إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 14 أبريل 2024

يا من كان له قلبٌ فانقلب!

 

يا من كان له قلبٌ فانقلب!

 

    الحمد الله الملك الحق المبين, خلقنا لعبادته, وأتم علينا نعمه ظاهرة وباطنة, فالسعيد هو الشاكر حقّاً, والمخذول من سقط في سبل الردى ومتاهات الهوى, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, بلّغ البلاغ المبين, وهدى إلى الصراط المستقيم, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

 فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن العبد في سيره إلى الله تعالى لا يسلم من مكائد عدوّه الشيطان الرجيم, فإنه يشمّ قلبه, فإن رأى فيه عزماً وحزماً وإقبالاً على الآخرة؛ حاول أن يدفعه للزيادة والتنطّع والإحداث في الدين. وإن رأى ارتخاءً في همّته وَضَعَةً في عزيمته ألقى في قلبه الأمن من مكر الله, ومنّاه وساقه بالأماني حتى يلقيه في لُجَجِ التسويف فتطول غيبته وتعظم خيبته, ويرجع بالخسار!

    وفي المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "لكل عمل شرّة, _أي نشاط وهمّه_ ولكل شرّة فترة _أي كسل وفتور_ فمن كانت فترته إلى سنتي؛ فقد أفلح, ومن كانت إلى غير ذلك؛ فقد هلك".

     ولا يكاد يخلو المؤمن ذكرى حسنة من عبادة كان يألفها, وذكرٍ كان يأنس به, وطاعةٍ كان ينشرح صدره بها؛ فإذا مرّت على خياله تلك الذكريات؛ وضع يده على كبده أسفاً, وخرّت على وجنته دمعة حرّى تشكى مرارات البعد عن مغاني الأنس ومواطن نعيم الأرواح إلى الوحشة والجدب وذبول أزاهير الطاعة وشُحِّ ثمار العبادة, وحيل بينه وبين ما يشتهي من التوبة والأوبة من الحوبة تلو الحوبة, "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" و"القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن" ويا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك..

    فيا من كان له قلب فانقلب, وحالٌ فاستحال, أبشر بفتح الباب للتائبين فكن في معيتهم, ولا تستوحش فلا زال في الصدر خير ما دامت روحك تتردد بين حناياك حاملة إيمانك وندمك.. فازجرها بسوط موعظة, واحْدُ لها تسر.

    ويا أخي لا زال حبلك واصلاً فلا تقطعه وإن اهترأ واخلولق, مادامت روحك تقعقع بين حناياك, فالبدار البدار, والوَحَا الوَحَا!

    قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى (1) قوله: "يا من كان في رفقة "تتجافى" فصار اليوم في حزب أهل النوم.

    قد خلقت الداران لأجلك, أما الدنيا فلِتتزوّد, وأما الأخرى فلِتتوطّن. أفتراك تعرف مكانة "أذكركم" أو قيمة "يحبهم"؟!

    يا من كان قريباً فطُرد, يا من فَقَد قلبَه, وعدم التحيّل في طلبه, أين الزمان الذي بان أتراه بان؟! أين القلب الصافي كان وكان؟!

     يا عزيزي ما أَلِفتَ الشقاء فكيف تصبر؟ أصعب الفقر ما كان بعد الغنى, وأوحش الذلّ ما كان بعد العزّ, وأشدُّهُما العمى على الكِبَر".

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في وصفٍ عميق مؤثر مزلزل لكل من كان له أُنْسٌ بالخلوة بربّه, وكان قد ذاق حلاوة الإيمان فطال عليه الأمد, أو وقع في حبيلة عدوّه فتنكّب الجادة, واستوحش الطريق (2): "الطريق إلى الله واحد, فإنه الحق المبين, والحق واحد مرجعه إلى واحد, وأما الباطل والضلال فلا ينحصر, بل كل ما سواه باطل, وكل طريق إلى الباطل فهو باطل, فالباطل متعدد وطرقه متعددة, وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة, جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا؛ فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.

     وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله, وما يرضيه متعدد متنوع, فجميع ما يرضيه طريق واحد, ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال, وكلها طرق مرضاته, فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا, لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم, ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد, ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله, ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد مع وحدة المعبود ودينه, ومنه الحديث المشهور "الأنبياء أولاد علّات دينهم واحد" فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأمهات متعددة, فشبّه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة فإنها وإن تعددت فمرجعها إلى أب واحد كلها.

     وإذا عُلم هذا, فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم, قد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله, فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله, ويفتح له فيها الفتح الخاص, أو يموت في طريق طلبه, فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته, قال تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله). فإن العبد يموت على ما عاش عليه.

     ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر, وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله, فمتى فتر عنه أو قصر؛ رأى أنه قد غبن وخسر.

     ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة, فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها؛ أظلم عليه وقته, وضاق صدره.

     ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي, كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات, قد فتح له في هذا, وسلك منه طريقا إلى ربه.

     ومن الناس من يكون طريقه الصوم, فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله.

     ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن, وهي الغالب على أوقاته, وهي أعظم أوراده.

     ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد فتح الله له فيه, ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار.

     ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

    ومنهم الجامع الفذّ, السالك إلى الله في كل واد, الواصل إليه من كل طريق, فهو قد جعل وظائف عبوديته قِبلة قلبه ونصب عينه, يؤمّها أين كانت, ويسير معها حيث سارت, قد ضرب مع كل فريق بسهم, فأين كانت العبودية وجدته هناك, إن كان علم وجدته مع أهله, أو جهاد وجدته في صف المجاهدين, أو صلاة وجدته في القانتين, أو ذكر وجدته في الذاكرين, أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين, أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين, يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها, ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها, لو قيل: ما تُريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت, جالبة ما جلبت, مقتضية ما اقتضت, جمعتني أو فرّقتني, ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها, مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر, قد سلم إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن, (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).

    فهذا هو العبد السالك إلى ربه المتصل به قلبه, المتعلّق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه, فيسلو به عن جميع المطالب سواه, فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه, فإذا سلك العبد على هذا الطريق؛ عطف عليه ربُّهُ فقربه واصطفاه, وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه, وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده, فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها, فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا؟! فلو كشف الغطاء عن أَلْطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم؛ لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه, ويقع شكرا له, ولكن حَجَبَ القلوبَ عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب, فصُدَّت عن كمال نعيمها, وذلك تقدير العزيز العليم. وإلا فأيّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟! هذا ما لا يكون أبداً.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.

...................

الخطبة الثانية

 الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أن من ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته؛ وقع في آثار المعاطب, وأودع قلبه سجون المضايق, وعُذّب في حياته عذابا لم يُعَذَّبْ به أحدٌ من العالمين, فحياته عجز وغمٌّ وحزن, وموته كدر وحسرة, ومعاده أسف وندامة. قد فرط عليه أمره, وشتت عليه شمله, وأحضر نفسه الغموم والأحزان, فلا لذه الجاهلين, ولا راحة العارفين! يستغيث فلا يُغاث, ويشتكي فلا يُشكى, فقد ترحّلت أفراحه وسروره مُدبرة, وأقبلت الآمه وأحزانه وحسراته, فقد أبدل بأُنسه وحشة, وبعزه ذُلّاً, وبغناه فقرا, وبجمعيته تشتيتا, وأُبعد فلم يظفر بقرب وأبدل مكان الأنس إيحاشاً!

     ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكباً عنها, مكبّاً على وجهه. فأبصر ثم عمي, وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر, ودُعي فما أجاب, وفُتح له فولّى ظهره الباب, قد ترك طريق مولاه, وأقبل بكليته على هواه, فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيّد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب. قد انحطّ بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل سافلين, وحُصِّل في عداد الهالكين!

     فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده, وإعراض الكون عنه إذ أعرض عن ربه حائل بينه وبين مراده, فهو قبر يمشي على وجه الأرض, وروحه في وحشة من جسمه, وقلبه في ملال من حياته, يتمنّى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه!

     حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال _والعياذ بالله_ فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, وإحراقه بنار البعد عن قربه, والإعراض عنه, وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته, فلو توهّم العبد المسكين هذه الحال, وصوّرتها له نفسه, وأرته إياها على حقيقتها؛ لتقطّع والله قلبه, ولم يلتذ بطعام ولا شراب, ولخرج إلى الصّعدات يجأر إلى الله ويستغيث به يستعتبه في زمن الاستعتاب!

     هذا, مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي هي كخيال طيف أو مزنة صيف؛ نغصّت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها, وحيل بينه وبينها أقدر ما كان عليها, وتلك سنّة الله في خلقه, كما قال تعالى: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون" وهذا هو غِبُّ إعراضه, وإيثار شهوته على مرضاة ربه, يعوّق القدر عليه أسباب مراده؛ فيخسر الأمرين جميعاً, فيكون معذبا في الدنيا بتنغيص شهواته, وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسم له, وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم, فهمٌّ لا ينقطع, وحسرة لا تنقضي, وحرص لا ينفذ, وذل لا ينتهي, وطمع لا يقلع.

     هذا في هذه الدار, وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك؛ قد حيل بينه وبين ما يشتهي, وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه, وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين.

     فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين, فمن أعرض عن الله بالكلية؛ أعرض الله عنه بالكلية, ومن أعرض الله عنه؛ لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أعماله وأحواله, وقارَنَهُ سوءُ الحال وفساده في دينه ومآله, فإن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس, وأظلمت أرجاؤها, وانكسفت أنوارها, وظهرت عليها وحشة الإعراض, وصارت مأوى للشياطين, وهدفا للشرور, ومصبّاً للبلاء.

     فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها, أو وجد بارقة من حبه ثم سُلبها, لم ينفذ إلى ربه منها, خصوصاً اذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات, وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات, عاكفاً على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه, هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى.

     قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همّه الله, وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه, على ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي, وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه, فأصبح في سجن الهوى ثاوياً, وفي أسر العدو مقيماً, وفي بئر المعصية ساقطاً, وفي أودية الحيرة والتفرقة هائماً, معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية, كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسفل الحش!

     فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها! يا عجبا له بأي شيء تعوّض؟! وكيف قرَّ قراره فما طلب الرجوع وما تعرّض؟! وكيف جعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا؟! أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار؟!

     فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم, ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأليم, ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه في رضاه, وطالباً رضى من سعادته في إرضاء سواه: إنما هي لذة فانية, وشهوة منقضية, تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها, فرح ساعة لا شهر, وغم سنة بل دهر, طعام لذيذ مسموم, أوّله لذة وآخره هلاك, فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القزّ, يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب, فيندم حين لا تنفع الندامة, ويستقيل حين لا تُقبل الاستقالة, فطوبى لمن أقبل على الله بكليته, وعكف عليه بإرادته ومحبته, فإن الله يُقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته.

     وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد؛ استنارت جهاته وأشرقت ساحاته, وتنورت ظلماته, وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال, وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم, فإذا أحب عبدا أحبوه, وإذا والى واليا والوه, إذا أحب الله العبد نادى: "يا جبرائيل إني أحب فلانا فأحِبَّه" فينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء, ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم. ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة.

     وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته, ويقبل عليه بأنواع كرامته, ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

    اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا, وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب, يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام, يا رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين..

..................

(1)                    (المدهش: 437_439) بتصرّف واختصار.

(2)                    (طريق الهجرتين:1/ 279_286).

الخميس، 4 أبريل 2024

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4)(مطالعة النعم)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (4) (مطالعة النعم)

الحمد لله ذي الجلال والإكرام حي لا يموت قيوم لا ينام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك الحليم العظيم الملك العلام، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام والداعي إلى دار السلام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من طرق تحصيل الافتقار المحبوب إلى الله الممدوح من لدنه مشاهدة الأسماء والصفات وبخاصة اسم الحميد.

«وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحَمِدَ نفسَه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته إليه. وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه، وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن سَريان حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه، وحمد نفسه عليه؛ فنوّعَ حمدَه وأسبابَ حمدِه، وجمعَها تارة، وفرقها أخرى، ليتعرّف إلى عباده، ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّبَ إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه.

قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا)

 وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)

 وأخبر عن حمدِ أهل الجنة له، وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال عن أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) و (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)

وبالجملة: فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكملِ الوجوه وأتمها وأدومها. وجميعُ ما يُوصف به ويُذكر به ويخبر عنه به فهو محامدُ له وثناءٌ وتسبيح تقديس. فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه، وعِزِّ جلاله، ورفيع مجده، وعلو جَدِّه.

فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده وهو حمد الصفات والأسماء.

والنوع الثاني: حمدُ النعم والآلاء، وهذا مشهودٌ للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه، وسَعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده، وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، ومن غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّتَه وعبادَه إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.

وحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذَكَرَهم قبل أن يذكُروه، وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمة مع غناه عنهم، وتبغُّضُهم إليه بالمعاصي مع فقرِهم إليه.

ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا، وأعدّ لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من النعيم والحَبْرَةِ والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ثم أرسل إليهم الرسلَ يدعونهم إليها، ثم يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جدًّا، بالإضافة إلى بقاء دار النعيم.

وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات.

وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا، لا حاجة منه إليهم. ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصاينة لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال. وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسّع لهم طرق العلم به ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه.

ويخاطبهم بألطف الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون)، (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، (قل لعبادي)، (وإذا سألك عبادي عني)

 فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف، كقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)، (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)، (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك)، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)، (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [الكهف: ٥٠].

فتحت هذا الخطاب: إني عاديتُ إبليسَ، وطردته من سمائي، وباعدته من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم! فليتأمل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدةَ لصوقه بالقلوب، والتباسه الأرواح. وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.

بارك الله لي ولكم..

...........

الخطبة الثانية

الحمد لله...

عباد الرحمن، لقد أعلمَ الله تعالى عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف، قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) وقال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (52) وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)

وقال في الأضاحي والهدايا: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بإخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) [البقرة: ٢٦٧] يقول سبحانه: إني غني عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد كلها. فإنفاقكم ليس له فيه حاجة، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته، وإنفاقُكم إنما نفعهُ لكم، وعائدته عليكم.

ومن المتعيّن على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها؛ أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرّض إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى الله أن يحيي قلبه ويزكيه، ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب الميّت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته، ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.

ومن أراد مطالعة أصول النعم؛ فليدم سَرْحَ الفكرِ في رياض القرآن، وليتأمل ما عدّد الله فيه من نِعَمِهِ، وتعرّف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره، حتى خلق النار، وابتلاءهم بإبليس وحزبه، وتسليط أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى؛ لتعظُم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها([1]). فلله على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلام الدنيا وأوراقها، ولا قُوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.

اللهم صل على محمد..

 

 



([1])  أي بإعانة الله لهم وتوفيقهم لذلك.

الأربعاء، 3 أبريل 2024

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (3) (معرفة حقيقة النفس)

 

كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (3) (معرفة حقيقة النفس)

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، وأسعد وأشقى، وأضل بحكمته وهدى، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العبد لا ينفك ضرورة عن افتقاره للغني سبحانه.

وإذا أكمل العبد مراتب الافتقار إلى الحي القيوم، وشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه من جهة كونه ربًّا، ومن وجهة كونه إلهًا معبودًا، لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره، فقد وصل إلى الفقر الأعلى، الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى، وإنما يصحّ له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية. فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر.

فإن أعطَى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية؛ اتصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناه حينئذ من فقير، وما أعزّه من ذليل، وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنيُّ بلا مال، القويُّ بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفيُّ بلا عتاد. قد قرّت عينه بالله، فافتقر إليه الأغنياء والملوك([1]).

فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته، والفاقة التامة إلى مقلب القلوب، ومن بيده أزمة الاختيار، وأنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، وأنه هو الذي يحرك القلوب بالإرادات، والجوارح بالأعمال، وأنها مدبرة تحت تسخيره، مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته، وأن مشيئته نافذة فيها.

فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إلى مالك الإرادات وربِّ القلوب ومصرِّفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه. (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: ٨].

وحكم هذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين وكل نفس؛ أنه إن حُرِّك بطاعة أو نعمة؛ شكرها، وقال: هذا من فضل الله ومَنِّه وجوده، فله الحمد، وإن حُرّك بمبادئ معصيته؛ صرخ ولجأ واستغاث وقال: «أعوذ بك منك»([2])، «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([3])، «يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك»([4]).

فإن تم تحريكه بالمعصية؛ التجأ التجاءَ أسير قد أسره عدوه، وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفّكه سيده من الأسر، ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فهو في أسر العدوّ، ناظرٌ إلى سيده وهو قادر على تخليصه، قد اشتدت ضرورته إليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: «إنما يكون الالتجاء على معرفة الابتلاء» يعني على قدر الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي.

ومن عرف قوله ﷺ: «وأعوذ بك منك»([5]) وقام بهذه المعرفة، وأعطاها حقّها من العبودية؛ فهو الفقير حقًّا. ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة.

فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه. فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئتُه، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته. فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو. (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) [يونس: ١٠٧].

والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحّة الاضطرار، وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء بها، والخروج عن ربقة العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدّعي مع الله حالًا أو مَلَكَةً أو مقامًا من قلبه؛ وإرادتُه وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه، لا يملك هو منها شيئًا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء.

فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى انحلّ من القلب انحلّ نظام التوحيد. فسبحان من لا يُوصل إليه إلا به، ولا يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته إلا بتوفيقه ومعونته. فعاد الأمر كلُّه إليه، كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول والآخر. (وإن إلى ربك المنتهى) [النجم: ٤٢]»([6]).

«فلله العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه وأكملُه على ما مَنَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنَّه الله الذي لا إله إلا هو، عالمُ الغيب والشهادة، ربُّ العالمين، قيومُ السموات والأرضين، إلهُ الأولين والآخرين. لم يزل ولا يزالُ موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، مُنزَّها عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال.

فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم، مالكُ السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها المَلَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.

البصيرُ الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخّها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع.

السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ القول وجهرُه، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلّطهُ المسائل، ولا تُبرمه كثرة سؤال السائلين، قالت عائشة: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ﷺ وإني ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) [المجادلة: ١]»([7]).

القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمنَ مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والبرَّ برًّا، والفاجرَ فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيمَ وآلِهِ أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعونَ وقومَه أئمةً يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إيّاه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّه من لغوب. ولا يُعجزِه أحدُ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل:

وكيف يفر المرء عنك بذنبه

 

إذا كان يطوي في يديك المراحلا

ولكمالِ غناهُ استحالَ إضافةُ الولد والصاحبة والشريك والظهير والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمالِ عظمته وعلوّه وَسِع كرسيه السموات والأرض، ولم تسعْهُ أرضُه ولا سماواته، ولم تُحِطْ به مخلوقاته، بل هو العالي على كل شيء، الظاهر فوق كل شيء، وهو بكل شيء محيط.

ولا تنفدُ كلماتُه ولا تبيدُ، ولو أن البحر يمدُّه من بعده سبعةُ أبحرٍ مدادٌ، وأشجارُ الأرض أقلامٌ، فكُتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماتُه، إذ هي غير مخلوقة، ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق([8]).

وهو سبحانه يحبُّ رسلَه وعبادَه المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أحبّ إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقرّ لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه.

بارك الله لي ولكم..

................

الخطبة الثانية

الحمد لله...

اعلموا عباد الله أنه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضلٌ، وكل نقمة منه عدل.

وأنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها. وأنه أفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس منها.

وأنه سبحانه لم يكلّف عباده إلا وسعهم، وهو دون طاقتهم([9])، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم، فإنه ما يسِعُونَهُ ويسْهل عليهم، وتَفْضُلُ قُدَرُهُم عنه، كما هو الواقع.

وأنه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعلِه، ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعلِ ما لا قدرة له على تركه.

وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور، يُطاع فَيشكُر، ويُعصى فيَغفر. لا أحدَ أصبرُ على أذًى سمعه منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذر منه. ولا أحدَ أحبُّ إليه الإحسانُ منه، فهو محسنٌ([10]) يحبّ المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال، طيّب يحب كل طِيّب، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ والمؤمنُ القوي أحبّ إليه من المؤمن الضعيف، بَرٌّ يحب الأبرار، عدل يحب أهل العدل، حييٌّ سِتّير([11]) يحب أهل الحياء والستر، غفورٌ عفو يحبُّ من يعفوَ عن عباده ويغفرَ لهم، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحبّ الرفق، جوادٌ يحب الجود وأهلَه، رحيمٌ يحب الرحماء، وِتْرٌ يحب الوترَ.

ويحب أسماءه وصفاتِه، ويُحب المتعبدين له بها، ويحب من يسألَه ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها، ويثني عليه بها، ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح([12]) عن النبي ﷺ: «لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله([13])، من أجل ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من الله، من أجلِ ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين».

وفي حديث آخر صحيح: «لا أحدَ أصبرُ على أذى يسمعُه من الله، يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم»([14]).

ولمحبتِه لأسمائه وصفاته أمر عباده بمُوجِبِها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإحسان والبِرِّ والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولما كان سبحانه يحبّ أسماءَه وصفاتِه كان أحبَّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبُّها، وأبغضَهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهُها. فإنما أبغض من اتّصف بالكبر والعظمة والجبروت لأن اتصافَه بها ظلمٌ، إذ لا تليقُ به هذه الصفاتِ ولا تَحْسُنُ منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروجِ من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقتِه لمنصبه ومرتبته، وتعديه طورَه وحدَّه. وهذا خلافُ ما تقدَّمَ من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان والصبر والشكر، فإنها لا تُنافي العبودية، بل اتّصافُ العبد بها من كمال عبوديتِه، إذِ المتصفُ بها من العبيد لم يتعدّ طورَه، ولم يَخرجْ بها من دائرة العبودية([15]).

والمقصود: أنه سبحانه لكمالِ أسمائه وصفاته موصوفٌ بكل صفة كمال، منزهٌ عن كل نقص. له كلُّ ثناءٍ حسن، ولا يَصدرُ عنه إلا كل فعل جميل، ولا يُسمّى إلا بأحسن الأسماء، ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل الثناء. وهو المحمود المحبوب المُعَظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه وخلَقَه، وعلى ما كل أمر به وشرعه»([16]).

اللهم صل على محمد..

 

 



([1])  وقد نبه ابن القيم ؒ بعد ذكر ما سبق شرطًا مهمًّا غفل عنه بعض المريدين للخير فقال: «ولا يتم له ذلك إلا بالبراءة من فرث الجبر ودمه، فإنه إن طرق باب الجبر انحلّ عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإسلام من عنقه، وشهد أفعاله كلها طاعات للحكم القدري الكوني. وإذا قيل له: اتق الله، ولا تعصه، يقول: إن كنت عاصيًا لأمره؛ فأنا مطيع لحُكمه وإرادته. فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إبليس.

بل وظيفة الفقير في هذا الموضوع وفي هذه الضرورة مشاهدة الأمر والشرع، ورؤية قيامِهِ بالأفعال وصدورها منه كسبًا واختيارًا، وتعلّق الأمر والنهي بها طلبًا وتركًا، وترتّب الذم والمدح عليها شرعًا وعقلًا، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلًا وعاجلًا». الطريق (1/ 54 - 55).

([2])  مسلم (486).

([3])  أحمد (17630) والترمذي (3522) وصححه الألباني.

([4])  مسلم (2654).

([5])  مسلم (486).

([6])  طريق الهجرتين (1/35 - 59)باختصار وتصرف.

([7])  أحمد (24195) والنسائي (6/168) وابن ماجه (188). وصححه ابن حجر في تغليق التعليق (5/339) والأرناؤوط في تخريج المسند.

([8])  وهذا منحىً لطيف متين.

([9])  لأن الوُسع من السعة وهي القدرة والراحة والقوة، بخلاف الضيق وهو نقص القدرة مع الشدة والتعب فهو يطيقه ولكن بمشقة.

([10]) يوصف الله سبحانه بالإحسان، أما تسميته بالمحسن ففيه خلاف قديم، ولم يثبت فيه نص من آية أو حديث، وعليهما المعوّل لا غير، فالأسماء توقيفية، ولا يُسمّى الله تعالى إلا بما سمّى به نفسه في كتابه أو على لسان نبيه ﷺ. وعليه فالراجح أن المحسن ليس من أسماء الله تعالى، إنما هو من صفاته، وبالله التوفيق.

([11]) وقد صح حديث تسميته بالستير، كما عند أبي داود (4014) وغيره وصححه الألباني: «إن الله عز وجل حييٌّ سِتِّيرٌ، يحبَ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» أما السَّتَّار فليس من أسمائه الحسنى.

([12]) البخاري (4634) ومسلم (2760) من حديث ابن مسعود ؓ.

([13]) وحمده والثناء عليه وذكره من مَدْحِهِ تبارك وتعالى، وللعلم فالحمد والمدح متفقان في الاشتقاق الأوسط (وهو الاتفاق في الحروف دون الترتيب) ومن دلالات ذلك قرب المعنيين من بعضهما لوحدة الاشتقاق، ومن ذلك: جبذ وجذب، أما الاشتقاق الأصغر فهو الاتفاق في الحروف والترتيب كنصر من النصر، أما الأكبر فهو ــ على القول به ــ الاتفاق في مخرج حروف الحلق أو الشفة مثل: نعق وثلم من النهيق والثلب. والله أعلم.

      هذا وإن علم الاشتقاق من أشرف علوم العربية وأدقّها وأنفعها، فمدار التصريف في معرفة الأصلي من الزائد عليه، حتى قالوا: لو حُذفت المصادر وارتفع الاشتقاق من كل كلام؛ لم توجد صفة لموصوف ولا فعل لفاعل. وانظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (1/65).

([14]) مسلم (2804).

([15]) وهذا ضابط حسن مضطرد.

([16]) طريق الهجرتين (1/268 – 288) مختصرًا.