيم سبحانه: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) وقال: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد . أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).
ولقد كتب ابن تيمية كلامًا نفيسًا في وصف يأسِ بعض الناس عند رؤية العجز العام عن القيام بأمر الدين فقال: "وكثيرٌ من الناس إذا رأى المنكر أو تغيّرَ كثيرٍ من أحوال الإسلام جزعَ وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبةَ للتقوى، وأن ما يصيبَهُ فهو بذنوبه. فليصبر إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبّح بحمد ربه بالعشي والإبكار".
ولكل قلبٍ أضناه الحزن لعجز يده أو لسانه عن إنكار منكر: أنكِرْ بقلبك، ثم تدبر قولَ ربك: (ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون) وقولَه: (ولا تحزن عليهم). وكلما دهمك همٌّ بما تراه وتسمعه فردد متدبرًا قول الله تعالى: (ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض).
وما دام المؤمن متعلقًا بربه، محسنًا الظن به، تامّ الطمأنينة بتدبيره، مفوّضًا أموره إليه؛ فهو – والله -بخيرٍ مهما اشتدَّ بلاؤه. فلله في ثنايا ابتلائه منحًا عظيمة ونعمًا جليلة، لا يتصورها إلا من عرف ربه بجميل صفات كماله، وكفى بنعمةِ الصبر والرضى والشكر والحمد والإيمان نعمة، فلله الحمد كثيرًا.
ولا تحدثني عن دنياك مهما كان حالُك معها، لكن حدثني عن حالِ قلبك مع ربك، فهو محور سعادتك لأبد الأبد. ولقد كتب أخٌ لأحمدَ بنِ حنبلٍ أيامَ المحنة:
هذي الخطوبُ ستنتهي يا أحمدُ ...  فإذا جَزِعْتَ من الخطوب فمن لها
الصبرُ يقطعُ ما ترى فاصبر لها ... فعسى بها أن تنجلي ولعلّها
فأجابه الإمام:
صبَّرْتني ووعظتني فأنا لها ...  فستنجلي بل لا أقولُ لعلّها
ويحُلُّها من كان يملك عقدَهَا...  ثقةً به إذْ كان يَمْلِكُ حلّها
اللهم صل على محمد..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق