(لَعلّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)
الحمد لله ............وبعد:
فالأنعام سورة عظيمة من القرآن العظيم, وجُلُّها في ترسيخ المعتقد الحنيف وبيان صفات الجليل الجميل سبحانه, وقد اشتملت من القوارع والزواجر ما فيه كفاية للمؤمنين, روى الطبراني رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلًا جملة واحدة, حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح" حسّنه ابن حجر. ومن قرأ صدرها بتدبر لم يملك قلبه إلا أن يخفق رَهَبًا وإجلالًا ومحبة ورجاءً لله رب العالمين.
وقد بين الله في هذه السورة الجامعة سنة كونية جعلها ناموسًا للبشرية بعامّة, وهي تكشف البُعد القِيَمي لفضيلة الشكر مع توضيح عاقبة ضده من المحق والسحق بعد الإمهال والاستدراج, وأن الرزايا الدنيوية هي في حقيقتِها تنبيهات للمؤمن كي يقشع عن قلبه غبار المعصية وقَتَرَ الخطيئة ويرجع لطمأنينة الطاعة وسكينة الإيمان, قال تبارك وتعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) كم نحن بحاجة ملحة لمثل هذه الجرعات الإيمانية التي تحقن في قلب المؤمن حب التوبة وعدم الركون للزائلة والاعتبار بمن غبر والاعتصام بالله تعالى والضراعة إليه والانكسار بين يديه. فما أقرب العبد من رحمة ربه إذا ألقى لربه مقاليد أموره وتبرأ من الحول والطول إلا به وابتهل إليه ابتهال المضطر الملهوف, واعترف بذنبه وخضع وخشع.
البأساء هي الفقر وضيق العيش, أما الضراء فهي الأسقام والآلام, والتضرع هو الدعاء الملحّ مع الافتقار والانكسار, وتلك المحن عتاب لطيف لتثوب الأمم لربها عن معصيته, فابتلاهم بالشدة ليضرعوا إليه فلما لم يفعلوا ابتلاهم بالنعم, وهذا من المكر بهم, وهذا الاعتبار للفرد وللجماعة, ثم قال الله تعالى: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) وهنا إغراء وتوبيخ, أي فهلّا إذ ابتليناهم وامتحنّاهم بذلك عادوا إلينا بالتوبة والندم والاعتراف؟! ولكن الحاصل أنّهم أصروا على تنكّب محجّة التوابين وبدلًا من توبتهم ازدادوا جرمًا وكفرًا فعوقبوا بالرّان والقسوة على قلوبهم, وأبعد القلوب عن الله هو القلب القاسي, ومن لم تلينه مواعظ القرآن وتغير الأحوال فلينتظر المليّن الأعظم بنار تلظّى, عياذًا بوجه الله تعالى.
وإن من أشد العقوبات على الذنب أن يُبتلى المذنب بذنب آخر فتجتمع عليه حتى تقسّي قلبه وتوبق مثواه! ويزيّن الشيطان عملَه السيّء حتى إذا وافاه غدًا وحقّت الحقائق وذابت الشهوات وانقشعت غيوم الغفلات تبرأ منه!
ثم قال الله تعالى: (فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) أي فلمّا تركوا الحق خلفهم وأعرضوا ابتلوا بفتح الدنيا ولذتها الزائفة ولحظتها الزائلة, فأصاب سكرُ الغفلة قلوبهم في مقتل, وفرحوا بسحابة صيف مارّة, وتباشروا بلعنةٍ في لباس نعمة! فأتاهم العذاب بغتة فاصطلم نعيمهم وسحق دنياهم, وألحقهم بنار الأبد فما أشقاهم! والمُبْلِسُ هو الآيس من كل خير, وأشد العذاب ما كان بغتة. فعلى الناصح لنفسه أن يسيء الظن بنفسه ويحسن الظن بربه. قال قتادة رحمه الله: بغتَ القومَ أمرُ اللهِ, وما أخذ الله قطُّ قومًا إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغِرَّتهم, فلا تغترّوا بالله. وقال الحسن رحمه الله: من وُسِّع عليه فلم ير أنّه يُمكر به فلا رأي له. وقال إسماعيل بن أبي رافع رحمه الله: من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة.
وقد ثنّى الله هذه الموعظة في سورتي الأعراف والمؤمنون قرعًا لقلب كل ناصحٍ لنفسه مريدٍ سعادتها لأبدِ الأبد, ففي سورة المؤمنون قال سبحانه: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون) وفي الأعراف: (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون) فلم يضرعوا لربهم فأمهلهم وأملى لهم, ثم استدرجهم بإدرار الأرزاق عليهم ورفع بلاء الدنيا عنهم فقال: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا) أي كثر عديدهم وزاد نفرهم وانبسط نعيمهم فطغوا ولم يخضعوا وكفروا ولم يشكروا (وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء) أي هذا فعل الأيام وما نحن إلا كغيرنا ممن سبق, فكانت سنة الله أمامهم ومن فوقهم فغدوا كأمس الدابر فجأة: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون)
ثم قال سبحانه بعد تحذير الناس من عذابه بياتًا أو ضحى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) أشهد أنهم خاسرون كل الخسار, عياذًا بالله من مكرِه, وفي المسند بسند حسّنه الأرنؤوط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج) وقال الحسن: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجلٌ, والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن. اللهم عفوك وغفرانك ورحمتك.
وبعد: فهلّا نظر كل منا لنفسه ونقدها نقد بصير, واستعان بالله في هدايتها لتكون مطمئنة للحق علمًا وعملًا, ساعية لبحبوحة الجنة وفردوسها الأعلى, فالجنة تريد عملًا لا كسلًا وجِدًّا لا لعبًا, وهي يسيرة على من يسرها الله له, وليس بين ولي الله وبينها إلّا أن تخرج الروح من الجسد, مالم تحبس في كبيرة أو دَيْنٍ. وكل نعيم دونها غرور, وكل ساعة في رياضها سرور, (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة).
وخيرًا نفعل لأنفسنا إن أصغينا إلى مواعظ القرآن, فالحياة تنحسر عنا شيئًا فشيئًا حتى يحين رحيلنا الأخير, اللهم اجعله لجنات النعيم.
أخي المؤمن: هل رأيت وجه الموت بحادث أو مرض ونحوه ثم توارى عنك؟ اعلم أنها رسالة من الدار الآخرة وبرقية من البرزخ فاجعلها منك على ذُكرٍ وللحميد شاكرًا حامدًا محبًّا.
إبراهيم الدميجي
20 رمضان 1435
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق