إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 17 أكتوبر 2019

العفاف ضرورة الزمان


العفاف ضرورة الزمان

الحمد لله مستحقِّ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهابُ المنان، الرحيم الرحمن، المدعوُّ بكل لسان، المرجوُ للعفو والإحسان، الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدنه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميلُ العوائدِ، الجزيلُ الفوائدِ، أكرمُ مسؤول، وأعظم مأمول، علّامُ الغيوب مفرّج الكروب، مجيبُ دعوةِ المضطر المكروب، وأشهد أن نبينا محمداً عبدُه ورسوله، وحبيبُه وخليله، الوافي بعهده، الصادقُ في وعده، الواثقُ بربه, ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّدُ بالمعجزات الظاهرة، والبراهينِ الباهرة. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى كما أمر, واتركوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر, وأعلموا ان الدنيا دارُ ممر وأن الاخرة هي دار المقر.

ألا فاتقوا الله عباد الرحمن، واعلموا أن العفاف تاج أخلاق المؤمنين، وشمس صفات المتقين، وقد أجمعت أمم الأرض على استحسانه، ورفعت صاحبه للمقامات العالية، ذلك أنه لا يكون إلا لشريف النفس سامي الخُلق، مأمون الجوانب الغادرة.
ولقد أثنى الله تعالى على أهله، وجلّلهم بحفظه ومعونته، ووعدهم أجزل العطايا وأكبر الهبات لأنهم تساموا بنقاء أرواحهم وحسن تدينهم عن كل ما يشوب ذلك النقاء أو يخدش جناب الإيمان.
وحَدُّ العفاف: كف النفس عما لا ينبغي لها. وعلى قدر تحقيقه يقترب صاحبه من كماله في نفسه ورفعته عند ربه.
هذا والعفة أنواع عديدة، وجماعها الكف عن الحرام والاستيحاش منه والازورار بعيدًا عن ذرائعه. وهي منقسمه على الجوارح، وأصولها ثلاثة:
 عفة الفرج وعفة اللسان وعفة البطن، والبقية متفرعة عنها كالعفة في المال والرئاسة والمدح والتكاثر ونحو ذلك.
وإذا ضبط المرء عفته في أنواع العفة الثلاث فقد انتظمت له سائرها، وتيسرت له عواقبها، ويكون حينها قد لبس ثوب العفاف. وهي كالتالي:
 أولًا: العفة عما في أيدي الناس:
 وهي أن يعفَّ عما في أيدي الناس، سواء ببصره أو سمعه أو لسانه أو حتى فكره، وأن يقنع برزق الله له، فهو أحكم وأعلم وأرحم. قال الله تبارك وتعالى: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) وكذلك بأن يترك مسألتهم، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئًا وأتكفَّل له بالجنة". فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. (1)
ثانيًا: كف اللسان عن الأعراض:
فيجب على المسلم كف لسانه عن أعراض الناس، وألا يقول إلا طيبًا. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (2) ويتبع اللسان القلم والكتابة. فالقلم هو اللسان الثاني. ويلحق به الكف عن الدماء والازورار عن تخوّضها بلا برهان شريعة. ويتبعه كذلك لحظ العين أو حركة اليد أو غيرهما بازدراء أو همز أو لمز، أو أذيّةٍ.
ثالثًا: عفة الفرج عمّا حرم الله:
وهي أن يعفَّ فرجه عن المحرمات والفواحش. وقد اشتدت الحاجة في هذا الزمان للتذكير به والتنويه بشأن أهله والتحذير من تدنيسه، والله المستعان.
الفرج الحرام حفرة إلى الجحيم، وأكثر أهل النار إنما دخلوا منها ومن اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار. فقال: «الفم والفرج». (3)
ويتبع عفاف الفرج عفافُ رُسله كالسمع والبصر والكلام وغيرها. يكفي في خبث المعصية مسمّاها لأنها جرأة على مخالفة الجبار جل جلاله ونوع كفر لنعمه التي لا تعد ولا تحصى، فكيف نعصي من لا قوام لنا إلا به؟!
عباد الله: إن العفاف برهان التقوى ودليل الاستقامة، فالدنيا بأسرها امتحان صبر واختبار صدق، فمن عفّ وكفّ وصبر لله على الاستقامة فهو المؤمن حقًّا والفاضل صدقًا.
والعفاف ضرورة الزمان، لأنا نعيش زمانًا عاصفًا بكل المقاييس، فأبواب الشهوات المحرمة مشرعة على القلوب الضعيفة بلا رقيب إلا من لدن علام الغيوب!
بل قد تسلطت الشهوات على الشبهات حتى استبطنتها خفية، فصارت الشبهات سلّمًا لبلوغ حظوظ النفس الأمارة بالسوء والفحشاء، ففي الأموال ضعف وازع الخوف من الربا – على سبيل المثال – بسبب اشتباه معاملات الحلال بالحرام، وفي الأنكحة اخترع الشيطان للناس طرقًا قذف زخرفها في قلوب بعضهم فروّجوها حتى اشتبه السفاح الذميم بالنكاح الشريف. فإذا استمرأ العبد المشتبه والمكروه سهل عليه خوض الحرام الصريح، إذ ثوب الإيمان يتقلص عن المؤمن شيئًا فشيئًا مع كثرة اختلاط المشتبهات والمكروهات في قلبه، وينقص حتى لا يطيق مدافعة الباطل ولا مجاهدة الأمّارة!
وفي أمور الرئاسات وسباع الغضب وأدخنة اللهو وقتار الغفلة ما لا يكاد يُحصى تنظيرًا وتطبيقًا.
لذا، كانت قيمة العفاف عزيزة جدًّا في هذا الزمان.
إن العفيف سيد نفسه، غير مستعبد لهواه وطمعه، بل قد علّق ناصية عبادته على وفق شرع ربه، كلّما هبت على نفسه عواصف الشهوات ثبت به العفاف الراسخ في قلبه كالجبل الأشم، يسمو ببصيرته صُعُدًا في مراقي الفلاح، يتنسّم وحي ربه فيتسنّم سبيل رضوانه.
قلبه العامر بالغنى بربه كفاه عفافًا عما سواه، كان في بداية أمره يجاهد نفسه الأمارة حتى رقّاها لتكون لوّامة، فما زال بها حتى اطمأنت وسكنت وابتهجت واغتنت، وأيقنت أن الغِنى - كل الغنى - في الاستعفاف عما لا يحل؛ فكانت من المفلحين. حينها التفت بقلبه العفيف إلى ما خلّفه من حطام وبهرج ثم أشاح عنه عازمًا على لزوم ذلك المنهج، وأي منهج؟! إنه سبيل الله وصراطه ودينه ورضوانه.
يقرأ قول ربه الحاضّ على لزوم طريق العفة بكل أنواعها في البطن والفرج والمال والجوارح وهو يرى تكرار الأمر به في الشريعة: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) فغض البصر يسبقه غض القلب عن خطرات الحرام ويثمر منه حفظ الفرج وصيانته.
 وقال سبحانه آمرًا أمرًا حاسمًا جازمًا قاطعًا لكل تسويل باطل وتسويغ ذريعته: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فعليهم العفاف ومن الله لهم الغنى. والفقر ليس بعذر في الخطيئة: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) وقد تكفّل الله تعالى لأهل العفاف بالغنى والمعونة، فقد بشرنا صلى الله عليه وسلم بوعد الله تعالى للمتعففين، وهو الوعد الذي أحقّه على نفسه كرمًا وامتنانًا وهو لا يخلف الميعاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف». (4)
ويتذكّرُ الصدّيقَ الذي رمى كل شهوة الدنيا خلف ظهره صارخًا في وجه الهوى: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) فعافاه مولاه: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) حفظه ربه بالعفاف لإخلاصه ونقائه وصدق توحيده فصرف حفرة الغفلة عنه عليه السلام.
لقد كان العفاف من الأصول الأولى للإسلام، فقد كان الأمر به واضحًا صريحًا من البداية، فقد ذكره أبو سفيان رضي الله عنه لهرقل حينما سأله عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف.." (5)
والعفيف غني بقناعته وطيب نفسه وانشراح صدره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة». (6)
لقد كان العفيف الأكبر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يعلي قيمة العفة ويُثنى على الناس بها، إذْ كان العفاف من أكبر معايير الإيمان لديه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا". وقال: "وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيفٌ ذو عيال". (7)
وحتى عند أعنف أمر وهو القتل فعفاف المؤمن حاضر هنالك، فلا يتعدى ولا يمثّل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعفّ الناس قتلة: أهلُ الإيمان». (8)
ومن أدعيته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لربه تعالى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". (9)
والعفيف موعود على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». (10)
واعلم أن من أعظم أسباب العفاف صدق الدعاء والثقة بالعطاء وحسن الظن بمن هو أرحم بنا من أنفسنا، والعطاء أحب إليه من المنع، ويفرح إن دُعي وسُئل واستُعين واستُغيث واستُنصِر واستُغنِي.
وأكرِم بهذه البشارة النبوية للمتعففين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُرض عليّ أولُ ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه». (11)
إن العفاف خلق يسموا بالنفس جدًّا ويرفعها وينزهها عن الإهانة والمذلة حتى مع ضيق ذات اليد، ولا بد للعفيف من قناعة تبرد لواعج حاجته وتشبع نهمة فاقته.
فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الحَيَاة ... دُوْنَ إِرَاقَةِ مَاءِ المُحَيَّا
هذا ويتأكد العفاف جدًّا – بمعناه العام -  في أزمنة المجاعات أو الفتن التي يختلط فيها الحق بالباطل ويستطيل البشر في الدماء والأموال والأعراض، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة الدماء لأبي ذر رضي الله عنه قال: فآخذُ سلاحي؟ قال: «إذًا تشاركهم فيما هم فيه! ولكن إن خشيت أن يروعَكَ شعاعُ السيف (15) فألقِ طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك». (16) فالعفاف في الدماء أعظم العفاف، والله المستعان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
........................
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه..
أيها المؤمن: هاتِكَ لفتةً عظيمة جميلة في شأن العفاف وهي أن المرء في سيره لإعفاف نفسه ومن يعول فهو مكتوب من أهل سبيل الله، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطه. فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ (17) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده (18) صغارًا (19) فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان (20)». (21)
هذا والعفاف الخالص لله عز وجل من أكبر أسباب كشف الكربات بإذن الله تعالى، وتأمل حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار. وفيه: "فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا". (22)
هذا وعفيف البطن موعود بالفلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه». (23) فسِرُّ العفاف إذن هو القناعة!
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". (24)
واعلم أن فتنةَ النساء أشدُّ من فتنة المال عند بعضهم، والعكس صحيح لدى آخرين، وكل امرئ قد رُكّب فيه ضعف وميل بحكم بشريّته فيستحكم في جهة دون الأخرى، وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من الفتنتين فقال في شأن النساء: «ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء». (25) وقال في فتنة شأن المال: «لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال». (26) فلدى بعض الناس ميل غريزي للنساء أكثر بكثير من ميله لجمع المال، ولدى آخرين طمع وجشع وشح وهلع للمال مع زهده في أمر النساء، والشيطان يشمّ قلب عدوه وابن عدوه آدم فحيثما وجد ضعفًا ولج منه، سواء من هذين البابين أو من سواهما كحب الرئاسة أو محبة الظلم أو غير لك.
وقد جمعهما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خَضِرة (27) وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء». (28) ففتنة المال من أوّليات فتنة الدنيا للعالمين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق