إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 7 ديسمبر 2017

علاج الوسواس

علاج الوسواس
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُتَقين، وَأَشْهَدُ ‏أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا ‏عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ‏وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.‏ أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:(وَأَنْ ‏تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏بَصِيرٌ)‏ .‏
 أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا أن نعمة الإيمان نعمة عظيمة لا تضاهيها نعمة، ويكفي في هذا أن المؤمنين عندما يدخلون الجنة يعترفون بالفضل لله في هدايتهم، فيقولون: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 43]. اللهم اجعلنا ووالدينا وذرياتنا ممن يقولونها هناك.
عباد الرحمن: إن نعمة الإيمان لمن أجلِّ نعم الله - تعالى - على عباده، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث من كُنَّ فيه، وجد بهنَّ حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعدما أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار))؛ متفق عليه.
فالمؤمن حصنه الحصين هو الإيمان، فبإيمانه يتعلق قلبه بالله، ويتوكل عليه، ويستعين به، ويلجأ إليه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والإيمان هو الذي يوجهه لفعل الخير، والبعد عن الشر، ويحميه من نزغات الشيطان ونفثه وهمزه.
ولو نظرنا إلى غالب من يعانون من وساوس الشيطان، لوجدناهم من ضعاف الإيمان والعلم؛ لأن الشيطان لا يتسلط على المؤمن القوي الإيمان العالم بأمور دينه، إنما يتسلط على ضعيف الإيمان الجاهل بأمور دينه، وأما أهل العلم والإيمان، فقلَّما يأتيهم بوساوسه، ويندر أن يشككهم في أمور عباداتهم.
عباد الله: إن الشيطان يقف للناس على كل طريق يوصل إلى الله والدار الآخرة؛ قال - تعالى - عنه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾
وقد وجه الله - تعالى - عباده إلى الحذر منه ومن متابعته، وأمر بعداوته ومخالفته؛ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرًا لنا من طاعته، وقطعًا للعذر في متابعته؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ ﴾ [الأعراف: 27]، وأمرنا - سبحانه - بلزوم صراطه المستقيم، والبُعد عن اتباع السبل؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾ [الأنعام : 153].
عباد الله: إن وساوس الشيطان وخطراته لها أساليب وحِيَل كثيرة، فتارة تدخل في إيمان المسلم، وتارة في الطهارة، وتارة في النية، وتارة في الصلاة، وغير ذلك من عبادات المسلم، والشارع الحكيم وجه عباده إلى الحذر من تلك الوساوس ومجاهدتها، والاستعاذة بالله منها، فمنها:
أولاً: ما يرد على قلب المؤمن مما يعارض إيمانه بالله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واليوم الآخر، فإنها لا تضرُّه ما دام أنه يعلم أنها باطلة، ويبغضها، ويكرهها، ويتألم منها، والشيطان إذا عجز عن إضلاله، وإخراجه عن دينه، اجتهد في أن يشوش عليه إيمانه؛ بإلقاء الوساوس التي تزعجه.
ولتطمئن نفسك إيها المؤمن أن تلك الوساوس لا تضرك فإن الله تعالى قد عفا لهذه الأمة ما حدثت بها أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
جاء رجل إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له: إني أُحدّث نفسي بالشيء، لئن أخرُّ من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة))؛ رواه أحمد، وفي لفظ آخر عند مسلم: قال له - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((ذاك صريح الإيمان))؛ يعني: كراهة هذا الوسواس، وبغضه، والنفرة منه من صحة الإيمان، فمثل هذه الوساوس لا تضر المؤمن ما دام أنه ثابت على عقيدته. إنما هي خطرات يلقيها الشيطان في فؤاده ليحزنه بها.
ثانيًا: التلبيس على المسلم في نيته: فترى بعض الناس يتلفظ بالنية خوفًا من بطلان عبادته، وما علم أن التلفظ بالنية بدعة، وأيضًا يجعله يتكلف إحضار تلك النية، وتكرار التلفظ بها، وهذا كله مخالف للشرع، فالنية محلها القلب، فهذا الذي جلس ليتوضأ قد نوى الوضوء، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة، ولا يكاد عاقل يفعل شيئًا من عباداته ولا غيرها بغير نية، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل، ولو أراد إخلاء أفعاله عن نيته، لعجز عن ذلك، فلماذا يكلف الإنسان نفسه ما لا تطيق؟
ثالثًا: التلبيس عليه في الطهارة والوضوء، فيقول له: أنت ما غسلت فرجك، أو أن ثوبك قد مسته نجاسة، أو أنك لم تتوضأ الوضوء الصحيح، فيجعله يعيد غسل الأعضاء، ويطيل الغسل، ثم يوسوس له أنك لم تغسل هذا العضو أو ذاك، فيعيد، ويعيد؛ حتى يصبح في حيرة من أمره، وربما وسوس له في الإسراف في الوضوء. فلا تجوز الزيادة في غسل العضو على ثلاث مرات "فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم".
وربما كرر وضوءه فوق ثلاث، بل ربما تجاوز ذلك، وربما أعاد وأعاد، وقد ورد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله في الوضوء: ((إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء))؛ رواه أبو داود، وصححه الألباني.
