إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 9 ديسمبر 2019

موعظةُ الموت


موعظةُ الموت
منقولة بتصرف
الحمد لله ذي الرضا المرغوب، يعفو ويصفح ويغفر الذنوب. يملي ويمهل لعل العاصي يتوب، يعطي ويرضى ويحقق المطلوب. يُطعم ويَسقي ويستر العيوب، يغني ويشفي ويكشف الكروب. وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الجناب المرهوب... خلق السماوات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب. يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويقلب الأبصار والقلوب. وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله ذو المقام الموهوب. لا يأكل الصدقات، ولا يرتكب الهفوات، وخاتم النبوة بين كتفيه مضروب. من أطاعه فقد أطاع الله، ومن تبع نهجه فقد أرضاه، ومن عصاه في النار مكبوب. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه عدد الرمال والحصى، وكلما أطاعه عبد أو عصى. ونور بصلاتنا عليه بصائرنا والقلوب. أما بعد: أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فمن لا يتقي الله تشابهت عليه السبل: (إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29].
عباد الله: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب. إن ربكم لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا، فتزودوا من دنياكم ما تحرزون به أنفسكم غدا. فالأجل مستور، والأمل خادع.
تمر الجنائز بالناس يجهزونها ويصلون عليها ويسيرون خلفها يشيعونها محمولة إلى مثواها. فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير. ثم يُبسط عليه غطاء الغفلة والنسيان.
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى  ...  تأهّب لأخرى مثلَها فكأنْ قَدِ
أيها الإخوة: أهل الغفلة أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة. كيف ترجى الآخرة بغير عمل؟ أم كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟
 هذه الدنيا كم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها صرعته؟ وكم من محتال فيها خدعته؟ سلطانها دول، وحلوها مر، وعذبها أجاج، وعزيزها مغلوب، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دارها مكارة، وأيامها غرارة، ولأصحابها بالسوء أمارة. الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب.
أهل الغفلة لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يدركون كل ما أملوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويأملون ما لا يدركون: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
طويل الأمل: يبني ويهدم، وينقض ويُبْرِم، ويُقَدِّرُ فيخطئ التقدير. يقول ويفعل، ويخطط ويدبر، وتأتي الأمور مخالفةً للتدبير. يسيء في الاكتساب ويسوّف في المتاب ثم هاهو قد تمّ أجله وانقطع عمله وأسلمه أهله وانقطعت عنه المعاذير: (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
يا أهل الغفلة أيها المسلمون أيها المسلمات: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) بهذا أوصى نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد. كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة - كما يقول القرطبي رحمه الله - تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ.
أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيّقها.
واْيمُ الله ليوشكن الباقي منا أن يبلى، والحيُّ منا أن يموت، وأن تُدال الأرضُ منا كما أدلنا منها، ثم تكون كما قال الله: (وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاواتِ وَمَن فِى الأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68].
لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)) رواه أحمد، وسألَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ رجلٌ فقال: من أكيسَ الناسِ يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)) رواه ابن ماجه بسند حسن. فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. يقول الحسن رحمه الله: إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحًا. ويقول مطرِّفٌ: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيما لا موت فيه. لقد أمِنَ أهلُ الجنةِ الموتَ فطاب لهم عيشُهم، وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طولُ مُقامهم.
أيها المسلمون: اذكروا الموت والسكرات، وحشرجة الروح والزفرات، اذكروا هول المطَّلعَ. من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيلِ التوبة، وقناعةِ القلب، ونشاطِ العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويفِ التوبة، وتركِ الرضى بالكفاف، والتكاسلِ في العبادة.
كفى بالموت للقلوب مُقطّعا، وللعيون مبكيا، وللذات هادما. وللجماعات مفرقا. وللأماني قاطعا.
استبدل الأموات بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاءوها حفاة عراة فرادا. اللحودُ مساكنُهم، والترابُ أكفانهم، والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعيا، ولا يسمعون مناديا. واستوى عندهم الليل والنهار، كانوا أطولَ أعمارا وأكثرَ آثارا، فما أغناهم ذلك من شيء لمّا جاء أمرُ ربك، فأصبحت بيوتُهم قبورا، وما جمعوا بورا، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم المَنُون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
هل تفكرت يا عبد الله يومَ المصرع، يومٌ ليس لدفعه حيلة، ولا ينفعُ عند نزوله ندم. أزِلْ عن قلبك غشاوةَ الغافلين، فإنك واقف بين يدي من يعلم وسواس الصدور، ومن يسأل عن لَحَظات العيون، ويحاسِب على إصغاء الأسماع: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
تذكُّرُ الموتِ يردعُ عن المعاصي، ويليّن القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا، ويهوّن المصائب.
تذكروا الموت لعلكم تسلمون من حسرة الفوت. يقول الحسن رحمه الله: اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمعْ عليك خصلتان: سكرةُ الموت وحسرة الفوت. احذر ثم احذر ثم احذر أن يأخذَك الله على غفلة، لا يأخذْكَ الله على ذنب فتلقاه ولا حجة لك.
أيها الإخوة: أين الخائف من قلة الزاد؟ وأين المتخفّف من أثقال الدنيا؟ أين الوجلُ من بُعد السفر ووحشة الطريق؟
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحياةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله غيرُ مقنوطٍ من رحمته، ولا مأيوسٍ من مغفرته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ نعمته، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ومصطفاه من رسله، وخيرته من بريته. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن سار على نهجه واستمسك بسنته وحافظ على شريعته وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه قبل أن تموتوا، بادروا بالأعمال قبل أن تُشغلوا، فهل تنتظرون إلا فقرا مُنسيًا أو غنى مُطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفنّدا أو موتا مجهزا، أو الدجال فشرٌّ غائب ينتظر أو الساعةُ فالساعة أدهى وأمرُّ.
لا تكونوا - رحمكم الله - ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل. وقد علمتم أن الموت يأتي بغتة.
أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكر الآخرة. اعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن أهله والأحباب، جاءه الموت في وقت لم يحتسبه وهول لم يرتقبه.
وليتأمل الزائرُ حال من مضى من أقرانه، أكثَروا الآمال وجمعوا الأموال انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، محا التراب محاسن وجوههم، وتفرقت في القبور أشلاؤهم، وصار جليسُهم أعمالُهم، ونورُهم إيمانُهم: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
فعليك أخي في الله بالعنايةِ التامّة والحراسةِ الدائمة لجناب تعظيم رب العالمين والخوفِ منه وخشيتِه، وتذكُّرِ لقائه والوقوفِ بين يديه، وتدبر قوله سبحانه: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) فاستبشر خيرًا بربك، وظُنَّ به كلَّ خير، وافرح به بكل كيانك، وأحبَّه من كل قلبك، وشوّق نفسك للقائه، واستحي منه حق الحياء، واعبده حقّ العبادة. وتدبر قولَ ربك الأكرم: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون).
واعلم – رحمني الله وإياك -أنّ الموت ليس فكرةً مخيفةً لمن حَسُنَ إيمانه واستقام عملُه، وليس الشأن في موعد الرحيل، فكلنا راحل، إنما الشأن: ما ذا بعد الرحيل! فضع يدك على فؤادك ثم اسأله: أي فؤادي، متى خَفْقَتُك الأخيرة! اللهم اجعلها على الإيمان.
وما الموتُ إلا رحلةٌ غيرَ أنّها  ...   من المنزلِ الفاني إلى المنزلِ الباقي
واحفظ عهدك وسرَّك مع الله تعالى، واملأ قلبك من مهابته وإجلاله والحياءِ منه، قال أحمد بن عاصم رحمه الله: "أُحبُّ ألا أموت حتى أعرف مولاي، وليس معرفته الإقرار به، ولكن المعرفة إذا عرفته استحييت منه". وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من هتك ستره مع الله؛ هتك الله ستره مع الناس"، (ألم يعلم بأن الله يرى). فالحياء من الله عز وجل بابٌ عظيم للدخول عليه منه، ولقد قال عمر في وصف صهيب رضي الله عنهما: "نِعْمَ العبدُ صهيب لو لم يخَفِ الله لم يعصه". أي أنّ محبتَه لله تعالى وحياءَه منه كافيان لترك العصيان. ويكفي المؤمنَ تذكّرُ معيّةَ ربه سبحانه: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ومن جعل بينه وبين الله بابٌ؛ دخل منه يومًا ما.
فاتقوا الله رحمكم الله وارجوا الدار الآخرة، فتلك دار – لعمرو إلهنا - لا يموتُ سكانُها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يبلى نعيمها، ولا يتغير حُسْنُها وإحسانها وحِسانُها، يتقلّب أهلها في رحمة أرحم الراحمين: (دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
اللهم صل على محمد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق