كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى الله تعالى؟ (8) (فقه الأسماء الحسنى)
الحمد لله المحمود على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل
الضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمدا عبده ورسوله جبله ربه على جميل الفعال وكريم الخصال، صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه خير صحب وآل والتابعين ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم المآل. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أعظم التوفيق للمؤمن أن يتّفقُّه في معاني الأسماء
الحسنى، ويدعو الله تعالى بها، ويقوم بما تقتضيه من مقامات العبودية والإجلال
والإكرام.
عباد الرحمن: إنّ علم أسماء الرحمن جل
وعلا وصفاته هو أشرف العلوم بإطلاق، فهو متعلق بالمحبوب الأعظم والخالق الأوحد
والملك الفرد والإله الحق، فله سبحانه كل صفات الجمال ونعوت الجلال، ليس كمثله شيء
وهو السميع البصير.
ومتى ما تفكر المؤمن في معاني الأسماء
والصفات لرب العالمين قرعت قلبه ــ ولا بد ــ أنوار الهيبة والمحبة والإجلال
والتعظيم، فخرج من ذلك بافتقار حقيقي واضطرار لازب ومسكنة تامّة وخشية راسخة مع حب
تامّ ورجاء لا ينقضي وثناء سابغ وفرح غير محدود وسرور يكاد يظن معه أنه قد خُصَّ
برقيقة من الجنة ووقت من أوقات أهلها، نسأل الله الكريم الرحيم من واسع فضله وجزيل
عطائه وإحسانه.
ودعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى له شأن
عظيم عند المرسلين، وهو صريح أمر رب العالمين، قال سبحانه وبحمده: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: ١٨٠].
قال الخطابي: «معنى الدعاء: استدعاء
العبدِ ربَّه عزَّ وجل العناية، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار
إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعارُ الذلة
البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه»([1]).
«ومن أسماء الله تعالى المتعلقة بافتقار
عبده إليه: الرزاق. وهو مبالغة من رازق للدلالة على الكثرة.
والرزاق من أسمائه سبحانه، قال تعالى: ﴿{إن الله هو الرزاق}، {وما من دآبة في
الأرض إلا على الله رزقها} [هود: ٦] وقال ﷺ: «إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق»([2]).
ورزقه لعباده نوعان: عام وخاص.
فالعام: إيصاله لجميع الخليقة جميع ما
تحتاجه في معاشها وقيامها. فسهّل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو
صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل
للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضًا من وجه آخر في حق
المكلّفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من
الحرام ويسمى رزقًا ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: رزقه الله، سواء ارتزق من حلال أو
حرام، وهو مطلق الرزق.
وأما الرزق المطلق: فهو النوع الثاني،
وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على
يد رسول الله ﷺ، وهو نوعان:
رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك،
فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله
متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.
ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة
فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي
للعبد إذا دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى (اللهم
ارزقني) أي ما يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل
صالح وخلق حسن، وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا
تبعة تعتريه.
ومن أسمائه سبحانه المتعلقة بافتقار
عبده إليه: الحي، القيوم. قال الله تعالى: {الله لا إله هو الحي القيوم} وقال سبحانه: {آلم الله لا إله
إلا هو الحي القيوم} وقال عز وجل: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً}
[طه: ١١١].
وهما من أسماء الله الحسنى. و(الحي
القيوم) جمعها في غاية المناسبة كما جمعها الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما
محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات
الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من
صفات الذات المقدسة. والقيوم هو كامل القيّوميّة، وله معنيان:
هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته،
واستغنى عن جميع مخلوقاته. وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو
الذي أوجدها وأمدّها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من
كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.
فالحي والقيوم هو من له كل صفة كمال،
وهو الفعال لما يريد»([3]).
«وليعلم المؤمن المفتقر إلى ربه أنه لا
حجاب بينه وبين ربه، فمتى أراد ربه دعاه وسأله، والله يحب أن يُسأل ويدعى.
واعلم أن دعاء المسألة متضمن لدعاء
العبادة. فالإنسان إذا سأل شيئًا فإنه يخضع ويذل ويستكين، وهذه هي العبادة، فيكون
في ضمن السؤال عبادة.
ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل
الإنسان أحدًا من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن
يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكرامًا
له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده،
ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، والافتقار إلى الله
عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك.
فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن
العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي
والمتصدق والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، فيطلب من الله أن يثيبه على ذلك،
وهذا هو دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب.
ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب
النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطرارًا، ولا بد له من ذلك.
وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع
الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما
يضره، ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع
المضر، فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا
تطلب من المخلوق.
فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن
الإنسان يجب أن يكون خاضعًا لله، وأن يكون عبدًا لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل
في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
قال الشارح([4]): فتبين بهذا قول شيخ الإسلام: إن دعاء العبادة مستلزم
لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن
خليله: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي
شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم:48-49]
].
يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء
عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } ، ثم بعد
ذلك قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ) فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئًا فقد عبدوه،
وهذا كثير في القرآن»([5]).
والدعاء الذي يلامس الشغاف هو الدعاء
الحقيق بالإجابة، فهو متضمن لتمام الافتقار، إذ هو عبد فقير قليل ضعيف عاجز
يدعو ويسأل ربه وإلهه الغني القادر البر الرحيم.
«وأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية
عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولًا أو طولًا أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وليست تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلو شعر النَّاس أو علموا
حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تبارك وتعالى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل
لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت
عبوديتهم لله تَبارك وتعالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي
ﷺ استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا.
ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي
يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره: إِلَى الله تبارك
وتعالى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تبارك وتعالى وحده،
ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو
أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضًا، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب،
فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: «أعوذ برضاك من سخطك،
وبمعافاتك من عقوبتك»([6]).
بارك الله لي ولكم..
............
الخطبة الثانية
الحمد لله...
معشر الحنفاء: إن أصل معرفة العبودية أن
تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تبارك وتعالى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن
القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ
وَجَلَّ، فإن من لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة كَانَ فيه
من الشقاء والألم، والنكد والنغص بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا
نجد عصاة المؤمنين أحسن حالًا من الكفار، والكفار شر من ذلك.
فكلما نقصت من القلب هذا المعرفة نقصت
السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم
أكثرهم إيمانًا بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب
الدنيا جميعًا ما أقلقتهم لحظةً واحدة.
والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا
يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن له في ذلك الأجر
مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعًا وجالبًا
للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من
البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر
بنعم الله جميعًا من أجل بليّة اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئًا قليلًا من نعم
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان استشعار أنه
فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح
إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحقق
العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والمؤمن لا يستغني عن عصمة الله تعالى
وحفظه طرفة عين، فقد كان من دعائه ﷺ: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي
شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»([7])([8]).
«فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم
شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى،
فلا يذكرون الله إلا قليلًا، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه.
ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في
كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: «إني
لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي» فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى.
فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت،
لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون
الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض،
ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله
تبارك وتعالى.
والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد
هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه، وما من قلب يرقى في درجات
الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيّه ورسوخ إيمانه ويقينه»([9]).
اللهم صل على محمد..