رابعًا: التلبيس عليهم أثناء الصلاة، فربما يردد بعض الكلمات أو يرفع بها صوته، ويشوش بذلك على المصلين بجانبه، من أجل التحقق من أنه قد قالها، وربما يكرر الآية كاملة، بل ربما يعيد الصلاة مرة أخرى؛ خوفًا من أنه لم يقرأ الفاتحة، ويشعره أثناء صلاته أنه أحدث وهو لم يحدث، أو أنه لم يصلِّ الصلاة كاملة، أو أنه لم يأت بركن من أركانها، أو غير ذلك من صور التلبيس.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: "يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليّ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاك شيطان يُقال له خِنْزَب، فإذا أحسسته، فتعوَّذ بالله منه، واتْفُل على يسارك ثلاثًا))، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهبه الله عنِّي"، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا، فلا يخرجنَّ من المسجد؛ حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا))؛ رواه مسلم. وفي هذا حسم لمادة الوسوسة، فما لم تسمع أو تشم فأنت طاهر، وأمور العبادات مبنية على غلبة الظن بحمد الله كما قرره أهل العلم.
قال الإمام أحمد في من ظن خروج شيء من البول بعد الاستنجاء: لا تلتفت إليه، حتى تتيقن ، وَالْهَ عنه ، فإنه من الشيطان ، فإنه يذهب إن شاء الله .
أما سبب الوسوسة فهو عدة أسباب، ومن ذلك ما ذكره الجويني حيث قال: "إنّ للوسواس سببين: إما نقص في غريزة العقل، وإما جهل بأمور الشريعة الإسلامية".
إذًا السبب الأول هو نقص في غريزة العقل، وذلك أن كثيرا من الموسوسين في عقولهم ضَعف يتمكّن به الشيطان من التأثير على ذلك الإنسان، ومن الأمثلة على ذلك أنه جاء رجل إلى أحد علماء التابعين فقال له: يا إمام، إني أنغمس في الماء مرّة ومرتين وثلاثا ثم أخرج منه وما زلت أشكّ هل ارتفعت عني الجنابة أم، هل اغتسلت أم لا، فقال له العالم: اذهب فقد سقَطت عنك الصلاة، فلمّا ذهب الرجل قالوا للإمام: كيف قلت لهذا الرجل ما قلت؟! فقال: إنه مجنون، فالذي ينغمس في الماء ثلاث مرات ثم يشكّ أغتسل أم لا فهو مجنون، وقد صح عن النبي  أنه قال: ((رفع القلم عن ثلاث))، وذكر منهم: ((والمجنون حتى يفيق))، وهذا مجنون.
أما السبب الثاني من أسباب الوسواس الذي ذكره الجويني رحمه الله فهو الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية، فيجهلون مثلا أحكام الطهارة والوضوء، فيقعون في الوسوسة في ذلك. فاستعينوا بالله على تقواه واستعيذوا به على مجاهدة الشيطان ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت : 36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات، والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، فاستغفروا الله يغفر لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
..........
الخطبة الثانية
الحمد لله... أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - اعلموا أن النجاة في قوة الإيمان، وحسن التوكل على الملك الديَّان. واعلموا أن الله تعالى لا يكلف المرء فوق طاقته، وأن خطرات الشيطان المزعجة والمروّعة لإيمانه لا تضره، وأنه قد عفا عن حديث النفس مهما بلغ حتى يفعل أو يتكلم.
عباد الله: قد يسأل البعض عن داء الوسوسة: هل له دواء؟ والجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء))؛ رواه البخاري.
فأهم دواء نافع لتلك الوساوس: هو الإعراض عنها بالكلية، حتى وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون، وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها، فإنها لا تزال تزداد به؛ حتى تخرجه إلى حيز المجانين، بل تصبح حاله أشد منهم، كما شوهد في كثير ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها، وقد جاء التنبيه عليه من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمن ابتلي بالوسوسة بقوله: ((فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ))، وأرشد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى من خطرت له تلك الخواطر أن يستعيذ بالله من الشيطان، ويقول: ((آمنت بالله ورسله))، وأن يُعرِضَ عن هذه الوساوس، ولا يشتغل بها، ولا يسترسل معها، بل يعرض عنها، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا: ((يأتي أحدكم الشيطان، فيقول: مَن خَلَقَ كذا، مَن خَلَق كذا، حتى يقول: من خلق الله، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليَنُتَهِ، وليستعذ بالله))، وفي رواية: ((فليقل: آمنت بالله ورسوله))؛ رواه البخاري، ومسلم.
فتأملوا هذا الدواء النافع الذي علَّمه مَن لا ينطق عن الهوى لأُمَّته.
وقال العز بن عبد السلام: دواء الوسوسة أن يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني، وأن إبليس هو الذي أورده عليه وأنه يقاتله، فيكون له ثواب المجاهد؛ لأنه يحارب عدو الله، فإذا استشعر ذلك فرَّ عنه، وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان، وسلَّطه الله عليه محنة له؛ ليُحقَّ اللهُ الحقَّ، ويُبطلَ الباطل ولو كَرِهَ الكافرون.
أيها المؤمنون، وبعد فإن أنفع علاج في دفع الوسوسة الإقبالُ على ذكر الله - تعالى - والإكثار منه.
فعلى كل من ابتلي بذلك أن يترك تلك الوساوس ويعرض عنها، وعليه من الإكثار من تلاوة القرآن، والأعمال الصالحة، واللجوء إلى الله، والتضرُّع إليه ودعائه - سبحانه - أن يدفع عنه كيد الشيطان، وأن يلزم قراءة آية الكرسي، وسورةَ الإخلاص، والفلق، والناس، خاصة عند نومه، وأن يحافظ على أذكار الصباح والمساء، وأن يكثر من ذكر الله كثيرا فهو من أقوى الأسلحة لصدِّ تلك الوساوس.
وقال ابن القيم في معرض كشف شبهات أهل الوسوسة إن الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه هو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة والجور هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين .

اللهم صل على محمد...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق