إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

خبر في سوء الخاتمة.. وخابت صفقة الأعشى

خبر في سوء الخاتمة.. وخابت صفقة الأعشى
وصف النقادُ الأعشى بقولهم: كان إذا مدح رفع, وإذا هجا وضع!
    أما خبر هلاكه فمؤسف, نعوذ بالله من الخذلان, وعليه بنيت هذه الكلمة، ففي سنةِ صلحِ الحديبية هَمَّ الأعشى بالإسلام, وأنشأ قصيدة يمدح فيها النبيَّ صلى الله عليه وسلم, ومنها:
ألم تَغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدا ... وبِتَّ كما باتَ السليمُ مُسهَّدا
أَلاَ أَيُّهذا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ ... فإِنَّ لها في أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدا
نبياً يرى ما لا تَرونَ وذكرُهُ ... أغارَ لَعَمري في البلاد وأَنجدا
أجِدَّك لم تَسمعْ وَصاةَ محمدٍ ... نبيِّ الإلهِ حين أوصى وأَشهدا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقى ... ولاقَيت بعد الموتِ من قد تزوَّدا
ندمت على ألاَّ تكون كمثلهِ ... فتُرصِدَ للموت الذي كان أرصَدا
وصَلِّ على حينِ العَشِيَّاتِ والضُّحَى ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ, واللّهَ فاعْبُدا
    وكان سائراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصيدة الجميلة ليُسْلَم. فلما كان قريباً من مَكة, قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى محمداً واتّبعه ليُضرمنَّ عليكم نيران العرب بشعره،(فقد كان الأعشى كقناةِ الجزيرة حاليّا) فاجمعوا له مئة من الإبل, ففعلوا. فأتوه وقالوا: أين أردت يا أبا بصير؟. قال: أردت صاحبكم هذا _يعني النبي عليه الصلاة والسلام_ لأُسْلِمَ. فقالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هي؟ قالوا: الزنا والقمار والربا والخمر. قال: أما الزنا فلقد تركني، وأما القمار فلعلي إن لقيته أن أصيب منه ما يغنيني عنه، وأما الربا فما دِنت وما أدَنت، وأما الخمر - أَوّه إن في النفس منها لعُلالات- فأرجع إلى صُبابةٍ قد بقيت في المِهرَاس فأشربُها. فقالوا: هل لك أن تأخذَ مئةً من الإبلِ وترجعَ إلى بلدك سنتَك هذه، وتنظرَ ما يصيرُ إليه أمرُنا. فقال: ما أكره ذلك. ففعلوا. فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان قريباً من بلده منفوحةَ باليمامة رمى به بعيرُه فقتله..
 وتأمل عظيم العبرة في قوله:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى .. ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
 واسأل ربك الثبات على الدين حتى الممات, وليت شعري ما ذا سيقول غداً؟!

إبراهيم الدميجي

"وقل رب ارحمهما"

"وقل رب ارحمهما"
الحمد لله رب العالمين...
قال صلى الله عليه وسلم عن أويسٍ القَرَني: "له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبره" فبرُّه بأمه جعله مستجاب الدعوة.
وبرُّ الوالدين من أعظم أسباب الغفران.. قال الإمام أحمد : بِرُّ الوالدين كفارةٌ للكبائر.
وفي المسند أنَّ رجلاً أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ ذنباً عظيماً،
-أي من الكبائر- فهل لي من توبة؟ قالَ: "هل لك مِنْ أمٍّ؟" قالَ: لا، قالَ: "فهل لك من خالةٍ؟" قال: نعم، قال: "فبِرَّها" قلتُ: لأن الخالة هي بقيّة الأم.
وقال رجل لعمر: قتلتُ نفساً،- وهو اعظم ذنب بعد الشرك -  قال: أمُّك حية؟ قال: لا، قال: فأبوك؟ قال: نعم، قال: فبِرَّه وأحسن إليه. ثم قال عمر: لو كانت أمُّه حيَّةً فبرَّها وأحسن إليها، رجوتُ أنْ لا تَطعَمهُ النارُ أبداً. وعن ابن عباس بمعناه أيضاً.
ألم تعلم أن برّ والديك أحبّ إلى الله من الجهاد، ففِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: "قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا" قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "بِرُّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ".
وفي حديث آخر لم يذكرِ الوالدين فقال العلماء لأنه لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ. فاحمد الله الذي أعطاك ما حرم منه غيرَك.
 ألا ما أعظم حقَّ الوالدين. ويكفي أن الله تعالى قد قُرِنَ حَقّهما بحقِّه: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) "ومن أدرك أبويه أو أحدَهما فلم يدخلاهُ الجنةَ فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين فقلت: آمين"
وَلمُسْلِمٌ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُبَايِعُك عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ لِيَبْتَغِيَ الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ"؟ قَالَ: نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا حَيٌّ. قَالَ: "فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ"؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا". الله أكبر ولله الحمد. وقال: لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ".
وعند أحمدَ بسند صحيح أن رجلًا قال: إني جئت لأبايعُك وتركتُ أبويّ يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتَهما"
والعجب أنّ لهما حقًّا وإن كانا مشركين فكيف بالمؤمنَين الحنيفَين. يالَله ألهذا الحدّ وصل أمرُ البِرّ.
وتأمّل فقه مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ في قوله: بِتُّ أَغْمِزُ رِجْلَيْ أُمِّي، وَبَاتَ عَمِّي يُصَلِّي لَيْلَتَهُ، فَمَا سَرَّنِي لَيْلَتَهُ بِلَيْلَتِي. وقيل للحسن: إني أتعلم القرأن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "عشاء مع أمك تُقِرُّ به عينَها، أحب إلي من حجة تحجها تطوعاً".
ولمن رحل والده: ادعُ له واستغفر له وصِل أصحابه.. مرّ رجل من الأعراب بابن عمر فسلّم عليه عبدُ الله، وحملَه على حمار كان يركبُه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه. فسُئل فقال: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبرَّ البرِ صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه" رواه مسلم.
فبرهما باب للجنة وعقوقُهما حفرةٌ إلى النار قال صلى الله عليه وسلم: "ملعونٌ من عقَّ والديه" رواه أحمد.
ولمن ثقُل عليه البر أقولُ: تَطْلُبُ الْجَنَّةَ بِزَعْمِك وَهِيَ تَحْتَ أَقْدَامِ أُمِّك، حَمَلَتْك فِي بَطْنِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَأَنَّهَا تِسْعُ حِجَجٍ، وَكَابَدَتْ عِنْدَ وَضْعِك مَا يُذِيبُ الْمُهَجَ، وَأَرْضَعَتْك مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا، وَأَطَارَتْ لِأَجْلِك وَسَنًا، وَغَسَلَتْ بِيَمِينِهَا عَنْك الْأَذَى وَآثَرَتْك عَلَى نَفْسِهَا بِالْغِذَاءِ، وَلَوْ خُيِّرَتْ بَيْنَ حَيَاتِك وَمَوْتِهَا لَآثَرَتْ حَيَاتَك بِأَعْلَى صَوْتِهَا.
 هَذَا وَكَمْ عَامَلْتهَا بِسُوءِ الْخُلُقِ مِرَارًا فَدَعَتْ لَك بِالتَّوْفِيقِ سِرًّا وَجِهَارًا، فَلَمَّا احْتَاجَتْ عِنْدَ الْكِبَرِ إلَيْك جَعَلْتهَا مِنْ أَهْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْك، وَقَدَّمْت عَلَيْهَا أَهْلَك وَأَوْلَادَك فِي الْإِحْسَانِ وَقَابَلْت أَيَادِيهَا بِالنِّسْيَانِ، وَصَعُبَ لَدَيْك أَمْرُهَا وَهُوَ يَسِيرٌ، وَطَالَ عَلَيْك عُمُرُهَا وَهُوَ قَصِيرٌ، وَهَجَرْتهَا وَمَا لَهَا سِوَاك نَصِيرٌ.
ألا تخشَ أن تُعَاقَبُ فِي دُنْيَاك بِعُقُوقِ البنات والْبَنِينَ وَتخزى فِي أُخْرَاك بِالْبُعْدِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يا هذا تذكر الوعيد (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)
لِأُمِّك حَقٌّ لَوْ عَلِمْت كَبِيرُ   ...    كَثِيرُك يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيرُ
فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثِقَلِك تَشْتَكِي  ...   لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّةٌ وَزَفِيرُ
وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ ... فَمِنْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ
فَآهٍ لِذِي عَقْلٍ وَيَتّْبَعُ الْهَوَى  ...  وَآهٍ لِأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ
فَدُونَك فَارْغَبْ فِي عَمِيمِ دُعَائِهَا  ...   فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُو إلَيْهِ فَقِيرُ
لا تجعل أمَّك مستودعًا لأحزانك، فأخبرها بما يسرّك لا ما ساءك فحزنها عليك أضعافُ أضعافِ حزنِك على نفسك.. فارحمها رحمك الله.
واعلم أن بر الوالدين ليس في طاعتهما فقط، بل البر الحقيقي هو فنُّ إدخالِ السرور عليهما بأي شيء كان.
وتذكّر أن غيرك قد حُرم من نعيم لقياهما، بموت أو غربة أو غيرها وودّ لو دفع سنة من عمره بالجلوس معهما ساعة من ليل أو نهار. فاعرف – يا رعاك الله – قدر نعمة الله عليك بوالديك.
وإني موصيك ببرِّهما برًّا خاصًّا لا يسبِقُكَ إليه سابق ولا يلحَقُكَ فيه لاحق.. دلّلهما وأظهر لهما بصدق حبَّك وشوقَك ولهفتك..  ولتكن بَهجة لقلبيهما وسرورًا وسعادة وأمنًا وكفاية.
لا تحزنهما بالانشغال عنهما بجوال أو غيره. أشركهما في كل دعوة صالحة، بل خصَّهما دونَك بدعَوات، ولا تنس في كل سجود أن تضرع لربك: رب ارحمهما كما ربّياني صغيرًا.
وثق أنك مهما فعلت وأحببت فلن تستطيعَ أن تصل لمستوى حبهما لك.. فحب الوالد لولده هو من النوع الذي لا يقاس ولا يوزن لأنه لا حدّ له.
وسيأتيك يومٌ لن يبق من والديك سوى الذكريات، فافعل اليوم ما تريد أن تتذكّره غدًا.
 وإذا أردت أن تعرف قدر الوالدين فاسأل من فقدهما!

إبراهيم الدميجي

لكل مهموم

لكل مهموم
الحمد لله رب العالمين...
تموت النفوس بأوصابها    ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي   أذاها إلى غير أحبابها
 لكل مهموم أو حزين أو مريض أو محطم الفؤاد أو متآكل الروح من فشله أو عثرته أو إحباطه..  ثمّ رب يراك.. وإله يسمع نجواك.. ويفرح بضراعتك.. ويقرّبك إذا تخلّى عنك الأقربون.
ويذكُرك إن نسيك المحبون..
ويرحمُك إذ قسا عليك الألدّون..
ويرفعك ويرزقك ويشفيك ويسعدك.. ويشرح صدرك وييسر أمرك..
فأين أين أين عن طرق بابه..
واللياذِ بعظيم جنابه..
والالتذاذِ بجميل خطابه..
 والانطراح في عبوديته ودعائه.
اشك نفسكَ والناسَ إليه.. واحذر من أن تشكوه إليهم..
 كيف تشكو من لا يأتي بالخير إلا هو..؟! 
   وَإِذَا شَكَوتَ إلى ابنِ آدمَ إِنَّمَا   تَشْكُو الرَّحِيمَ إلى الذي لا يَرْحَمُ
وعليك بجادّة الأنبياء.. "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"
والبث هو الحزن الذي لا يطاق. والله المستعان.

إبراهيم الدميجي

إنّها.. سبعُ نعمٍ كبار!

إنّها.. سبعُ نعمٍ كبار!
الحمد لله رب العالمين..
تركوا التفّكر في أمور فلاحهم .. فكأنهم بجمودهم أصنامُ
العاقل الحازم الرشيد، المريدُ لنفسه الخلاصَ ثم الفلاحَ وحسنَ العاقبة لا بد له من وقفات يخلو بها مع نفسه، يتأمل وإياها منن ربه وآلاءَ معبوده..
 وجّه الله عبادة للتدبر في آياته: (أفلا يتدبرون القرآن) وأرشدهم للتفكر في الخليقة: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) والنهاية: (ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار) وقال حكيم الصحابةِ أبو الدراداء رضي الله عنه: تفكر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة..
يا لَله! كم تحتَ هذه الكلمة من كنوزِ علمٍ وذخائرِ حكمة!
ألم تعلم أنك منغمسٌ حتى شعرِ رأسك في نعمٍ لا تستطيع إحصاءها.. مع هذا فأنت مأمورٌ بشكرها، ولكن من رحمة ربك بك أن جعل وجوبَ الشكرِ على قدر وُسعك وطاقتك، والأمر يسير بحمد الله.
قف الآن هنيهاتٍ متذكّرًا بعض نعم الحميد الكريم الوهاب عليك.. فالله يحب المتحدثين بنعمه، المتفكرين في آلائه.
 ثَمّ سبعُ نعمٍ كبار..
أًولاها: نعمةُ الخلق.
إنها نعمةٌ مدهشةٌ عجيبة، فأحضر عقلك بين يديك وعد بذاكرتك لأبعدِ ما تستطيع، يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهر، وسنةً بعد سنة حتى تقفَ عند عتبةٍ زمانيّة، لا تستطيع بذاكرتك اختراقَ حاجِزِها ولا كشفَ سِترِها..
مِن ذلك المكانِ الزمانيٍّ.. اقفز بمُخيلتك إلى ما قبلَ خلقِك!
هناك في ذلك العالم السحيق لا تجدُ نفسك، قد وُجِدَ الكونُ وأنت غيرُ موجود..
 ليس لك ذرّةُ وجود فيه.. لا جسدًا ولا روحًا.. ليس هناك منك أيها الفاني سوى العدم! مرّت أزمانٌ وأزمان وأحداثٌ في هذا الكون وأنت غيرُ موجودٍ فيه.. لا إله إلا الله. (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورًا).
بعد ذلك خلقك ربُّكَ ، وفطرك وبرأك، وسوّاك وأوجدك ولم تكُ شيئًا.. فاحمد الله واشكره على نعمة خلقِكَ، فهي خيرٌ للصالحين، وأكثرُ البشر عن شكرها.. غافلون.
ثانيةُ النعم: نعمةُ الاصطفاء الانساني.
 لمّا خلقك ربُّكَ.. اختارك لتكون مخلوقًا مُمَيّزًا فاضلًا كريمًا.. "ولقد كرّمنا بني آدم"
 وتأمل ضدَّ ذلك، ما ذا لو أن اللهَ قد خلقك شجرةً  تُرعى وتُقطعُ وتُرمى للنار، أو خلَقَكَ صخرةً، تَهوِي وتُكسَر، أو قطرة ماء في بحرٍ، أو ذرّةَ هواء، أو حيوانًا بهيمًا، أو طيرًا حائرًا، أو حشرة تائهة..!
اصطفاك الله من جميع أجناس مخلوقاته لتكون بشرًا مُمَيّزًا كريمًا، تستحقُّ رضاهُ وحبّه، وكرامتَه وجنته.. إن شكرته وأطعته.
ثالثةُ النعم: نعمةُ الإسلام.
 وهي أعظم النعم بإطلاق، ومهما تصوّرتَ قدْرَ هذه النعمةِ فلن تطيق قدْرها، ويكفيك أن ترى شؤمَ الكفر وظلْمةَ الضلال، وبشاعة المآل، وسوء العاقبة والمُنقلب.
ألم تعلم أن نسبةَ دخولِ البشرِ للجنة هي واحد من كل ألف! اللهم سلّم سلّم..
في صحيح البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قال قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
إن أكثر بني آدم لن يعودوا لمسكنهم الأول الذي أخرجوا منه وهو الجنة: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين) فهل أنت منهم؟!
سيغضبُ اللهُ في ذلك اليومِ غضبًا لم يغضب قبله مثلَه، ولن يغضبْ بعده مثلَه.. فما ذا أعددت لغضبه من صالح العمل..
رابعةُ النعم: نعمةُ الاصطفاءِ المحمديّ.
 وأبشر ببشرى الله لك، فقد جعلك من خير أمة أُخرجت للناس، وخصّك بأن تكون من أتباع النبي الخاتَمِ الكامِل.. فاسْعَدْ الآن وابتهج. فأنت من الأمة المرحومة، فلهذه الأمةِ من المزايا والخصائصِ ما ليس لغيرها، من مضاعفةِ الأجورِ والحسنات، والتجاوُزِ عن الخطايا والسيئات، ورحمةِ الله لها ورفعِ الدرجات، كرامةً لسيدها نبيِّ الرحمة والهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه..
ولكلّ نبي دعوةٌ مستجابة فاستعجلَ كلُّ نبيٍّ دعوته، لكن نبيّك ادّخرها لك شفاعة عند ربك يوم القيامة.. فكن من أهل الإخلاص والاتّباع تنلْها بإذن ربك..
وما حملت من ناقةٍ فوق رحْلِها  ..  أبرَّ وأوفى ذمةً من محمدِ
ولا طلعت شمس النهار على امرئ  ..  تقيٍّ نقيٍّ كالنبي محمدِ
ولا لاحت الجوزاءُ شرقًا ومغربًا  ..  بأطيبَ من طيبِ النبي محمد
صلى الله عليه وسلم.
ولولا أن الله أرسله ووفّقه لكنت أنت ووالديكَ وكلَّ من تحب من حطبِ جهنم، لكن الله استنقذكم به من عَمَاية الضلالة لنور الإسلام والايمان، فاحمد الله على ذلك، واسأله المزيد من فضله، وألحَّ عليه، ألحَّ عليه بأن يُثبّتكَ على الحق حتى تلقاهُ وهو راض عنك.
إنك إنسان محظوظٌ متميزّ بكونك من أتباع هذا النبي المُمَيَّز. فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضون أن تكونوا رُبُع أهل الجنة، فكبّر الناس. فقال: أما ترضون أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة، فكبّر الناس. فقال: أما ترضون أن تكونوا شطْرَ أهل الجنة" ثم وجدنا الله قد زاده على ما رجا من ذلك، فجعل أمته ثلثي أهل الجنة. رواه البخاري. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أهلُ الجنة يومَ القيامة عشرون ومائةُ صفٍّ، أنتم منهم ثمانون صفًّا"
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أنه كان يتلو قولَ الله تعالى في إبراهيمَ عليه السلامُ: "رب إنَّهُنَّ أضْلَلْن كثيراً من الناس فَمَن تَبِعني فإنَّه مِنِّي ومَن عصاني فإنك غفورٌ رحيم" وقولَ عيسى عليه السلامُ: "إن تعذِّبهُم فإنَّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم" فرفع يديه قائلاً:" اللهم أمتي أمتي" وبكى، فقال الله عز وجل - وهو أعلم -:"يا جبريل اذهب إلى محمد فسلْه: "ما يبكيك؟" فاتاه جبريل فسأله، فأخبره النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: "يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: "إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوؤك" متفق عليه. "ولسوف يعطيك ربك فترضى"
عليك بتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم، وما فيها من أحواله وأوصافه وأخباره. واعلم أنّك كلّما استوعبت سيرتَه كلّما ازددت به شغفًا.. وحبًّا.. وشوقًا..
 إنه يُحبّك ويشتاقُ لك، فهل لك مهجةٌ تُطيقُ الصدودَ يا صاح!
تسلَّى الناسُ بالدنيا وإنّا  ..  لعمرُ الله بَعْدَك ما سَلَيْنا
والذي نفسي بيده لوِ استغرقتَ عُمُرَكَ في الصلاةِ والسلامِ عليه ما أدّيتَ مِعشارَ حقّهِ عليك، مع ذلك فأكثر من الصلاةِ والسلامِ عليه ما اسطعت. ولقد أوصاك وبشّرك بقوله "إن أولاكم بي يوم القيامة أكثرُكم علي صلاة"
تكادُ حين تناجيكم ضمائرُنا  .. يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاءُ ففي ..  مواقفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا
خامسةُ النعم: نعمةُ الهدايةِ للسنة.
إذ جعلك الله من أهل السنة والجماعة، لا من أهل الفُرقة والبدعة، هل هناك أجملُ.. من أن تبيتَ على مُعتقدِ رسول الله صلى الله عليه وسلمَ وصحابته الأبرار..
إن معتقدَ أهلِ السنة موافق للفطرة مريحٌ للنفس مبهجٌ للروح مغذٍّ للعقل، فليس فيه خرافةٌ ولا دجلٌ ولا شعوذةٌ، ولا تعقيدٌ ولا قرمطةٌ ولا سفسطةٌ.. بل هو الزُّلالُ الصافي للوحي، والخلاصةُ النقيةُ للرسالة.. والمهيَعُ السهلُ المُنيرُ للجنَّة، فاستمسك به.. وافرح به.. واثبت عليه.. يا رعاك الله.
سادسةُ النعم: نعمةُ الصلاح والاستقامة.
فما كُلُّ من عرف الحق عمل به، ولا كلُّ من عَلِمَ الهدى اهتدى، ولا كلُّ من اهتدى ثبت.. فافرح بصلاحِك واستقامتك وورَعِك وعفافِك، واسأل ربَّك المزيدَ من فضلِه.. ورحمتِه.. وتوبتِه.. وغفرانه.  
سابعةُ النعم: النعمُ المتعلقة بالصحة والعافية في العقل والبدن والرزق.
تفكّر في نعمة العقلِ والإدراك وما فيه من الآلاء والمِنح، وفي الجسدِ وما فيه من العجائب والحِكَم، تأملِ القلبَ ونبضَه، والدمَ وجريانَه، والعظمَ وإحكامَه، والعَصَب ودقّتَه، والنَّفَسَ وراحتَه، والبصرَ ومُتعتَه، والسمع وضرورتَه.
أبحِرْ بخشوعٍ في تأملِ نِعَمِ الروح والعقل والجسد.. واهتف بقلبك: آمنتُ بك يا ربي.. حَنانيك خُذ بيدي..
اسبح في بحر التأمّل.. لنعم الكريم عليك، واحمده حمْد من عَرَف وخضَعَ وخشَع.. وامتلأ فؤادُه بالمحبّة والشكر والامتنان.. للوهاب الكريم الرحمن (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)
والآن: قد عرفتَ.. فالزم. وانتشِ بهذه النّعم، واغتبط وافرح بها، ولا فَرَح كالفَرَحِ بالله، لا فرح كالفرح بالله، ولا أُنسَ كالأنسِ بالله.. واشكرهُ وَسْلهُ المزيد، فقد وعدك إن كنت من الشاكرين..
 فقد وعدك إن كنتَ.. من الشاكرين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد عدد أنفاسِ أهلِ الجنة.
إبراهيم الدميجي
10| 1| 1447

الثلاثاء، 3 مارس 2015

خشية الله عند السلف وعاقبة الذنوب

خشية الله عند  السلف وعاقبة الذنوب
7/5/1436
الحمد لله....
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى, وتزودوا لرحيلكم وخيرُ خير الزاد التقوى, واحذر الهوى فهو يهوي بصاحبه للهاوية.
عباد الرحمن: إن القامع لهواه حري بالفوز والفلاح في دنياه وأخراه, فهو شديدُ الخشية لله تعالى, عظيمُ الرجاء به, يكدح في مراضيه ويلتذ بالقُرَبِ إليه, قال الله تعالى: (ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) "وقد روى الترمذي في جامعه وصححه الألباني عن عائشة رضى الله عنها قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: "لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون, ويخافون أن لا يتقبل منهم, أولئك يسارعون في الخيرات"
عباد الله: إن الله سبحانه قد وصف أهلَ السعادة بالإحسان مع الخوف, ووصفَ الأشقياء بالإساءة مع الأمن, ومن تأمل أحوال الصحابة رضى الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف, ونحن جمعنا بين التقصير - بل التفريط – والأمن! فهذا الصديق يقول: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. وكان يُمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وكان يبكي كثيرًا ويقول: أبكوا فان لم تبكوا فتباكوا. وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجل. وأُتي بطائر فقلّبه ثم قال: ما صِيد من صيد ولا قطعت من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح.
 ولما احتُضر قال لعائشة: يا بنية, إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذه الحِلاب (وهو الإناء الذي يُحلب فيه اللبن) وهذا العبد, فأسرعي به إلى بن الخطاب. وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتُعضد. وقال قتادة: بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خَضِرَةٌ تأكلني الدواب.
 وهذا عمرُ بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ قوله: (إن عذاب ربك لواقع) فبكى واشتد بكاؤه حتي مرض وعادوه. وقال لابنه وهو في الموت: ويحك ضع خدي على الأرض لعل الله أن يرحمَني, ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر الله لي – ثلاثًا - ثم قضى. وكان يمرّ بالآية في ورده بالليل فتخنقه العبرة فيبقى في البيت أيامًا ويعاد ويحسبونه مريضًا. وكان في وجهه رضي الله عنه خطّان أسودان من البكاء.
 وقال له ابن عباس: مصّر الله بك الأمصار وفتح بك الفتوح, وفعل وفعل. فقال: وددت اني أنجو لا أجر ولا وزر.
 وهذا عثمان بن عفان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتلّ لحيتُه. وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري الى أيتِهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.
 وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبكاؤه وخوفه, وكان يشتد خوفُه من اثنتين: طولِ الأمل واتباعِ الهوى, قال: فأما طول الأمل فيُنسي الآخرة, وأما اتّباع الهوى فيصد عن الحق, ألا وإن الدنيا قد ولّت مدبرة, والآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فان اليوم عمل ولا حساب, وغدًا حساب ولا عمل.
 وهذا أبو الدرداء  كان يقول: إن أشدَّ ما أخافُ على نفسى يوم القيامة أن يقال: يا أبا الدرداء, قد علمتَ فكيف عملت فيما علمتَ؟
 وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعامًا على شهوة, ولا شربتم شرابًا على شهوة, ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه, ولخرجتم إلى الصَّعُدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم, ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل.
 وهذا عبد الله بن عباس كان أسفلَ عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.
وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد, وددت أني لم أُخلق. وعُرضت عليه النفقة فقال: عندنا عنزٌ نحلِبها, وحُمُرٌ ننقل عليها, ومُحرَّرٌ يخدمنا, وفضل عباءة, وإني أخاف الحساب فيها.
 وقرأ تميم الداري ليلةً سورة الجاثية, فلما أتى على هذه الآية: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) جعل يرددها ويبكى حتى أصبح.
 وقال أبو عبيدة بن الجراح: وددت أني كبش فذبحني أهلي, وأكلوا لحمي وحَسَوا مَرَقى. وهذا باب يطول تتبّعه يا عباد الله, ولكن اعلموا أن من خاف اليوم أمِن غدًا بإذن الله, والله تعالى يقول: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) وقال سبحانه: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)
واحذروا يا عباد الله سوء الخاتمة وبطلان العمل, وقد بوّب البخاري رحمه الله في صحيحه: بابُ خوف المؤمن أن يحبط عملُه وهو لا يشعر. وقال ابراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّبًا. وقال بن أبي مليكة ادركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه, ما منهم أحد يقول انه على إيمان جبريل وميكائيل.
 وقال الحسن: ما خاف النفاق إلا مؤمن, ولا أَمِنه إلا منافق.
 وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: أنشدك الله, هل سمانى لك رسول الله؟ - يعني في المنافقين – فيقول: لا, ولا أزكى بعدك أحدًا.
عباد الحمن: إن عاقبة اتباع الهوى هي الهاوية, وما دخل الشر على قلب امرئ إلا من قبل جهله وهواه, وما ما أفلح وجهٌ إلا من قبل هداه بفضل مولاه.
إن النظر لعاقبة الهوى كاف في قطع علائقه وبَترِ عروقه لمن كان له قلب, حتى وإن مسه طائف من الشيطان لضعفه وطروء الغفلة على قلبه فسرعان ما يعود لكنف ربه والأوبة إليه واسترحامه واستغفاره, أما من اتبع نفسه في السوء هواها وتمنى على الله الأماني بلا عمل فلا يلومن غدًا إلا نفسه (ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد)  
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: "يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه. وعن الحسن في قوله: (ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه".
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واستبصروا بدينكم وتفقهوا فيه وحاسبوا أنفسكم قبل الحساب.
إن على المؤمن الناصح لنفسه إن يحمي قلبه من الداء قبل حلوله, وأن يداويه بعد وقوعه, وإن يبادر بحسم مادته قبل استفحاله. قال ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء: "فلنذكر دواء الداء الذي إن استمر أفسد دنيا العبد وآخرته, فممّا ينبغي أن يُعلم أن الذنوب والمعاصي تضر ولا شك, وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر, وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
 فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء  وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه, فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها, وباطنه أقبح من صورته وأشنع, وبدل بالقرب بعدًا, وبالرحمة لعنة, وبالجمال قبحًا, وبالجنة نارًا تلظّى, وبالإيمان كفرًا, وبموالاة الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة, وبزَجَلِ التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش, وبلباس الإيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟
فهان على الله غاية الهوان, وسقط من عينه غاية السقوط, وحلّ عليه غضب الرب تعالى فأهواه ومَقَته أكبر المقت فأرداه, فصار قوّادًا لكل فاسق ومجرم, رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة, فعياذًا بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.
 وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية, ودمرت ما مرّت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم, حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
 وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطّعت قلوبهم في أجوافهم, وماتوا عن آخرهم؟
 وما الذي رفع قرى اللوطيّة حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم, ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعًا, ثم أتبعهم حجارةً من سجيل السماء أمطرها عليهم, فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم؟ ولإخوانهم أمثالُها, وما هي من الظالمين ببعيد.
 وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظُلل, فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظّى؟
 وما الذى أغرق فرعونَ وقومَه في البحر, ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم, فالأجساد للغرَق والأرواح للحرْق؟
 وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
 وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات, ودمّرها تدميرًا؟
 وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟
 وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أُولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار, وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء, وأحرقوا الديار, ونهبوا الأموال, ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه, وتبّروا ما علو تتبيرًا؟
 وما لذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات, مرّة بالقتل والسبي وخراب البلاد, ومرة بجور الملوك, ومرة بمسخهم قردة وخنازير, وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب؟
 عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص, فرّق بين أهلها, فبكى بعضهم إلى بعض, فرأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي, فقلت: يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال: ويحك يا جبير, ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره, بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك, تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه..