رائع هو.. إحسان الظن
الحمد لله وبعد: فمن شيم المؤمنين إحسانُ الظنون بعباد الله, فلا يتبعون سوءَ الظنّ إلا عند غلبة الشبهة, مع ذلك فلا يحقِّقُون سوءَ ظنّهم, بل يحملون لإخوانهم أعظمَ المعاذير, وأجمل المحامل, فيقول الصالح لنفسه وقد بلغه عن أخيه سوءٌ: لعلّ الخبرَ لا يثبت, لعلّها نميمةٌ وبهتان, لعلّ أخي المسلم الذي قيلت فيه القالةُ لم يقصد, لعلّه كان ناسيًا, لعلّه كان غافلًا, لعلّه لعلّه.. فيستطيلُ في تلمّس أعذارِ أخيه, فيروح وقد أراحَ فؤاده من حرارة الأحقاد, ووساوس المعاداةِ, فيكسب بذلك أربح التجارات, إذ قد ربح أجره, وربح راحة نفسه, وربح محبّة الناس له, وربح النُّجحَ في أموره لحسن نيّته, فالله شكور حميد, وربح حُسن العاقبة في الدنيا, فكم ممن قصد الإضرار بعبدٍ ثم تاب وأناب وشكر ذلك المضرور على إحسانِ ظنٍّ نفعه ولم يضرّه.
والطباع سراقةٌ, والجبلّات نزّاعة, وإنّما الحلم بالتحلّم, ومن فروع الحلم حسنُ الظنِّ, ويتأتّى بالدُربة والممارسة وتعلّمِ أسبابِ ذلك, وتلمّحِ موارده, والبحثِ عن متمماته, وفحصِ غوائلِ النفسِ, وتنظيفِ دغائلِها على من لا يستحقون سوى الإحسان.
قال الله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” قال بعض السلف: من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه. وقال رجل لمطيعِ بنِ إياس: جئتُك خاطبًا لموَدَّتك. قال: قد زوجتُكَهَا على شرط أن تجعل صدَاقَهَا أن لا تسمع فيّ مقالة النَّاس.
ومرض الشافعي رحمه الله، فأتاه بعضُ إخوانه يعوده، فقال للشافعي: قوَّى الله ضعفك. فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني. قال: والله ما أردت إلَّا الخير. فقال الشافعي: أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير. ألا رحمة الله على المُطّلبي, ما أحكمه وأرحمه وأحسن ظنه!
ومن رام النجاة فليأخذ بأسبابها, وليتعلّق بِعُراها, وما ثمَّ إلا توفيقُ الله تعالى وهُداه, وقد جعل الله لذلك أسبابًا فمنها:
أن يلتمسَ الأعذارَ للمؤمنين، قال ابن سيرين رحمه الله: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد، فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه. وفي التماس الأعذار راحة للنَّفس من عناء الظَّن السَّيئ، الذي يشغلها ويقلقها، وفيه أيضًا إبقاءٌ على الموَدَّة، وحفاظ عليها من الزوال والانتهاء. وكان بعض الصالحين يردّد:
تأنَّ ولا تعجلْ بلومِكَ صاحبًا ... لعلّ له عذرٌ وأنتَ تلومُ
ومنها: إجراءُ الأحكام على الظاهر، وإيكالُ أمر الضَّمائر إلى الله العليم الخبير، واجتناب الحكم على النِّيَّات، فإنَّ الله لم يكلِّفنا أنَّ نفتِّش في ضمائر النَّاس. لذا فالاكتفاء بظاهر الشَّخص، والحكم عليه من خلاله، من أعظم بواعث حُسْن الظَّن، وأقوى مثبتاته.
إذا ساء فِعلُ المرء ساءتْ ظنونهُ ... وصدّق ما يعتاده من تَوَهّمِ
قال أبو حامدٍ رحمه الله: إنَّ الخطأَ في حُسْن الظَّن بالمسلم، أسلمُ من الصَّواب بالطَّعن فيهم، فلو سكتَ إنسانٌ مثلًا عن لعن إبليس، أو لعن أبي جهل، أو أبي لهب، أو من شاء من الأشرار طول عمره، لم يضرَّه السُّكوت، ولو هفا هفوة بالطَّعن في مسلم بما هو بريء عند الله تعالى منه فقد تعرّض للهلاك، بل أكثرُ ما يُعْلمُ في النَّاس لا يحلُّ النُّطق به؛ لتعظيم الشَّرع الزَّجرَ عن الغيبة، مع أنَّه إخبار عما هو متحقِّق في المغتاب.
هذا وقد أجاز العلماء بعض صور سوء الظن, كمن بينه وبين آخر عداوةٌ, ويخاف على نفسه من مَكْرِه، فحينئذ عليه أن يحذَرَ مكائدَهُ ومَكْرَه؛ كي لا يصادفه على غرَّة فيُهلِكَه. ومن ذلك من أظهرَ المعصية وتخلف عن الطاعة بلا عذر, كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنَّا إذا فقدنا الرَّجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر، أسأنا به الظَّنَّ. رواه البيهقي بسند صحيح.
قلت: وشتّان بين ظنِّهم وظنِّ أحدِ الناس الذي فقد جارَهُ عن شهودِ الجماعة بضعةَ أشهر, فأخذ في الكلام في عرضه, والحطِّ من قدره, وأن فيه من سيما المنافقين, وكذا وكذا.. ولم يكلّفْ نفسه السؤالَ عنه, ولا احتمالَ حسنِ الظن به. وفي أحد المجالس بعدما أرغى وأزبد وانتفخ بالباطل, ردّ عليه أحد جيرانه: إن فلانًا الذي ما زلتَ تتكلمُ فيه قد كان مصابًا بمرض خطير ألزمه البيت ستّة أشهر, ثم توفاه الله بعدها, فأُسقطَ في يدِ صاحبنا! ولكن بعد خراب البصرة!
إن حسن الظن هو القاعدة, وسوؤه مع مبرّره الملحُّ هو الاستثناء, فإن انقلب الاستثناءُ قاعدةً هَلَك الناس! قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: لا يحلُّ لامرئ مسلم يسمع من أخيه كلمةً يظنُّ بها سوءًا، وهو يجد لها في شيء من الخير مخرجًا.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من علم من أخيه مروءةً جميلةً فلا يسمعنَّ فيه مقالاتِ الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى.
فعلى المؤمنِ الناصحِ لنفسه أن لا يبحث لها عن المعاذير والمخارج, وأن لا يُرْكِبَهَا قلائصَ التأويلِ التي لا تُغني عنه من الحق شيئًا, في إساءة الظن بما لم يؤذن له فيهم من المؤمنين, بل عليه أن يسيءَ الظن بنفسه, ويحسن الظن بالعباد, وقد حسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر فقال: "إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا" رواه أحمد, قال النَّووي: المراد: النَّهيُ عن ظنِّ السَّوء، وقال الخطَّابي: هو تحقيقُ الظَّن وتصديقُه دون ما يهجسُ في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك. ومراد الخطَّابي: أنَّ المحَرَّمَ من الظَّن ما يستمرُّ صاحبُه عليه، ويستقرُّ في قلبه، دونَ ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإنَّ هذا لا يكلَّفُ به.
ومن جميل أقوالهم: السِّتر لما عاينت، أحسن من إذاعة ما ظننت. وقال أحد الزُّهاد الحكماء: أَلقِ حُسْنَ الظَّن على الخَلْق، وسوءَ الظَّن على نفسك، لتكون من الأوَّل في سلامة، ومن الآخر على الزيادة.
أيها المؤمنون: تكلّم أحدهم على الحسن ثم ندم واعتذر؛ فعفى عنه وأوصاه بقوله: لا تخرجنّ من بيتك وفي نفسك أنك أفضلُ من مؤمن تلقاه قط.
إبراهيم الدميجي