تكفير
المعين.. وحرمة الدماء المعصومة
الحمد لله، الحمد
لله تقدَّسَت أسماؤُه وصفاتُه، وتعالى مجدُه وعزُّه وعظمتُه وتمَّت كلماتُه، أحمدُ
ربي وأشكرُه على نعمِهِ التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
أضاءَت براهينُ وحدانيَّته وعظُمَت آياتُه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه
ورسولُه تواتَرَت مُعجزاتُه وكرُمَت أخلاقُه وصفاتُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على
عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ
التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛ فمن اتقَى اللهَ وقاه الشُّرورَ والمُهلِكات،
ومن اتَّبعَ هواه وعصَى ربَّه وكفرَ به أدركَه الشقاءُ وأرداهُ في الدَّرَكات.
عباد الله: في هذا الزمان الحالك, رخصت
الفتاوى, وافتُئتَ على أهل العلم, واستُحلّت دماءُ وأعراضُ أهلِ الإسلام من لدن أهل
الإسلام! فعادت سُلالة فكرِ ذي الخويصرة جذعة فتيّة, واشرأبّت أعناق الفتن والبلايا
من رؤوس حدثاءِ الأسنان سفهاءِ الأحلام, وظهرت قرون الغلوّ التي حذّر منها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقوله: "إياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"
رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وموجبات الردة, ونواقض الملة عديدة, وقد
استحق وصفَهَا من لا خلاق له ممن رام تبديل الدين والهزء بالشريعة وحرب الله ورسوله,
فتتردد بين الحين وأخيه قالاتُ فجورٍ وأفعالُ كفر, حقيقٌ بمن بسط الله يده بالسلطان
والتمكين أن يقوم فيها لله محتسبًا قَصْبَ الزنادقة.. وكثير ما هم!
وفي مسند أحمد بسند حسّنه الألباني أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَحدٌّ يُقام في الأرض خير من أن تُمطروا أربعين
خريفًا" نعم, فمنفعة الغيث خاصة بالأجساد, ومنفعة الحدِّ نفعها للأديان, وهي غاية
خلقِنا. ولو علم الأثيمُ قُربَ الحَدّ من الحَدِّ ما اجتازه, ولكن من أَمِنَ أساءَ!
بيد أن مسألة تكفير المعيّن في غاية الخطر
إن كانت في يد من لم يملك أدواتها, وفي سلطة من لم يستتم شروط إيقاعها, فلا يجوز بحال
أن يُترك عنان التكفير للعامّة, بل هو خاص بمن أوكل الله لهم سياسة الناس بالشريعة,
وهم العلماء الراسخون الذين علموا شروط التكفير وموانعه, وأحسنوا إقامة الحجة على متنكبي
المحجة, فقد يُتهم المرء بارتكاب مكفِّر وهو منه براء! إنما كُذب عليه كما كُذب على
كثير من الأجلّة كافترائهم على شيخ الإسلام ابن تيمية بالكفر والمروق من الدين وإهانته
لجناب النبوة! وكذبهم على الإمام المجدد بأنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم, ويدعو
لدين جديد, ونحو ذلك البهتان الذي طال كثيرًا من المصلحين في هذه السنين.
هذا, وقد يركب المرءُ المعصيةَ وهي ليست
من المكفرات, فيُرمى – جهلًا وظلمًا - بالردة! كصنيع الخوارج بمرتكب الكبيرة.
كما قد يركب الذنب المكفِّر المخرج من الملة في ذاته,
ولكن لا يحكم بكفره بسبب أحد الموانع, فلا بد مع استجماعِ الشروطِ انتفاءُ الموانع:
كالجهل: كما في قصة الذي قال لولده:
"إذا أنا متُّ فأحرقوني, ثم ذُرُّوا رمادي في الهواء فلئن قدر الله علي ليعذبني..."
والحديث مخرّج في الصحيحين, فهذا الرجل شكّ في عموم قدرة الله تعالى, وهذا من المكفرات,
مع هذا غفر الله له لخشيته وجهله.
وكالخطأ: كقصة الفَرِحِ بعودة دابته بعد
يأسه من النجاة فقال بعد استمكانه منها: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك, أخطأ من شدة
الفرح!" ومن فروع ذلك: سبقُ اللسان بما لم يقصده الجنان من ألفاظ الكفر, وبخاصة
مع وجود القرائن الصَّارفة.
وكالتأويل الذي له وجه: ولم يتضح الحق لصاحبه,
كالكثير ممن يظنون أنهم ينزهون الله تعالى عن طريق قواعد ذهنية أحسنوا بها الظنّ فسمّمت
تصوراتهم, فوصل بهم ذلك إلى إنكار بعض صفاته. وقد كان الإمام أحمد يصلي خلف بعض من
قال بتلك المقالات. وقال شيخ الإسلام لبعض المحرفة(المؤولة): أنتم تقولون كلاماً لو
قلت به لكفرت! لكنكم لم تكفروا عندي لأنكم ترومون التنزيه بذلك التحريف, ولم تتصوروا
حقيقة مذهبكم ومآل مقالاتكم. أما تأويلات الباطنية والفلاسفة والرافضة وأشباههم فهي
كفر محض.
وكالإكراه: لقوله تعالى: "إلا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان" وبعضهم خصّ الرخصة بالنطق فقط, وبعضهم خصّ الإكراه بالتهديد
بالقتل دون الضرب والحبس, والله أعلم.
واعلم أن تكفير المعين يختلف عن تكفير الوصف
فالوصف كقولنا: تارك الصلاة كافر. أما تكفير الشخص المعين فهو أن تقول: فلان كافر!
وهنا مكمن الخطر لمن توغَّل في ذلك بغير بينة ولا برهان. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال في خطبة الوداع _ وتأمل عظمة الموقف وأهمية البيان وقيمة كل حرف فيها
_: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟" قالوا: نعم, قال: "اللهم اشهد. فليبلّغ
الشاهد الغائب, فإنه رُبَّ مُبلِّغٍ يُبلِّغُه لمن هو أوعى له".
وبالجملة فلا تفريط ولا إفراط, والتقوى
وسط بين الغلو والجفاء, وكما قال علي رضي الله عنه: خير الناس النمط الأوسط, الذين
يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي.
الشاهد من هذا يا عباد الله: أن على الناصح
لنفسه أن لا يقع في شَرَك التكفير بغير حق, وليعلم أن من دخل في الإسلام بيقين فلا
يُخرج منه إلا بيقين, وليتيقَّن أن لكلّ كلمة طالباً من الله تعالى, وأنه موقوف بين
يدي الجبار جل جلاله, ومسؤول عن ما اقترفه لسانه أو خطه بنانه, فليعدّ للسؤال جواباً
وللجواب صواباً, وأنّى ذلك إلا ببرهان شاف, واستدلال كاف. والكلمة يملكها من كانت حبيسة
جوفه, لكن إن خرجت فقد ملكته, فإما إعتاق أو إيباق! والله المسؤول أن يحفظني والقارئ
والمسلمين من مضلات الفتن ودواهي المحن, فهو المستعان, وعليه التكلان, ولا إله إلا
هو.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد إلا إله
إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي لجنته ورضوانه، صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله حق التقوى، واستعدوا للقاء الله بأحسن ما حضركم من
عمل.
عباد الرحمن: لقد حذر النبي -صلى الله عليه
وسلم- الناسَ من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق
خلف الأهواء والفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: " وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها
في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضًا..
فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ
الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليهِ " رواه مسلم.
فمن
أراد أن يرْحَمَه الله فليرحم خَلق الله، وإذا أراد أن تُصان أمواله ونفسُه، فليبدأ
هو وليسلم الناس من لسانه ويده.
عباد
الله أن أعظم ذنب بعد الشرك بالله تعالى هو قتل النفس الحرام. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33].
عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن رسول الله
–صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: "هذا يومٌ حرامٌ وبلَدٌ
حَرامٌ، فدماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ مثلُ هذا اليومِ وهذا البلدِ إلى
يومِ تلقونَهُ وحتَّى دَفعةٌ دَفَعها مسلِمٌ مسلِمًا يريدُ بها سوءًا، وسأخبرُكم مَنِ
المسلمُ؛ من سلمَ النَّاسُ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمنُ من أمِنهُ النَّاسُ على أموالِهم
وأنفسِهم، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبِ والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ
اللَّهِ تعالى" رواه البزار بسند صحيح، فهذا هو التعريف النبوي للمسلم والمؤمن
والمهاجر يا عباد الله، فهل نعي ونتدبر ومن ثَم نمتثل ونعمل؟!
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب
دمًا حرامًا»؛ أخرجه البخاري.
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إن
من ورَطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه"؛
أخرجه البخاري.
بل قد حرَّم الله مجرد الإشارةَ إلى مسلمٍ بسلاحٍ
أو حديدة، سواءٌ كان جادًّا أو مازِحًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال
- صلى الله عليه وسلم -: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان
ينزِعُ في يده فيقع في حُفرةٍ من النار»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم: قال أبو القاسم
- صلى الله عليه وسلم -: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنُه حتى ينزِع،
وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
أيها المسلمون: إن القتل بغير حقٍّ جريمةٌ مُزلزِلة،
وخطيئةٌ مُروِّعة، سواءٌ كان المقتول من أهل المِلَّة، أم كان من أهل العهد والذِّمَّة؛
فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَزوال
الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حقٍّ»؛ أخرجه ابن ماجه.
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل مُعاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن رِيحها
يوجد من مسيرة أربعين عامًا»؛ أخرجه البخاري. وعند النسائي: «من قتل قتيلاً من أهل
الذِّمَّة لم يجِد ريح الجنة».
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان..