الصبر عند فقد الأحبة وأحكام
البكاء على الميت
الحمد لله..
عباد الرحمن: أن الصبر هو ذلك الينبوع العجيب الذي يسقي جميع أعمال
القلوب، فلا قِوام لها إلا به، بإذن الله، وقلب لا صبر له لا فوز له. ويكفي في
مدحه قولُ ربنا: (وبشر الصابرين) ومعيته: (مع الصابرين) ومحبته: (والله يحب
الصابرين).
إن المؤمن الموفّق هو من يتحصن بجُنة الصبر عند ادلهامّ الملمّات
وانصباب الكُربات، وحينما يرى ببصره وبصيرته أكثرَ الناس قد استبدلوا بالتوحيد
شركًا وباليقين شكًّا فإنه يضع قلبه على نابض قلبه صاعدًا ببصره إلى سماء الله
الفسيحة يتلوا مثاني الصبر في كتاب ربه ضارعًا لإلهه بكل رُوحه وجوارحه ونفسه
وكيانه أن يفرغ على قلبه صبرًا يثبته حين زاغت أقدام الإقدام عن مراضي الملك
العلام.
والمؤمن الذي أراد الله به خيرًا هو الذي إذا أُعطي شكر وإذا ابتُلي
صبر وإذا أذنب استغفر، هدانا الله سبيلهم.
عباد الله: الموت ليس هو أخر المطاف،
بل هو مجرد بوابة لمرحلة جديدة نجتازها في رحلتنا للدار الآخرة، وقد كتب الله
تعالى أن الجنة موعد المحبين من المؤمنين، أما الفراق الحقيقي فهو فراق أهل النار
عياذًا بالله تعالى، قال الله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال قتادة رحمه
الله: هي الفرقة التي لا اجتماع بعدها!
إن الدنيا دار لأواء وشدّة امتحان، ولا
يزال الناس – مؤمنهم وكافرهم – يتجرعون فيها غُصص الكروب وفواجع الفقد ولوائع
الحرمان، ولكن يفترق المؤمنين عن الكافرين بأن تلك الشدائد والأحزان والهموم
والأسقام إنما هي مكفرة لسيئاتهم ورفعة لدرجاتهم وزيادة في حسناتهم إما الكافر
فيخرج من المصيبة في نفسه وأحبابه بمصيبته في دِينه وحرمانه، عياذًا بالله تعالى
من خيبات الرغائب.
هذا ولا يمنع جميل الصبر من إسبالِ
عبرات الرحمة ونفثِ زفرات الوفاء، فعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحِبّه وابن حِبّه رضي الله عنهما، قال: أرسلتْ بنت النبي صلى الله
عليه وسلم إن ابني قد احتُضر فاشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: "إن لله ما أخذ
وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب" فأرسلت إليه تُقسم عليه
ليأتينها.
فقام ومعه سعد بن عبادة، ورجال رضي الله عنهم، فرُفع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي، فأقعده في حجره ونفسه تقعقع -أي تتحرك وتضطرب
ولها حشرجة- ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: "هذه رحمة جعلها
الله تعالى في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". متفق
عليه
وعن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القَين وكان ظئرًا لإبراهيم عليه
السلام، "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبّله وشمّه". ثم دخلنا
عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان.
فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: "يا ابن عوف
إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن العينَ تدمع،
والقلبَ يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
متفق عليه.
ومهما يكن من أمر المصائب فعاقبتها على
المؤمنين خير ورشاد حتى لو كانت ألم فقد الأحباب! فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: "يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا
قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة". رواه البخاري، قال العثيمين
رحمه الله: "الصفي: هو من يصطفيه الإنسان ويختاره من ولد، أو أخ، أو عم، أو أب،
أو أم، أو صديق. المهم أن ما يصطفيه الإنسان ويختاره ويرى أنه ذو صلة منه قوية. فإذا
أخذه الله عز وجل، ثم احتسبه الإنسان، فليس له جزاء إلا الجنة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتت
امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبيّ لها فقالت: يا نبي الله، ادع الله له فلقد
دفنت ثلاثة! قال: "دفنت ثلاثة؟!" قالت: نعم قال: "لقد احتظرتِ بحظار
شديد من النار". رواه مسلم، أي احتمت بحمى عظيم وسورٍ كبير من النار يقيها حرها
ويؤمنها من دخولها لأنها صبرت على فقد ابنها.
وعن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: "إنه
قد مات لي ابنان، أفما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث يطيب أنفسنا
عن موتانا؟ قال: نعم، "صغارهم دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه – أوقال: أبويه
-، فيأخذ بثوبه كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله
الله وأباه الجنة". رواه مسلم.
وانظر بركة الصبر والحمد والاسترجاع فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله
(إنا لله وإنا إليه راجعون)، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله
له خيرا منها". رواه مسلم، ولقد قالت ذلك حين مات
زوجها أبو سلمة رضي الله عنه فأخلف الله لها أعظم زوج في البشر وهو رسولنا صلى
الله عليه وسلم.
فلا بد للمؤمن من جرعات تصبّر يقيم بها
أَود دينه ومروءته، وأن يرضى بربه وبحكمته وأقدراه.
عباد الرحمن: ثمّ أمورٌ تتعلق بالمصيبة
كالبكاء والندب وشق الثياب ودعوى الجاهلية ونحوها فإلى شيء من أحكامها:
إن الجزع اعتراض على قدر الله تعالى، وقد يكون
الجزع بالقول أو الفعل أو الحال، وكله منهي عنه، أما مجرد البكاء والندب اليسير
الصادق على غير وجه الجزع والتسخط فلا بأس به. وبيان ذلك كالتالي:
أوّلًا: البكاء على الميت. ولا بأس به،
بل هو من الرحمة، وسبق بيان بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحزنه مع كامل رضاه
عن ربه وحمده له، وفي المسند أيضًا وحسنه الألباني عن عائشة أن سعد بن معاذ لما مات
حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفسي بيده إنى لأعرف
بكاء أبي بكر من بكاء عمر وأنا في حجرتي.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه
زار قبر أمه فبكى، وأبكى من حوله". رواه مسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه
وسلم: "أنه قبّل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه". رواه الترمذي
وصححه.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه
نعى جعفر وأصحابه وعيناه تذرفان". رواه البخاري.
وصح عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قبّل النبي
صلى الله عليه وسلم وهو ميّت وبكى. رواه البخاري.
ولكنه بكاء يسير لا جزع معه، قال خالد بن
أبي عثمان: كان سعيد بن جبير يعزيني في ابني، فرآني أطوف بالبيت متقنًّعًا، فكشف القناع
عن رأسي وقال: الاستكانة من الجزع.
وقد أنكر اسحق بن راهويه أن يترك لبس ما
عادته لبسه، وقال: هو من الجزع.
وعن شيخ من قريش قال: مات الحسن بن الحصين
أبو عبيد الله بن الحسن، وعبيد الله يومئذ قاض على البصرة وأمير، فكثر من يعزيه، فتذاكروا
ما يتبين به جزع الرجل من صبره فأجمعوا أنه إذا ترك شيئًا مما كان يصنعه فقد جزِع.
وبالجملة فعادتهم أنهم لم يكونوا يغيّرون
شيئًا من زيهم قبل المصيبة، ولا يتركون ما كانوا يعملونه، فهذا كله مناف للصبر، والله
سبحانه أعلم.
ثانيًا: الندب والنياحة.
قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن النياحة لا
تجوز للرجال ولا للنساء، لما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية"
متفق عليه، وفي الصحيحين أيضًا عن أبى بردة قال: وجع أبو موسى وجعًا فغُشي عليه ورأسه
في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق
قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان رسول الله صلى الله
عليه وسلم برئ من الصالقة – وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة جزعًا- والحالقة –
وهي التي تحلق رأسها عند المصيبة- والشاقة
– وهي التي تشق ثيابها عند المصيبة-.
وفي صحيح مسلم عن أبى مالك الأشعرى أن النبي
قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن - وفيه الإخبار والتحذير والبراءة،
لا الإباحة والموافقة-: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"
وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران
ودرع من جرب". رواه مسلم.
وفي الصحيحين أيضًا عن المغيرة بن شعبة
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من ينح عليه يُعذّب بما نيح
عليه" رواه البخاري.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبى موسى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة:
وا عضُداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جُبُذ - أي جُذِب بقوة - الميت وقيل له: أنت عضدها؟!
أنت ناصرها؟! أنت كاسيها؟!". وفي صحيح
البخاري عن النعمان ابن بشير قال: أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي
وتقول: وا جبلاه، وا كذا، وا كذا، - تعدد عليه - فقال حين أفاق: ما قلت لي شيئًا إلا
قيل لي: أنت كذا؟! فلما مات لم تبك عليه.
إذن فهل يُعذب الميت بما نيح عليه؟
قال ابن القيم رحمه الله: هذا محمول على
من سنته وسنة قومه ذلك إذا لم ينههم عنه، لأن ترك نهيه دليل على رضاه به، لأنه متى
غلب على ظنه فعلهم ولم يوصهم بتركه فقد رضي به وصار كمن ترك النهي عن المنكر مع القدرة
عليه، فأما اذا أوصاهم بتركه فخالفوه فالله أكرم من أن يعذّبه بذلك.
عباد الله: اعلموا أن الكلمة اليسيرة إذا كانت
صدقًا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب، نص عليه أحمد في
مسنده من حديث أنس أن أبا بكر رضى الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته
فوضع فمه بين عينيه ووضع يده على صدغيه وقال: وا نبيّاه، وا خليلاه، وا صفيّاه! رواه أحمد وصححه الألباني.
وفي صحيح البخاري عن أنس أيضًا قال: لما ثَقُلَ على
النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشّاه الكرب، فقالت فاطمة: وا كرب أبتاه، فقال: "ليس
على أبيك كرب بعد اليوم" فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه
جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه. فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس، أطابت
أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟! رواه البخاري وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون". متفق عليه.
وهذا ونحوه من القول الذي ليس فيه تظلّم للمقدور،
ولا تسخط على الرب، ولا إسخاط له، فهو كمجرد البكاء. والله المستعان.
بارك الله لي ولكم..
............
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عباد الله: ليس هناك دليل الكتاب ولا من
السنة يدل على مشروعية قراءة أي سورة من سور القرآن في سكن الميت، أما الاجتماع
لمجلس العزاء مع صنع الطعام ففي مسند أحمد عن جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه
أنه قال: "كُنَّا نَعُدّ الاجتماع إلى أهل الميت، وصنع الطعام بعد دَفْنه من النياحة".
فالاجتماع على العزاء يكون نياحة إذ
اجتمع فيه شيئان:
الأول: أن يكون هناك اجتماع للعزاء عند
أهل الميت وجلوس طويل عندهم. والثاني: أن يكون هناك صنع للطعام من أهل الميت لإكرام
هؤلاء، والتباهي بكثرة من يمكث إظهارا للمصيبة لهذا الميت.
أما الجلوس للتعزية فقط بدون صنع الطعام
فهذا لا بأس به تسهيلًا للوصول إلى أهل الميت لتعزيتهم، والوسائل لها أحكام المقاصد،
وليس من السنة تحديدها بثلاثة أيام، بل هي بحسب الحاجة وقد يكتفى بيوم، والأصل أن المسلم يُعزّى في أي مكان سواء في
المسجد أو السوق أو منزله أو غير ذلك بدون تراتيب.
ولو أن أهل الميت امتنعوا من استقبال
المعزين بعد الظهر وبعد العشاء حسمًا للمادة كان حسنًا.
اللهم صل على محمد...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق