المغالاةُ في الدِّياتِ
الحمد لله تعالى الحكيم في تشريعه،
اللطيف في تدبيره، العليم الخبير ببواطن الأمور وظواهرها، شرح صدور المؤمنين
فانقادوا لطاعته، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، فلم يجدوا حرجا في الاحتكام
إلى شريعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينكم، وخذوا ما آتاكم
الله بقوة.
عباد الرحمن؛ إن كبار الأمور وجلائل
الأخطار قد تكون نتيجة لصغير الأشياء، كما قال طَرَفَة:
قَدْ
يَبْعَثُ الأمْرَ الكَبِيرَ صَغِيرُهُ … حَتّى تَظَلَّ لَهُ الدِّماءُ تَصَبَّبُ
فلرُبَّ كلمة هنا أو عمل هناك ترتب
عليهما خير عظيم أو شر جسيم، والأمور بمقاصدها، والحكيم الفقيه هو من عرف خير
الخيرين وشرّ الشرين، وحبس نفسه على مقتضى علمه وحكمته، قال سبحانه: (ومن يؤت
الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) وليست العبرة بقول لا يعضده عمل، ولا بعمل لا يقوم
على نيّة خالصة، فإن استقامت الثلاث قام الدين ونهضت الشريعة واستقام الحال في
العباد. والسعيد حقًّا من قفا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبدّل ولم يقصر.
وهذه الأمة مبتلاة في دمائها من عدوها
ومن أنفسها، والشيطان حريص على تزيين الشر وإملائه، ولا يزال يوسوس ويملي حتى إذا
اندفق الدم الحرام تبرأ منه! والسعيد من وُعظ بغيره، والشقي من وعظته نفسه، ولات
حين منزعٍ ورجوع!
وإذا تبع الناس كبراءهم في العلم
والحلم والعقل أوشكوا بإذن الله تعالى أن يفلحوا، فعن ذي الرِّمّة قال: شهدت
الأحنف بن قيس وقد جاء إلى قوم في دم، فتكلم فيه وقال: احتكموا، قالوا نحتكم ديتين.
قال: ذاك لكم. فلما سكتوا قال: «أنا أعطيكم ما سألتم. فاسمعوا: إن الله قضى بدية
واحدة، وإن النبي ﷺ قضى بدية واحدة، وإن العرب تَعَاطَى بينها دية واحدة، وأنتم اليوم
تطالبون، وأخشى أن تكونوا غدًا مطلوبين؛ فلا ترضى الناس منكم إلا بمثل ما سننتم!»
قالوا: رُدَّها إلى دية.
عباد الله؛ إن شرع الله هو الخير
بحذافيره، وعين الحكمة بتفاصيلها، وحسن العاقبة في الدارين، وأيّ زيادة أو نقص عنه
فهو انحراف عن الحق والهدى والسعادة بقدره. ومن ذلك: التعامل مع القتل العمد،
فالحالات فيه تختلف بحسب الأحوال، ولكن يجمعها تخيير أهل الدم بين الثلاث: العفو
مجّانًا لوجه الله تعالى، أو القَوَد بالقتل قصاصًا، أو الدية، فلهم العفو أو
القوَد أو العقل (1) وهي مقدار مئة من الإبل، وتقوّم من المال بمثلها.
أما الصلح المسمى الآن بشراء الرقبة، وهو العفو
عن القصاص إلى أكثر من الدية ففيه خلاف، فمن أباحه؛ فقد فسّر به الحديث الذي رواه
أحمد بسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «مَن قَتَلَ مُتَعمِّدًا دُفِعَ إلى أوْلِياءِ المقْتُولِ، فَإنْ شاءُوا
قَتلوا، وإنْ شاءُوا أخَذُوا الدِّيَةَ، وهِي ثَلاثُونَ حِقَّةً، وثَلاثُونَ
جَذَعَةً، وأربعون خَلفةً، وما صُولِحُوا عَلَيهِ فَهُو لَهُمْ». (2) فقوله
صلى الله عليه وسلم: "وما صُولِحُوا عَلَيهِ فَهُو لَهُمْ" هو الصلح
المستأنف بما زاد أو نقص عن الدية. (3)
وقال الشيخ الشنقيطي حفظه الله تعالى: "ومن
أدران الجاهلية والعصبيات الممقوتة عند بعض الناس: أن أولياء المقتول إذا قالوا:
لا نريد القصاص ونريد الدية، فإنه يُعتب عليهم، ويأتي أولاد العم والقرابة
ويقولون: أنتم لا تقدّرون أباكم، وأبوكم لا يقدر بثمن، وما هذه الدية؟ أترضون
بالمال دون دم أبيكم؟ أنتم كذا أنتم كذا ولربما هددوهم بالقطيعة -والعياذ بالله
تعالى- وهذا من مضادة شرع الله تعالى، ومن المحادَّة، ومن الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
فإن الله تعالى يحب العفو ويقول: ﴿وأنْ
تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾. وهؤلاء -نسأل الله تعالى السلامة والعافية- بخلاء
على أنفسهم، ويأمرون غيرهم بالبخل، فهؤلاء لا يجوز طاعتهم؛ لأنهم لا يريدون الخير
لمن عفا أو أراد أن يعفو، فالذي يريد أن يعفو ويقول: أسامح لوجه الله تعالى، فأجره
على الله عز وجل، والأفضل أن لا يأخذ شيئًا". (4)
وبعد؛ فمن تأمل مفاسد المغالاة في الديات ظهر
له خطر ما يتجه إليه بعض الناس في هذا الزمن، فمن مفاسد المغالاة في الديات التالي:
أوّلًا: أن العاقلة – وهم العصبة - لا تتحمّل شرعًا
دية القتل العمد، إنما تتحمل – ندبًا لا إلزامًا - دية الخطأ وشبه العمد، فكيف
يحمّلونهم الآن دية القتل العمد، ثم يضاعفونها عليهم بعد ذلك أضعافًا كثيرة! فإن
فعلوا وإلا وقع عليهم لوم الجُهّال.
ثانيًا: أن الدية ليس القصد منها بيع دم
القتيل، بل هي تعويضٌ لأهله عن بعض فقدهم له، لذلك روعي قدرها أن تكون مئة من
الإبل أو ما يساوي قيمتها، وهي عند أوساط العرب كافية مدى حياة ذويه إن أحسنوا
تدبيرها، فهي كفاية العائل وزيادة، أما حقه الخاص فموفور عند الله تعالى. وعليه؛
فإن المبالغة في طلب مبلغ الصلح كأن فيه نوعٌ من بيع دم القتيل، وفي هذا إرخاص له
مهما بلغت الأموال التي سعّروا بها دمه! والدنيا بأسرها لا تساوي عند أهله قيمته.
وهذا المعنى الرديء غير مراد للشارع البتة، فليس للمؤمن الحرِّ ثمن سوى الجنة.
ثالثًا: أن في
المغالاة تعجيزٌ
ومشقة وإضرار وتحريج للناس، وقد كانت دية الملوك في الجاهلية ألفًا من الإبل، أي:
عشر ديات عاديّة، فأبطل الاسلام ذلك، فجاءنا اليوم من يطلب مئة دية بل تزيد، وصرنا
نسمع من يطلب عشرات الملايين كستين مليونًا، بل مئة مليون ريال! وهذا مبلغ يوازي
مئتين وخمسين من الديات! فانظر كيف انتقلوا – لما تجاوزوا دية الشرع - من دية ملوك
الجاهلية عشر ديات إلى خمسين ومئتي دية، فأين هذا من
الإسلام؟! فأمر الجاهلية مذموم مرذول مُطّرَح، قال صلى الله عليه وسلم: "ذهب
أمرُ الجاهلية". (5)
رابعًا: أنها سبب لقطع أواصر القربى والأرحام،
بيان ذلك؛ أنّ ذوي القاتل يقطعون وجوه أبناء عمومتهم، بل أفراد قبيلتهم وإن تباعدت
بطونهم، في السعي لما يُسمّونه إعتاق الرقبة التعجيزي، ويلزمونهم بسيف الحياء
بالمساهمة في جمع المبالغ حتى وإن كانوا فقراء مدقعين لا يجدون قوت عيالهم، فيضطرهم
دفع معرّة تنقّص الناس لهم إن لم يساهموا إلى إثقال ظهورهم بالاستدانة، أو دفق ماء
وجوههم بالاسترفاد!
وصاروا على علّاتهم يحاولون صيانة وجوههم وستر أعراضهم عن مقاريض
الناس، فيستدينون كيما يساهموا بمبالغ لم يكلّفهم الله بها ابتداءً، إنما يفعلون
ما يفعلون دفعًا لعادية الشامتين بأن فلانًا – فعل الله به كذا وكذا - لم يقف مع
قومه، ولم يساهم معهم في عتق تلك الرقبة القاتلة، ويتهمونه بالبخل والشحّ،
والازورار عن مواقف القبيلة، وينتقّصون رجولته، ويزدرون شيمته، ويغمزونه بنقص
مقداره، لأنه لم يساهم في تحمّل تلك الملايين التي ما أنزل الله بها من سلطان، أما
من عجز عن المشاركة فحسبه اقتلاعهم شيمته وتسويدهم وجهه وإثلامهم عرضه، فينشأ عن
ذلك البغي قطيعة وإحِنٌ وشحناء وبغضاء، وهذا الأمر ليس محصورًا في المساهمة في
ديات الدماء، بل في غيرها. ولست في ذلك مبالغًا، فقد تأذّى فيه فئامٌ عندي خبرهم، علمًا
أن الفقير لا يُطلَب لعقل الدم، والله المستعان.
هذا؛ وقد تأخذ القبيلةَ النخوةُ والحميةُ
والعصبيةُ المجردة لإنقاذ ابنهم القاتل عمدًا وعدوانًا من السيف، وقد لا يكون صالحًا،
بل ولا عاقلًا رشيدًا، ولا مأمون الغائلة، ويعقدون الاجتماعات والاحتفالات
والمخيمات وينشدون ما يسمى بالشيلات، مع الغفلة المطبقة لدى كثير منهم عن محاويج
القبيلة وأيتامها وأراملها!
ولا يعني ذلك بحال ذم التعاون، إذ أن
التعاون على البر والتقوى قد أمر به الرحمن تبارك وتعالى، ويُشكر كثيرًا من فعله
وساهم فيه ودلّ عليه وأعان، وهو باب شريف عزيز من أبواب الجنة وشعائر الشريعة وشعب
الإيمان. وأصل المساهمة في جمع الدية – حتى وإن كانت على صلح - هي من شيم الإيمان
وأعمال البر والتزكية، فأوصي نفسي وغيري بالمبادرة إليها، والمشاركة في سُهمانِها
رأيًا وجاهًا وجهدًا ومالًا في سبيل رفع السيف عمّن استحقّه قضاءً بإرضاء ذوي الدم
بما يقدر عليه أوساط الناس، فإن غالوا وعجّزوا الناس وأشبهوا الأمر ببيع الدماء
افتخارًا واستطالة وعُلوًّا؛ فهنا يختلف الحال! فينبغي والحال هذه الاحتساب في هذا
الأمر بردّه إلى جادة عمل المسلمين عبر القرون بالدية المشروعة أو بالصلح المعروف،
أما التزيّد والمغالاة فليست من أعمال البر بسبيل.
وبالجملة؛ فلا بد قبل الهمّ بالمساهمة
والتعاون على احتمال الدية من ملاحظة أمرين:
الأول: أن هذا المأمور به هو من البر
والتقوى، لا الفخر والبغي وإرادة العلو في الأرض.
الثاني: أن يكون بقدر الاستطاعة، فلا
يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وهي في الأصل مندوبة مستحبة لا فريضة لازمة، وكل امرئ له
أولويات، فقوت العيال أولى وألزم، قال صلى الله عليه وسلم: "كَفَى
بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ". (6) أما إن زاد ماله عن
حاجة عياله وكفايتهم فجاد الله على من جاد، "والله في عون العبد ما دام
العبد في عون أخيه". (7)
خامسًا: أن الغلواء في قيمة الدية لا يخلو من
مفاخرة بقيمة الدماء، لسان حالهم: نحن القوم نفتدي صاحبنا بعشرات الديات، وأنا قد
جمعناها في وقت يسير، أو يقول الآخرون: لا يذهب وترنا إلا بها لعلو كعبنا على من
سوانا، فيفتخر الطرفان بتلك المغالاة، فانقلب الصلحُ فخرًا، وسبيلُ المعروفِ
منكرًا، وشِعَارُ البِرّ شرًّا!
واعتبر ذلك بما تراه من احتفالات ورقص وأشعار
ومفاخرة على غيرهم من الناس بأن قيمة الرجل منهم عن دياتِ كثيرٍ ممن دونهم، وهذا
معنًى أبطله الإسلام جملة. وصار حالهم فيه شبه من وجه بمعاقرة الأعراب فخرًا وسمعة
وصيتًا، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
عن مُعَاقَرَةِ الأعراب». (8) ومعاقرة الأعراب: أن يتبارى الرجلان من العرب في
الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلًا ويعقر هذا
إبلًا، حتى يُعجِز أحدُهما صاحبه. وهذا من فخر الجاهلية، وإنما نهي عنه لأنهما لم
يُريدا به وجه الله تعالى، وإنما أرادا إتلاف المال رياءً وسمعة ومفاخرة.
وإنّ مِن علل تحريم النياحة منع الفخر،
فكانت العرب اذا مات شريفُهم يعظّمون أمر موته، وينحرون الجزر ويطعمون الطعام
وينعونه في القبائل لينتشر ذكره وصِيْتُه في الناس، فرجع بنا الحال للفخر، (والله
لا يحب كل مختال فخور) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ، قال: "إنَّ
اللَّهَ أذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهِلِيَّةِ وفَخْرَها بِالآباءِ، إنَّما
هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وفاجِرٌ شَقِيٌّ، النّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وآدَمُ
خُلِقَ مِن تُراب". (9)
سادسًا: أن فيها تسهيلًا لقتل النفس التي حرم
الله، لأن القاتل يغلب على ظنه فداء قبيلته له ولو بعديد الديات، فيترتب على ذلك
التساهل في سفك الدم الحرام، وقد يقول حمالُ الحطب للغرّ الطائش: اقتل فلانًا
وسيسعى الناس في فكاكك.. ونحو ذلك، فيتخوّضُ في الدماء المعصومة بغير حق!
وقتلُ المؤمن بلا حق هو أعظم الجرائم في الإسلام
بعد الشرك بالله تعالى، والله تعالى يقول: (ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ
لَهُ عَذابًا عَظِيمًا)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتاه، فقال: أرأيت
رجلًا قتل رجلًا متعمّدًا؟ قال: (جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد
له عذابا عظيما)، قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أرأيت إن
تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى؟ قال: وأنّى له بالتوبة، وقد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "ثكلته أمه: رجل قتل رجلًا متعمّدًا، يجيء يوم
القيامة آخذًا قاتلَه بيمينه، أو بيساره، وآخذًا رأسه بيمينه، أو بشماله، تشْخبُ
أوداجُه دمًا في قبل العرش، يقول: يا رب؛ سل عبدك فيم قتلني؟". (10) وقال
صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينهِ
مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَرَامًا". (11)
سابعًا: قال تبارك وتعالى: (ولكم في القصاص
حياة)، ففي القصاص حكمة وخير وزجر للناس عن محارم الله تعالى، فالقتل أنفى للقتل،
ومن الناس من لا يزَعُهُ عن المحارم إلا سيف السلطان، ومن أعظمها الدم الحرام، فإن
رضي أهل الدم بالعفو فيا حسن ما اختاروه إن رأوا في عفوهم إصلاحًا، لأن العفو لا يكون محمودًا إلا إن غلب
على الظن إفضاؤه للإصلاح لا ضده، فالله تبارك وتعالى قال: (فمن عفى وأصلح فأجره
على الله)، وإن رضوا بالدية فهو خير وأجر وذخر، فإن عزموا القصاص فالواجب من
الجميع الرضا بحكم الله تعالى، فهو خير كله، قال سبحانه: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو
خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). ومن محكّات
صدق الإيمان التسليم لحكم الرحمن، قال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما).
ثامنًا: من مفاسد المبالغة في الديات دخول
السماسرة على خط جمعها، وليس كل من بذل جاهه مُتّهم – حاشاهم - بل الأصل في
المسلمين السلامة، وهم على باب خير عظيم وبرٍّ شريف، ولكن ثَمَّ فئة لوّثت وكدّرت
مشرب القوم هداهم الله تعالى، فقد صارت بأخرةٍ تجارةً رائجةً لدى بعض من يتصيّد في
الخفاء لعاعة دنيا من دماء الموتى!
كما أن بعضهم هو من أسباب رفع سقف
الديات لانتفاعهم بمقدارها نسبة وتناسبًا، فيجتهد في رفعها ليزيد كسبه، فيأكلون
أموال الناس بالباطل، ويوغرون مسارب القلوب ويوقدون مراجل الغضب في صدور أهل
القتيل، ثم يطلبون منهم المغالاة والتعجيز في طلب الفداء بما فوق الدية بأضعاف، ثم
يلتحفون سربال الليل لذوي القاتل بدعوى الإصلاح، وقد اشترطوا لأنفسهم من أهل
القتيل نسبة من دية الصلح!
أظهروا للنّاس
زهدًا ... وعلى الدينار داروا
لو سما فوق
الثّريّا ... ولهم ريشٌ لطاروا
تاسعًا: أن هذه المبالغات قد تُتّخذ سُنّة بين
الناس وعادة، فيقول القائل: ليس ابننا بأقل شأنًا من آل فلان؛ فيشتد الحال بأهل
الجاني وتُلحِفَهم المشقة من جهة، وقد يعجزون فيمتنع أهل الدم عن العفو إلا بتلك
المبالغ، فيفوت الجاني وأهله فرصة كانت الشريعة قد هيئتها لرفع السيف بالدية
المشروعة إن رضي عامة الناس بها.
عاشرًا: أن فيه إشغالًا لمشايخ القبائل
وخاصتهم وللناس ولرجال الدولة بأمور لا تكاد تنقطع، فالقتل العمد في هذا الزمان
كثير خطير، وقد تساهل الناس في أمره ووسائله ومقدّماته وتوابعه وأوزاره بما لا
يجوز السكوت عنه، والصلح خير، ولكن ما زاد عن حده انقلب لضده، ومن
ذلكم التساهل في قتل النفس التي حرم الله، فإنا لله وإنا إله راجعون.
وبالجملة؛ فبما أن العمل الآن على جواز هذا النوع
من الصلح فلربما يحسن تقييد قدره لمصلحة الناس، ودفع المعرّة والمشقة عنهم، فلو أن
ولاة الأمر بالسلطة والقضاء نظّموا ذلك، وشدّدوا على أهل التزيّد وحزموا الأمر،
وحجزوا الناس عن المبالغة الشديدة في اشتراط ديات هائلة لكان رشدًا ورفقًا وخيرًا.
ولو أن الناس تعاونوا فيما بينهم في إنكار
ذلك والاحتساب فيه؛ لكان خيرًا للناس، وليست هذه الحروف عن قلّة اهتمام بتحرير
الرقاب من الاقتصاص، لكنها محاولة لردّ أهل العقل والحلم لسبيل الرشاد، ولو أن
الامر كان ابتداء لهم ما وصل الحال بالناس لما نراه، ولكن علت أصوات، وسارت في
الناس أبيات، حينها عجز الحليم عن رد السيل الجارف من رؤوس ملأتها حُمّيّا حَميّة
الجاهلية.
مَتى
تَصِلُ العِطاشُ إلى ارتِواءٍ … إذا استَقَتِ البِحارُ مِن الرَّكايا
ومن
يثني الأصاغِرَ عَنْ مُرادٍ … وقَدْ جَلَسَ الأكابِرُ فِي الزَّوايا
إذا
اسْتَوَتِ الأسافِلُ والأعالِي … فَقَدْ طابَتْ مُنادَمَةُ المَنايا
وبالله
التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.
.............................
1. القَوَد:
القصاص، لأنه يُقاد إلى القصاص اقتيادًا، أما العقل فهو الدية، إما لأن الإبل تجمع
ثم تُعقل بفناء أولياء القتيل، أو هي من العاقلة وهم عصبة القاتل، وهم يتحمّلونها
في القتل الخطأ وفي شبه العمد، أما قتل العمد فمن مال القاتل، أما الكفارة فهي من
ماله بكل حال.
2. أحمد
(٢ / ١٨٣) قال: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا أبو النضر وعبد الصمد قالا: ثنا
محمد، ثنا سليمان يعني بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال:
«من قتل …» الحديث بألفاظ مقاربة، وعند الترمذي (١٤٠٦) بلفظ: «من قتل مؤمنا
متعمدًا...» الحديث بلفظ: "وما صالحوا" وزاد: "وذلك
تشديد العقل". قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح. وعند
ابن ماجه (٢٦٢٦) وزاد بعد قوله: "خلفة" قوله: "وذلك عقلُ
العمد"، وزاد في آخره: "وذلك تشديد العقل". وقد حسنه
الألباني (٢/٨٧٧) وجاء في السنن الكبرى للبيهقي (١٦١٢٩) بنحوه.
3. قال
العثيمين رحمه الله تعالى: "هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء؛ منهم من
يقول: إنه لا بأس أن الإنسان يأخذ أكثر من الدية مُصالحةً، ومنهم من يرى أنه لا
يجوز أن يأخذ أكثر؛ لأن الشرع جعل للنفس قيمة لا يجوز تعديها، فأخْذ أكثر منها
تعدٍّ لحدود الله، فنقول لأولياء المقتول: إما اقتلوا وإلا خذوا الدية، أما أن
تأخذوا أكثر لا يحل لكم؛ لأن الشرع عيَّن البدل والمبدل منه؛ المبدل منه القصاص
والبدل هو الدية.
وقال
بعض العلماء: إنه يجوز أن نصالح بأكثر، واستدلوا بقصة هدبة بن خشرم، حينما أمر
معاوية رضي الله عنه بقتله، فدفع الحسن وجماعة دفعوا سبع ديات، ولا يُقتل، ولكن
أولياء المقتول صمموا أن يُقتل، قالوا: فهذا فعل فعله الصحابة، وما فعله الصحابة
فهو حجة إذا لم يُوجد ما يمنعه.
أما
الذين قالوا: إنه لا يجوز، فاستدلوا بقول النبي ﷺ: «مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ
فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ». وذكر الدية أو القصاص، وهذا يدل على أنه لا
خيار له فيما سوى ذلك، ولا شك أن الاحتياط ألا يأخذ الإنسان أكثر من الدية إذا كان
يريد العفو، ولا يحب أن يقتص فنقول: خذ الدية، ولا تقتص". أهـ. الشرح الصوتي
لزاد المستقنع (٢/٣٥٨١) وقال: "رجح ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ليس له
إلا الدية فقط؛ لأنه ورد في حديثٍ رواه الإمام أحمد - لكن في سنده محمد ابن إسحاق
وقد عنعن - أن الرسول ﷺ حين قال: "القود أو الدية أو العفو"، ثم
قال: «فإن اختار الرابعة فخذوا على يديه». أي: لا توافقوه. ولهذا رجح ابن
القيم أنه ليس له أن يصالح بأكثر من الدية؛ لأن الشرع ما جعل له إلا هذا أو هذا؛
فإما أن تقتص أو الدية، والغالب في هذا أنه إذا قيل له: ما لك إلا الدية؛ فإنه
يختار القود". الشرح الممتع على زاد المستقنع (١٤/٦٢)
قلت: ولفظ الحديث المذكور: «من أصيب بقتل أو
خبل فإنه يختار إحدى ثلاث، إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية، فإن
أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم». أخرجه أحمد
(٤/ ٣١)، وأبو داود (٤٤٩٦)، وابن ماجه (٢٦٢٣)، والدارمي (٢٣٥١). وضعفه الألباني في
الإرواء (278 / 7) والأرناؤوط في تخريج سنن أبي داود (٦/٥٤٧) والخبل: الجرح. وكذلك
ضعفه الشيخ عبد المحسن العباد، وقال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن
أراد الرابعة فخذوا على يديه" أي: إذا طلب شيئًا أكثر مما حُدّد له وقُدِّر،
وهو أحد هذه الأمور الثلاثة، أو حصل منه اعتداء أو شيء لا يجوز الإقدام عليه،
فيؤخذ على يده ويمنع، وليس إلا أحد هذه الأمور الثلاثة فقط.. وسواءً كانت تلك
الدية هي المقدرة أو أكثر منها؛ لأن أخذهم للدية هو مقابل تنازلهم عن حق لهم، وإذا
لم يعطوا ما يريدون فلهم أن يقتلوا القاتل قصاصًا، وإذا طلبوا شيئًا وأعطوا إياه
فإنه يسقط حقهم في القتل قصاصًا". شرح سنن أبي داود (٥٠٥/٩) وانظر: الإحكام
شرح أصول الأحكام لابن قاسم (٣/٢١٧) وحاشية السندي على سنن ابن ماجه (٢/١٣٧).
4. شرح
زاد المستقنع للشنقيطي (6/٣٥٥)
5. أبو
داود (2 / 250) (2276) وصححه الألباني.
6. أبو
داود ( 1692 ) والنسائي ( 9176 ) وحسنه الألباني، ورواه ابن حبان (10 / 51) (4240)
وصححه الأرناؤوط.
7. مسلم
(2699)
8. أبو
داود (2822) وصححه الألباني.
9. الترمذي
(٣٩٥٥) وحسنه الألباني.
10.
أحمد (2142) والترمذي ( 2 / 171 )
والنسائي ( 2 / 164 ) وصححه الألباني والأرناؤوط.
11.
البخاري 9/2 ( 6862 ). والفسحة: السعة.