يا معاذ.. ليكن أول ما
تدعوهم إليه أن يوحدوا الله
الحمد لله....................... وبعد:
فتوحيد رب العالمين, وإله السماوات ولأرضين, هو تحقيق للشهادتين, وهو أعظم
التكاليف بإطلاق, كما قيل: أمرٌ هذا شأنه؛ حقيق أن تُثنى عليه الخناصر, ويُعضّ
عليه بالنواجذ, ويقبض فيه على الجمر, ولا يؤخذ بأطراف الأنامل, ولا يؤخذ على فضلة,
بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يُطلب على الفضلة. ومن لطف الله ورحمته أن
جعل حروف لا إله إلا الله كلها لسانية ليس منها حرف شفهي, كي يسهل نطقها على
المحتضر, «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود وعند
الشيخين مرفوعاً: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».
والتوحيد هو حقيقة
الإسلام الذي جاء به نبينا صلوات الله وسلامه عليه, قال الإمام المجدد في الأصول
الثلاثة: «...وهذا دينه, لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلّا حذرها منه، والخير
الذي دلها عليه؛ التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه. والشر الذي حذرها منه؛ الشرك
وجميع ما يكره الله ويأباه».
وكلمة التوحيد قامت بها
السماوات والأرض, وخُلق من أجلها الخلق, ونصبت من أجلها الموازين, وقام لأجلها سوق
الجنة والنار, وأسست بها الملة, وجردت لأجلها سيوف الملة.
قال الشيخ حمد بن عتيق
في إبطال التنديد: «توحيد الألوهية أول واجب على المكلف, وقد أفصح القرآن فيه كل
الإفصاح, وأبدى فيه وأعاد, وضرب لذلك الأمثال, وفيه وقعت الخصومة بين الرسل
وأتباعهم» وبوّب الإمام المجدد في كتاب التوحيد (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا
حساب ولا عذاب) وفي حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على ذلك الباب: «تحقيق التوحيد
قدر زائد على ماهية التوحيد, وتحقيقه من وجهين؛ واجب ومندوب؛ فالواجب تخليصه من
شوائب الشرك والبدع والمعاصي, فالشرك ينافيه بالكلية, والبدع تنافي كماله الواجب,
والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه. والمندوب هو تحقيق المقربين الذين تركوا مالا بأس
فيه حذراً مما فيه بأس, وحقيقته انجذاب الروح إلى الله فلا يكون في قلبه شيء
لغيره».
وتأمل كيف كان التهليل
– وهو شعار التوحيد - من أعظم مكفرات الذنوب, قال شيخ الإسلام: «التهليل يمحو أصول
الشرك, والاستغفار يمحو فروعه».
والدعوة إلى التوحيد هي
مهمة المرسلين وأتباعهم, ومن أجلها حصل الافتراق العظيم بين الرسل وأقوامهم
المكذبين. قال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من
تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً» رواه مسلم. وقال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى
خيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق على صحته.
وشريعة الإسلام شديدة
في التوحيد, سمحة في الأحكام, كما جمعهما حديث: «بعثت بالحنيفية السمحة» رواه
أحمد. (حنيفية) أي: في العقيدة ففيها التشديد, فقد قال للذي قال: ما شاء الله
وشئت: «أجعلتني لله نداً» رواه أحمد والنسائي. (السمحة) أي في التشريع «صلّ قائماً
فإن لم تستطع فقاعداً...» رواه البخاري.
وفي الدعوة إلى التوحيد
قال الحسن البصري بعدما قرأ هذه الآية: «هذا حبيب الله, هذا ولي الله, هذا صفوة
الله, هذا خيرة الله, هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس
إلى ما أجاب فيه من دعوته, وعمل صالحاً في إجابته». رواه عبد الرزاق عن معمر.
ولمّا اتهم بعض الناس
إمام الدعوة بأنه طالب دنيا أجابهم بكتاب وضح فيه التوحيد وضده, ثم قال: ولو كنتم
تعلمون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم, ولكنكم
قوم لا تعقلون!
وشرطا الدعوة؛ الإخلاص
والمتابعة. وصفات الداعي؛ الفقه؛ ليعلّم على بصيرة, والرفق؛ وهو أقرب الطرق لنيل
المقصود, والحلم؛ للصبر على الأذى في طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء. وشرط التمكين
للأمة إنما هو التوحيد ﴿يعبدونني لا يشركون بي شيئًا)
وضده الشرك, وهو أظلم
الظلم, وأقبح الذنوب ﴿إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما
للظالمين من أنصار﴾
واعلم أن تهوين شأن
الشرك الأكبر في غاية الخطورة, فلو أن رجلاً يقوم الليل, ويصوم النهار, ويحج كل
عام, ويعتمر كل شهر, ويتصدق بكل ماله, ويجتهد في أعمال البر, ثم وقع في شرك أكبر؛
كدعاء الموتى, والاستغاثة بهم, ونحو ذلك, وقد قامت عليه الحجة الرسالية, فعمله
حابط, وجهده خائب, وسعيه مردود, عياذاً بالله تعالى: ﴿وقدمنا إلى ما عملوا من عمل
فجعلناه هباء منثورًا﴾ فالشرك الأكبر إذا طرأ على الإيمان فإنّه ينقضه بتمامه, كما
الحدث في الطهارة يبطلها.
وليس العمل بنافع
مالم يسلم من نواقضه, وأعظمها الردة عن دين الله, لذلك لمّا احتج بعضهم على شيخ
الإسلام إبّان دخول التتر الشام بأن التتر مسلمون ويشهدون شهادة التوحيد! رد عليهم
الشيخ بأنهم نقضوا ذلك, وقال: إن رأيتموني في ذلك الجانب ــ أي صف التتار ــ وعلى
رأسي مصحف منشور فاقتلوني.
فمسألة البراءة
من المشركين عظيمة الخطر, جليلة القدر, عزيزة المطلب, وأعظم الناصحين للأمة هم من
يغرسون أصول التوحيد وتوابعه فيها, ويهدمون الشرك وفروعه, ويحاربونه بالحجة
والبيان والسيف والسنان, فإذا استقام توحيد الأمة انتظمت لها بقية الأمور, وساغ
الخلاف والاجتهاد فيما دونه مما يعذر فيه المقلدون. لذلك لما أشار بعض تلاميذ شيخ
الإسلام عليه أن يصنّف في الفقه ــ أي العمليّات ــ فيما نقله البزار, أجاب بأن
أحكام الفقه أمرها قريب, وإذا قلد المرء أحد الأئمة فيه فلا حرج عليه, ولكني رأيت
أصول الدين قد تنازعها الناس.
فعلى الناصح الحازم أن
يعتصم بالعروة الوثقى والحبل المتين, وأن يوقن أنه لا يستقل عن توفيق ربه طرفة
عين, فلو وكله الله إلى نفسه ضاع وهلك, والتوحيد أشد الأشياء نزاهة وحساسية, فأقل
شوب يجرحه ويشوه صفاءه, وهو ضياء ونور في القلب, يشع على النفس طمأنينة وعلى
المستقبل أمنًا وفلاحًا.
أخي المؤمن: قال واعظ
الإسلام عبد الرحمن بن الجوزي: «وحّد زيد بن عمرو وما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم, وكفر ابن أُبيّ وقد صلّى القبلتين! فيا من هو من عسكر الرسول! أيحسن منك كل
يوم هزيمة؟!
ومن أراد من
العمّال أن ينظر قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه, فيا أقدام الصبر احملي فقد
بقي القليل, ويا أيها الراكب قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر».
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق