إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 31 أكتوبر 2019

صنائع المعروف شيمة النبلاء


صنائع المعروف شيمة النبلاء
منقولة بتصرف
الحمد لله الذي زين قلوب أوليائه بأنوار الوفاق، وسقى قلوب أحبائه شرابًا لذيذ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوجَل والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كتب ولا في أيِّ الفريقين يساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدلِه، ولا اعتراض على الملك الخلاق. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، إلهٌ عزَّ مَن اعتز به فلا يضام، وذلَّ مَن تكبر عن أمره ولقي الآثام. وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، خاتم أنبيائه، وسيد أصفيائه، المخصوص بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، الذي جُمع فيه الأنبياء تحت لوائه. وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين. أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن  سنة الله تعالى قد جرت في البشر أن جعل بعضهم لبعضٍ سُخريّاً، لا تتم لهم سعادتهم إلا بالتعاون والتواصل، ولا تستقر حياتهم إلا بالتعاطف وفشو المودة. يرفق القويُّ بالضعيف، ويُحسن المكثر على المقلِّ. ولا يكون الشقاء ولا يحيق البلاء إلا حين يفشو في الناس التقاطع والتدابر، ولا يعرفون إلا أنفسهم، ولا يعترفون لغيرهم بحق.
معاشر الإخوة: عزيزٌ على النفس الكريمة المؤمنة أن ترى مسكيناً بليت ثيابه حتى تكاد تُرى عورته، أو تبصر حافيَ القدمين أدمت حجارة الأرض أصابعه وقطعت عقبيه، أو تلحظ جائعاً يمدُّ عينيه إلى شيءِ غيرِه فينقلب إليه البصر وهو حسير.
حين تفشو مثلُ هذه الأحوال، ثم لا يكترث القادرون، ولا يهتمُّ الموسرون فكيف يكون الحال؟ وأين وازع الإيمان؟!
ولكنَّ الله برحمته حين خلق المعروف خلق له أهلاً، فحبَّبه إليهم، وحبَّب إليهم إسداءه، وجَّههم إليه كما وجَّه الماء إلى الأرض الميتة فتحيا به ويحيا به أهلها، وإن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل قضاء حوائج الناس على يديه، ومَنْ كثُرت نعمُ الله عليه كثُرَ تعلُّقُ الناس به، فإن قام بما يجب عليه لله فيها فقد شكرها وحافظ عليها، وإن قصَّر وملَّ وتبرَّم فقد عرَّضها للزوال ثم انصرفت وجوه الناس عنه.
فإن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع عباده يقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم وحولها إلى غيرهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمةً وأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرَّم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال)) رواه الطبراني بسند جيد.
وإن في دين الله - يا عباد الله - شرائعَ محكمةً لتحقيق التواصل والترابط، تربي النفوس على الخير، وترشد إلى بذل المساعدات وصنائع المعروف.
ففي صحيح مسلمٍ عنه صلى الله عليه وسلم: ((من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
وفي الصحيحين أيضاً: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)).
ولعِظَم الأمر ودقَّتِه - أيها الإخوة - فقد قال أهل العلم: إنَّ تفريجَ الكروب أعظمُ من تنفيسها؛ إذ التفريجُ إزالتها، أما التنفيسُ فهو تخفيفها، والجزاء من جنس العمل، فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربته، والتنفيس جزاؤه تنفيسٌ مثله.
والتيسير على المعسر في الدنيا جزاؤه التيسير من عسر يوم القيامة، وحسبك في يومٍ قال فيه ربُّ العزة: (فذلك يومئذٍ يومٌ عسير على الكافرين غير يسير).
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن ينجيَهُ الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) وفيه أيضًا: ((ومن أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه)).
والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً. وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعُهم لعباده. وصنائعُ المعروف تقي مصارعَ السوء. ولقد قال بعض الحكماء: أعظمُ المصائب أن تقدر على المعروف ثم لا تصنعه.
والغبطة - أيها الأحبة – في من يسَّر الله له خدمةَ الناس وأعانه على السعي في مصالحهم.
يقول عليٌّ رضي الله عنه: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير! عجبتُ لرجلٍ يجيئُهُ أخوه لحاجته فلا يرى نفسَه للخير أهلاً! فلو كنا لا نرجو جنةً ولا نخاف ناراً ولا ننتظر ثواباً ولا نخشى عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق.
وإن دروب الخير - أيها المسلمون - كثيرة وحوائج الناس متنوعة؛ إطعام جائعٍ، وكسوة عارٍ.. عيادة مريضٍ، وتعليم جاهل.. وإنظار معسر، وإعانة عاجز، وإسعاف منقطع.. تطرد عن أخيك هماً، وتزيل عنه غماً.. تكفل يتيماً، وتواسي أرملة.. تكرمُ عزيز قومٍ ذلَّ، وتشكرُ على الإحسان، وتغفرُ الإساءة.. تسعى في شفاعة حسنة تفك بها أسيراً، وتحقن بها دماً، وتجرُّ بها معروفاً وإحساناً.
كل ذلك تكافلٌ في المنافع وتضامنٌ في التخفيف من المتاعب.. وتأمينٌ عند المخاوف، وإصلاحٌ بين المتخاصمين، وهدايةٌ لابن السبيل. فإن كنت لا تملك هذا ولا هذا فادفع بكلمةٍ طيبةٍ وإلا.. فكُفَّ أذاك عن الناس.
أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة)).
نعم أيها الإخوة: كل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، والمال إن لم تصنع به معروفاً أو تقضي به حاجة وتدخر لك به أجراً فما هو إلا لوارث أو لحادث. وصنائع البر والإحسان تُستعبد بها القلوب.
والشحيح البخيل كالح الوجه يعيش في الدنيا عيشة الفقراء ويحاسب يوم القيامة حساب الأغنياء، فلا تكن أيها الموسر القادر خازناً لغيرك.‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
أيها الإخوة الأحباب: إن صفو العيش لا يدوم، وإن متاعبَ الحياة وأرزاءَها ليست حكراً على قومٍ دون قوم، وإن حسابَ الآخرة لعسير، وخذلانَ المسلم شيء عظيم.
والمسلمون هانوا أفراداً وهانوا أمماً حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهت فيهم حبال المودة. عندما تستحكم الأنانيات وتستغلق المسالك على أصحاب الضوائق.
بل إن بعض غلاظ الأكباد وقساة القلوب ينظرون إلى الضعيف والمحتاج وكأنه قذى في العين.. يُزلقونه بأبصارهم في نظرات كلها اشمئزاز واحتقار. ألا يعتبر هؤلاء بأقوام دار عليهم الزمان وعَدَت عليهم العوادي، واجتاحتهم صروف الليالي... فاستدار عزهم ذلاً، وغناهم فقراً، ونعيمهم جحيماً؟‍‍‍‍‍‍‍‍
فاتقوا الله رحمكم الله وأصلحوا ذات بينكم، ولتكن النفوس سخية، والأيدي بالخير ندية، واستمسكوا بعرى السماحة وسارعوا إلى سداد عوز المعوزين، ومن بذل اليوم قليلاً جناه غداً كثيراً.. تجارة مع الله رابحة، وقرض لله حسن مردود إليه أضعافاً مضاعفة.. إنفاق بالليل والنهار والسر والعلن: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي رسوله الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله عظيمُ الشأن قديمُ الإحسان، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من جزيل الفضل والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحفظوا لإخوانكم حقوقَهم، واعرفوا فضل الله عليكم. فمَن وُفِّقَ لبذل معروف أو أداء إحسان فليكن ذلك بوجهٍ طلق ومظهرٍ بشوش، وليحرص على الكتمان قدر الإمكان ابتغاء الإخلاص، وحفاظاً على كرامة المسلم.
ويبلغ الأدبُ غايته حين يعلمُ باذلُ المعروف أن ما يقدمه هو حق لهؤلاء ساقه الله على يديه، فلا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً. وقد رُوي أن رجلاً جاء لبعض أهل الفضل يستشفع به في حاجة فقضاها له، فأقبل الرجل يشكره، فقال له: علام تشكرنا؟ ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة.
أما من أتبع إحسانه بالمنِّ والأذى فقد محق أجره، وأبطل ثوابه. فاتقوا الله يرحمكم الله، وابذلوا الفضل والمعروف بوجه طلق وقصد حسن، تستقم الأحوال، وتتنزل البركات، ويحل التوفيق.
ومن شيم المؤمنين: السترُ. فهو بابٌ عظيم من أبواب الدين، فاجعل الأصلَ عندك الستر، أما الفضحُ فليس من سيما المؤمنين إلا بشرطه. فالله تعالى سِتِّيرٌ يحب الستر، فاستر اليوم إخوانك فإنك -لا محالة -محتاجٌ لسترك غدًا، "ومن سَتَرَ مسلمًا؛ ستره الله في الدنيا والآخرة". واحذر السخرية، فلا تهزأ بأخيك؛ فيعافيه اللهُ ويبتليك، وإياك أن يصل بك المزاحُ للسخريةِ والأذى لعباد الله، فتدخلَ في وعيد الجبار تعالى: (ويل لكل همزة لمزة). واعلم أنّ دليلَ ضَعَةِ النفسِ الشماتةُ.
فقل للذي يُبدي الشماتةَ جاهلًا ... سيأتيك كأسٌ أنتَ لا بدَّ شاربُه
  فعليك بالستر على المسلم والنصح له مالم يدعُ لضلاله، وعليك بحسن الخطاب في الحديث والابتداء بالمجملات والتلميحات، وليكن أسوتُك من قال الله تعالى عنه: (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) وما استقصى كريمٌ قط. والتعريضُ في الخطاب سنّة نبوية "ما بال أقوام"، وهو كافٍ في إيصال المطلوب. ولا زال بعض الطيّبين يصرُّ على ذكر الأسماء وتفاصيل أفعالهم بحجة: أنّه صريح، وهذه مغالطة، فالسُّنَّةَ السّنّةَ رعاك الله.
فلا تفرح بالمعصية، وذلك بان تنشرها مغتبطًا بالعلوّ على خصمك في صورة غاضب لله، وهذه من تلبيس إبليس. واعلم أنّ من يعمل ويبني فهو – في العادة -لا ينشغل بالكلام في عيوب غيره، لأنه مشغولٌ عنهم بتكميل نقصه وجبر عيبه. وكم من نِقاشٍ انقطع في الدنيا سيكتمل يوم الحساب!
واحتمل -رعاك الله -أخطاءَ الناس في حقّك، فذلك من شرفك ومروءتك ونبلك وفروسيتك، قال أبو حامد: "من شكا من سوءِ خُلُقِ غيره؛ دلّ هذا على سوءِ خلقه؛ فإنّ مِن حُسنِ الخلق احتمال الأذى".
اللهم صل على محمد..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق