إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 24 مارس 2016

"موعظة القبر"

"موعظة القبر"
الحمد لله رب العالمين...
كان أبو بكر الصديق يقول في خطبته: أين الوضاءة الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم، الذين كانوا لا يعطون الغلبة في مواطن الحرب، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحيطان، قد تضعضع بهم وصاروا في ظلمات القبور، الوحا الوحا النجا النجا.
 وعن الحسن أنه مر به شاب وعليه بردة له حسنة فقال: ابن آدم معجب بشبابه، معجب بجماله، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك لاقيت عملك، ويحك ذا وقلبك، فإن حاجة الله إلى عبادة صلاح قلوبهم.
 وعن عبد الله بن العيزار قال: لابن آدم بيتان: بيت على ظهر الأرض وبيت في بطن الأرض، فعمد للذي على ظهر الأرض فزخرفه وزينه وجعل فيه أبوابًا للشمال وأبوابًا للجنوب، وصنع فيه ما يصلحه لشتائه وصيفه. ثم عمد إلى الذي في بطن الأرض فأخربه.
 فأتى عليه آت فقال: أرأيت هذا الذي أراك قد أصلحته كم تقيم فيه؟ قال: لا أدري. قال: فالذي قد أخربته كم تقيم فيه؟ قال: فيه مقامي. قال: تقر بهذا على نفسك وأنت رجل يعقل؟!
 وعن الحسن قال: يومان وليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهن قط:
 ليلة تبيت مع أهل القبور ولم تبت ليلة قبله، وليلة صبيحتها يوم القيامة. ويوم يأتيك البشير من الله تعالى إما بالجنة أو النار، ويوم تعطى كتابك إما بيمنك وإما بشمالك.
 وعن عمر بن ذر أنه كان يقول في مواعظه: لو علم أهل العافية ما تضمنته القبور من الأجساد البالية لجدّوا واجتهدوا في أيامهم الخالية خوفًا من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
 وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: القبر منزل بين الدنيا والآخرة، فمن نزله بزاد وارتحل به إلى الآخرة، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
 وعن الحسن قال: أُوذَنوا بالرحيل وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون.
 وقال رجل لبعض السلف: أوصني، فقال: عسكر الموتى ينتظرونك.
 وكان أبو عمران الجوني يقول: لا يغرنكم من ربكم طول النسيئة وحسن الطلب، فإن أخذه أليم شديد، حتى تبقى وجوهُ أولياءِ الله بين أطباق التراب، إنما هم محبوسون لبقية آجالهم حتى يبعثهم الله إلى جنته وثوابه.
وشهد الحسن جنازة فاجتمع عليه الناس فقال: اعملوا لمثل هذا اليوم - رحمكم الله - فإنما هم إخوانكم يَقدمونكم وأنتم بالأثر.
 أيها المخلف بعد أخيه: إنك الميت غدًا والباقي بعد والموتى في أثرك أولًا بأول حتى توافوا جميعًا، قد عمكم الموت واستويتم جميعًا في كُرَبِهِ وغُصصه، ثم تخليتم إلى القبور، ثم تنشرون جميعًا، ثم تعرضون على ربكم عز وجل.
 وقال صفوان بن عمرو: ذَكَروا النعيم فسَمّوا أناسا فقال: أنعمُ الناس أجسادًا في التراب هو من قد مات وبقي ينتظر الثواب.
 وقال مسروق: ما من بيت خيرٍ للمؤمن من لحدِه قد استراح من أمر الدنيا ومن عذاب الله.
 وقال بشر بن الحارث: نعم المنزل القبر لمن أطاع الله.
 وقال الفضل بن غسان: مر رجل بقبر محفور فقال: المقيلُ للمؤمن هذا.
 ونظر إلى قبر فقال: أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون.
 وعن عقبة البزار قال: رأى أعرابي جنازة فأقبل يقول: هنيئًا يا صاحبها. فقلت: علام تهنئه؟ قال: كيف لا أُهنئ من يذهب إلى حبسِ جواد كريم نُزُلُهُ عظيم عفوه جسيم. قال: كأني لم أسمع القول إلا تلك الساعة.
 وعن أبي معاوية قال: ما لقيني مالك بن مغول إلا قال لي: لا تغرنك الحياة واحذر القبر، إن للقبر شأنًا.
وقل أبو العتاهية:
 يا حسان الوجوه سوف تموتون ... وتبلى الوجوه تحت التراب  
ولابن السماك:
  تمرُّ أقاربي جنبات قبري ... كأن أقاربي لا يعرفوني  
  وذووا الأموال يقتسمون مالي ... ولا يألون إن جحدوا ديوني  
  قد أخذو سهامهم وعاشوا ... فبالله ما أسرع ما نسوني (1)
وقال عمرو بن عتبة بن فرقد سألت الله ثلاثا فأعطاني اثنتين وأنا أنتظر الثالثة. سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر، وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها، وسألته الشهادة فأنا أرجوها.
وكان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي.
وقال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدًّا، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملًا، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفًا، فعلام تعرّجون، وما عسيتم تنتظرون، الموت فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر.
يَجِدُّ بِنَا صَرْفُ الزَّمَانِ وَنَهْزُلُ ... وَنُوقَظُ بِالأَحْدَاثِ فِيْهِ وَنَغْفُلُ
وَمَا النَّاس إِلاَّ ظَاعِنٌ ومُوَدِّعٌ ... وَمُسْتَلَبٌ مُسْتَعْجَلٌ أَوْ مُؤْجَّلُ
وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلاَّ مَنَازِلٌ ... إِذَا مَا قَطَعنَا مَنْزِلاً بَانَ مَنْزلُ
فَنَاءٌ مُلِحٌ مَا يُغِبُ جَمِيْعَنَا ... إِذَا عَاشَ مِنَّا آَخِرٌ مَاتَ أَوَّلُ
وَكَم صَاحِبٍ لِي كُنْتُ أَكْرَهُ فَقْدَهُ ... تَسَلَّمَهُ مِنِّي الفَنَاءُ الْمُعَجَّلُ
اسمعوا عظة الزمان إن كنتم تسمعون، وتأملوا تقلب الأحوال إن كنتم تبصرون.
وقال يحيى بن معاذ: لو سمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنًا. (2)
(1) أهوال القبور (1 / 244) مختصرًا.

(2) مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (3 / 265)

شؤم السرقة وشر إكرام الفاسقين

شؤم السرقة وشر إكرام الفاسقين

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَمَى مِنْ أَجْلِ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَغَيْرَتِهِ وَكَمَالِ عِزَّتِهِ حَمَى حَوْمَةَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ بِقَوَاطِعِ النُّصُوصِ الزَّوَاجِرِ، وَنَوَامِيسِ عَدْلِهِ الْقَوَاصِمِ الْقَوَاهِرِ، عَنْ أَنْ يُلِمُّوا بِذَلِكَ الْحِمَى الحرام.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، الَّذِينَ صَانَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُدَنِّسُوا صَفَاءَ صِدْقِهِمْ بِدَنَسِ الْمُخَالَفَاتِ ، وَأَنْ يُؤْثِرُوا عَلَى رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِنْ قَوَاطِعِ الشَّهَوَاتِ ، وَأَنْ لَا يَتَطَلَّعُوا إلَّا إلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ، وتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي كَمَا يَدِينُ كُلُّ أَحَدٍ بِهِ يُدَانُ ، وَيُقَالُ لِلْعَاصِي هَلْ جَزَاءُ الْعِصْيَانِ إلَّا الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ ، وَلِلْمُحْسِنِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ. أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلاة.
عباد الله: قد شرع الله تعالى لعبادة شريعة كاملة تامّة تُعنى بحفظ الضرورات، فحفظ الدين والعرض والنفس والعقل والمال، ورتّب أشد عقوبات على من سولت له نفسه العبث بها والبغيَ عليها.
أنعم الله على الإنسان بنعمة العقل والإدراك وجعله مناطًا للتكليف وحمى حماه بحظر كلِّ ذريعة تؤدي لنقصه أو نقضه، فحرّم المسكرات والمخدرات، وتوعّد أهلها بالعذاب.
كما أمر الله بحفظ المال، وجعله الله تعالى قوامًا للناس في معيشتهم، فأمرهم سبحانه أن يمشوا في مناكب الأرض يبتغوا من رزقه، ويستعينون به على طاعته وإحسان عبوديّته، وشدد في حُرمة أخذه من غير حلّه، أو إنفاقه في غير أمره.
وحرّم السرقة وشدّد فيها، قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { وَاَللَّهُ عَزِيزٌ } : أَيْ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ السَّارِقِ ، { حَكِيمٌ } : أَيْ فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ قَطْعِ يَدِه. وقال صلى الله عليه وسلم: { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } وياخيبة من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسرقة من كبائر الذنوب. فالسارق ملعون ملعون ملعون!
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يَنْفَعُ السَّارِقَ تَوْبَةٌ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ.
فإن كان المسروق منه جارًا فالإثم أشد، وروى الشَّيْخَانِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، قَالُوا مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } ، زَادَ أَحْمَدُ : { قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ شَرُّهُ } .
وعند الطبراني: { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَزَلْتُ فِي مَحَلَّةِ بَنِي فُلَانٍ ، وَإِنَّ أَشَدَّهُمْ لِي أَذًى أَقْرَبُهُمْ لِي جِوَارًا ، فَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَقُومُونَ عَلَى بَابِهِ فَيَصِيحُونَ أَلَا إنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَروى أَحْمَدُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وقال : { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } وقال : { إنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا مَنْ أَحَبَّ ، فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قُلْتُ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ غِشُّهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ . إنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئ بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئ بِالْحَسَنِ ، إنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ } .
وَعند النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ } .
وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ } .
وَروى الطَّبَرَانِيُّ قال: { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اطْرَحْ مَتَاعَك عَلَى الطَّرِيقِ فَطَرَحَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَمَا لَقِيتُ مِنْهُمْ ؟ قَالَ يَلْعَنُونِي قَالَ : لَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ قَالَ : إنِّي لَا أَعُودُ فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ } .
وَروى الطَّبَرَانِيُّ كذلك بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ } .
إخوة الإيمان: احذر الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ليحفظ المؤمن لسانه ويده عن أذية عباد الله فإن الله خصماؤه يوم القيامة بين يدي ربهم، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". لا تأكلوا أموال الناس ظلمًا فإن ذلك جمرًا من جهنم.
احذروا السرقة، واعلموا أن التساهل في سرقة اليسير يجرّئ النفس على سرقة الكثير، وتذكّروا الوقوف بين يدي ربكم يوم تطير الصحائف وتنصب الموازين وتؤدى الحقوق من الحسنات.
إلا وإن من أسباب السرقة المخدرات، فيحسّ المدمن متوهّمًا حاجته لمال يشتري به المخدر فيستطيل على أهله بأخذ أموالهم خفية أو جهرة بلا حق، ثم يثنّي بأقاربه وجيرانه والمسلمين، فيسرقهم لغرضه الخبيث، وبئس الغرض وبئست الوسيلة.
ويعظم الخطب حين يعلم به أهله وقرابته فيسكتون عنه حياءًا أو خوفًا أو مجاملة وضعفًا، فيتساهلون في الإنكار عليه، وفي الأخذ على يده الظالمة الآثمة، فتكونُ النتيجةُ استمراءَهُ لذلك الفعل الدني واستمرارَه في تلك الخصلة الخاطئة الوبيلة، وهل يسلمون بذلك من مساءلة رب العالمين غدّا؟ كلا وربي!
فإن الله تعالى قد كلفنا بدِين كامل وعَهْدٍ قديم وأمانة ثقيلة، وأمرنا بالتعاون على البر والتقوى، وألزمَنا إنكار المنكرات، وتوعّد من أقرّ المنكر أو رضي به أو سكت عنه بالعذاب والنكال.
وأشد من هذا وأخزى ما يفعله بعض أقارب ومعارف الفاسق بمدافعتهم عنه والوقوف دون إنكار المؤمنين عليه تعصّبًا للباطل وحميّةً جاهلية، فأين الولاء لله والبراءة من عُصَاته؟! ألا يخش أولئك أن يُبتلوا بسلب إيمانهم، ألا يخافون أن يتخلى اللهُ عنهم ويكلَهم إلى أنفسهم التي رضيت بالانحياز لأهل معصيته عن أهل طاعته؟!
ثم يمضي الخذلانُ والخطيئة بأقوام حتى يسوقون جاههم بطلب العفو عمن ارتكب أمرًا لا تحلّ الشفاعة فيه مما يأنف صاحب الشيمة أن يتكلم في شأنه. أو أن يحاولوا إسقاط الحد بعد بلوغ الجرم لأهل الشأن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمُشفَّع" فالأمر عظيم يا عباد الله.
ومما يؤسف له كذلك إكرام المجرم في المجالس والاحتفاء به سواء كان قبل القبض عليه باشتهار أمر جرمه أو بعد خروجه من السجن، فترى بعضهم – لا كثرهم الله – يترقب خروج المجرم من سجنه فيقيم له الولائم كرامة له.
فأي كرامة يستحقها أمثال هؤلاء؟! أين يذهب بنا هؤلاء؟! إنهم لا يستحقون الإكرام، بل هم حقيقون بالزجر والهجر حتى يتوبوا لربهم وتظهر توبتهم ويشهد لهم خاصتهم بصلاح أمرهم، وكان بعض السلف يمهل التائب سنة كاملة حتى يرى صلاح حاله، والله المستعان، فيا عباد الله استحيوا من الله تعالى حق الحياء ووقروه وعظموا أمره ونهيه ودينه، ولا تجاملوا في دينكم فإنه رأس مالكم، وقد خاب من ولد آدم من باع دينه بدنياه أو بدنيا غيره ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخوة الإيمان: تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. عالجوا المدمنين وازجروهم وأنكروا عليهم، ولا تكرموهم ولا تسكتوا عنهم، وكذلك السُّراقَ وأهلَ الفواحش وجميعَ من أفسد في الأرض بمعصيته، واعلموا أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
اللهم اجعلنا جميعًا آمرين بطاعتك مؤتمرين بها، ناهين عن معصيتك منتهين عنها، إله الحق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه....
أما بعد: فاتقوا الله تعالى واعبدوه واخشوا يومًا ترجعون فيه إليه، وتزينوا للعرض الأكبر عليه، يوم لا تخفى منكم خافية، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم.

ويا معشر الآباء: انتبهوا لأولادكم ذكورًا وإناثًا، لا تتركوا أمر تربيتهم لغيركم فتندموا ولا تحين مندم، صاحبوهم واعرفوا أصحابهم، ولا تأمنوا الأجهزة والشاشات والمحادثات عليهم، فكم أفسدت من صالحين، وأطفأت قلوب مؤمنين، وجرت للحوبة الحرام من كانوا عفيفين، فاحذروا فإنكم في زمن تكالبت فيه على الفطرِ الشبهات والشهوات، فليكن مشروع حياتك صلاح أولادك، قربهم من ربهم بدعائك الصالح لهم وبقدوتك الحسنة وبكلمتك الطيبة وبحرصك على أن يكونوا من أهل الصلاة والبر والتقى، وابحث لهم عن حلق تعليم القرآن فالقرآن يحفظهم الله به إن حفظوه وكانوا من أهله.  

الثلاثاء، 29 ديسمبر 2015

تكفير المعين.. وحرمة الدماء المعصومة

تكفير المعين.. وحرمة الدماء المعصومة
الحمد لله، الحمد لله تقدَّسَت أسماؤُه وصفاتُه، وتعالى مجدُه وعزُّه وعظمتُه وتمَّت كلماتُه، أحمدُ ربي وأشكرُه على نعمِهِ التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أضاءَت براهينُ وحدانيَّته وعظُمَت آياتُه، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه تواتَرَت مُعجزاتُه وكرُمَت أخلاقُه وصفاتُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين. أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛ فمن اتقَى اللهَ وقاه الشُّرورَ والمُهلِكات، ومن اتَّبعَ هواه وعصَى ربَّه وكفرَ به أدركَه الشقاءُ وأرداهُ في الدَّرَكات.
عباد الله: في هذا الزمان الحالك, رخصت الفتاوى, وافتُئتَ على أهل العلم, واستُحلّت دماءُ وأعراضُ أهلِ الإسلام من لدن أهل الإسلام! فعادت سُلالة فكرِ ذي الخويصرة جذعة فتيّة, واشرأبّت أعناق الفتن والبلايا من رؤوس حدثاءِ الأسنان سفهاءِ الأحلام, وظهرت قرون الغلوّ التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إياكم والغلو, فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وموجبات الردة, ونواقض الملة عديدة, وقد استحق وصفَهَا من لا خلاق له ممن رام تبديل الدين والهزء بالشريعة وحرب الله ورسوله, فتتردد بين الحين وأخيه قالاتُ فجورٍ وأفعالُ كفر, حقيقٌ بمن بسط الله يده بالسلطان والتمكين أن يقوم فيها لله محتسبًا قَصْبَ الزنادقة.. وكثير ما هم!
وفي مسند أحمد بسند حسّنه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَحدٌّ يُقام في الأرض خير من أن تُمطروا أربعين خريفًا" نعم, فمنفعة الغيث خاصة بالأجساد, ومنفعة الحدِّ نفعها للأديان, وهي غاية خلقِنا. ولو علم الأثيمُ قُربَ الحَدّ من الحَدِّ ما اجتازه, ولكن من أَمِنَ أساءَ!
بيد أن مسألة تكفير المعيّن في غاية الخطر إن كانت في يد من لم يملك أدواتها, وفي سلطة من لم يستتم شروط إيقاعها, فلا يجوز بحال أن يُترك عنان التكفير للعامّة, بل هو خاص بمن أوكل الله لهم سياسة الناس بالشريعة, وهم العلماء الراسخون الذين علموا شروط التكفير وموانعه, وأحسنوا إقامة الحجة على متنكبي المحجة, فقد يُتهم المرء بارتكاب مكفِّر وهو منه براء! إنما كُذب عليه كما كُذب على كثير من الأجلّة كافترائهم على شيخ الإسلام ابن تيمية بالكفر والمروق من الدين وإهانته لجناب النبوة! وكذبهم على الإمام المجدد بأنه يبغض الرسول صلى الله عليه وسلم, ويدعو لدين جديد, ونحو ذلك البهتان الذي طال كثيرًا من المصلحين في هذه السنين.
هذا, وقد يركب المرءُ المعصيةَ وهي ليست من المكفرات, فيُرمى – جهلًا وظلمًا - بالردة! كصنيع الخوارج بمرتكب الكبيرة.
 كما قد يركب الذنب المكفِّر المخرج من الملة في ذاته, ولكن لا يحكم بكفره بسبب أحد الموانع, فلا بد مع استجماعِ الشروطِ انتفاءُ الموانع:
كالجهل: كما في قصة الذي قال لولده: "إذا أنا متُّ فأحرقوني, ثم ذُرُّوا رمادي في الهواء فلئن قدر الله علي ليعذبني..." والحديث مخرّج في الصحيحين, فهذا الرجل شكّ في عموم قدرة الله تعالى, وهذا من المكفرات, مع هذا غفر الله له لخشيته وجهله.
وكالخطأ: كقصة الفَرِحِ بعودة دابته بعد يأسه من النجاة فقال بعد استمكانه منها: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك, أخطأ من شدة الفرح!" ومن فروع ذلك: سبقُ اللسان بما لم يقصده الجنان من ألفاظ الكفر, وبخاصة مع وجود القرائن الصَّارفة.
وكالتأويل الذي له وجه: ولم يتضح الحق لصاحبه, كالكثير ممن يظنون أنهم ينزهون الله تعالى عن طريق قواعد ذهنية أحسنوا بها الظنّ فسمّمت تصوراتهم, فوصل بهم ذلك إلى إنكار بعض صفاته. وقد كان الإمام أحمد يصلي خلف بعض من قال بتلك المقالات. وقال شيخ الإسلام لبعض المحرفة(المؤولة): أنتم تقولون كلاماً لو قلت به لكفرت! لكنكم لم تكفروا عندي لأنكم ترومون التنزيه بذلك التحريف, ولم تتصوروا حقيقة مذهبكم ومآل مقالاتكم. أما تأويلات الباطنية والفلاسفة والرافضة وأشباههم فهي كفر محض.
وكالإكراه: لقوله تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" وبعضهم خصّ الرخصة بالنطق فقط, وبعضهم خصّ الإكراه بالتهديد بالقتل دون الضرب والحبس, والله أعلم.
واعلم أن تكفير المعين يختلف عن تكفير الوصف فالوصف كقولنا: تارك الصلاة كافر. أما تكفير الشخص المعين فهو أن تقول: فلان كافر! وهنا مكمن الخطر لمن توغَّل في ذلك بغير بينة ولا برهان. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الوداع _ وتأمل عظمة الموقف وأهمية البيان وقيمة كل حرف فيها _: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلّغت؟" قالوا: نعم, قال: "اللهم اشهد. فليبلّغ الشاهد الغائب, فإنه رُبَّ مُبلِّغٍ يُبلِّغُه لمن هو أوعى له".
وبالجملة فلا تفريط ولا إفراط, والتقوى وسط بين الغلو والجفاء, وكما قال علي رضي الله عنه: خير الناس النمط الأوسط, الذين يرجع إليهم الغالي ويلحق بهم التالي.
الشاهد من هذا يا عباد الله: أن على الناصح لنفسه أن لا يقع في شَرَك التكفير بغير حق, وليعلم أن من دخل في الإسلام بيقين فلا يُخرج منه إلا بيقين, وليتيقَّن أن لكلّ كلمة طالباً من الله تعالى, وأنه موقوف بين يدي الجبار جل جلاله, ومسؤول عن ما اقترفه لسانه أو خطه بنانه, فليعدّ للسؤال جواباً وللجواب صواباً, وأنّى ذلك إلا ببرهان شاف, واستدلال كاف. والكلمة يملكها من كانت حبيسة جوفه, لكن إن خرجت فقد ملكته, فإما إعتاق أو إيباق! والله المسؤول أن يحفظني والقارئ والمسلمين من مضلات الفتن ودواهي المحن, فهو المستعان, وعليه التكلان, ولا إله إلا هو.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد إلا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي لجنته ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله حق التقوى، واستعدوا للقاء الله بأحسن ما حضركم من عمل.
عباد الرحمن: لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسَ من فتن آخر الزمان، وأمر المسلم بالاعتصام بحبل الله ودينه، وعدم الانسياق خلف الأهواء والفتن، فقال –صلى الله عليه وسلم-: " وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضًا.. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يُؤْتَى إليهِ " رواه مسلم.
 فمن أراد أن يرْحَمَه الله فليرحم خَلق الله، وإذا أراد أن تُصان أمواله ونفسُه، فليبدأ هو وليسلم الناس من لسانه ويده.
 عباد الله أن أعظم ذنب بعد الشرك بالله تعالى هو قتل النفس الحرام. قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33].
عن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: "هذا يومٌ حرامٌ وبلَدٌ حَرامٌ، فدماؤكم وأموالُكم وأعراضُكم عليكم حرامٌ مثلُ هذا اليومِ وهذا البلدِ إلى يومِ تلقونَهُ وحتَّى دَفعةٌ دَفَعها مسلِمٌ مسلِمًا يريدُ بها سوءًا، وسأخبرُكم مَنِ المسلمُ؛ من سلمَ النَّاسُ من لسانِهِ ويدِهِ، والمؤمنُ من أمِنهُ النَّاسُ على أموالِهم وأنفسِهم، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذُّنوبِ والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ تعالى" رواه البزار بسند صحيح، فهذا هو التعريف النبوي للمسلم والمؤمن والمهاجر يا عباد الله، فهل نعي ونتدبر ومن ثَم نمتثل ونعمل؟!
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ أخرجه البخاري.
وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "إن من ورَطَات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه"؛ أخرجه البخاري.
بل قد حرَّم الله مجرد الإشارةَ إلى مسلمٍ بسلاحٍ أو حديدة، سواءٌ كان جادًّا أو مازِحًا؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزِعُ في يده فيقع في حُفرةٍ من النار»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنُه حتى ينزِع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه».
أيها المسلمون: إن القتل بغير حقٍّ جريمةٌ مُزلزِلة، وخطيئةٌ مُروِّعة، سواءٌ كان المقتول من أهل المِلَّة، أم كان من أهل العهد والذِّمَّة؛ فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمنٍ بغير حقٍّ»؛ أخرجه ابن ماجه.
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتل مُعاهَدًا لم يرَحْ رائحةَ الجنة، وإن رِيحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا»؛ أخرجه البخاري. وعند النسائي: «من قتل قتيلاً من أهل الذِّمَّة لم يجِد ريح الجنة».

اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان..

الاثنين، 21 ديسمبر 2015

اتقوا الظلم..



 اتقوا الظلم..
واعجبًا للظالم كيف يهتني بنوم وهو يعلم نصر الله للمظلوم.
تنامُ عينُك والمظلوم منتبه   يدعو عليك وعينُ الله لم تنمِ
كيف يطيب له نَفَسٌ وهو يسمع قول الجبار جل جلاله: (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما)
أَمَا وَاَللَّهِ إنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ      وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
 إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي      وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْمَعَادِ إذا الْتَقَيْنَا     غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ
الظلم ظلمة في الدنيا وظلمات في الآخرة..
روى أحمد بسند صحيح أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ مِنْ أَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ حِينَ لَا يَكُونُ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ"
لا تستعجل عقوبةَ الظالم فهي محيطة به. روى الشيخان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن الله ليملي للظالم ، فإذا أخذه لم يفلته )) ، ثم قرأ : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [ هود : 102]
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك ، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ - أيْ بِمَوْتِهِمْ - بَاقِيًا عَلَيْك -أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ عَلَيْك إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } .
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره ... وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
وتذكر حديث المفلس واعلم أن ميزان الآخرة منضبط على معيار واحد يميّز العدل من الظلم (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) غافر 17، عدل ينجى ويسعد، وظلم في الجحيم يركس { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ }
ان معول الظلم ليهدم جبال الحسنات، وكلما اشتدت المظلمة اشتد الهدم.
ياصاحِ: ليت الحلالَ سلم، فكيف الحرام؟ كان لبّان يخلُط اللبن بالماء، فجاء سيل فأهلك الغنم، فجعل يبكي ويقول: اجتمعت تلك القطراتُ فصارت سيلا. ولسان الجزاء يناديه " يداك أوكتا وفوك نفخ " .
كم بكت في تنعّمِ الظالمِ عينُ أرملة، واحترقت كبد يتيم؟ (وَلَتَعلُمَنّ نَبَأَهُ بَعدَ حين) واعجبا من الظّلمةِ كيف ينسون طي الأيام سالف الجبابرة، وما بلغوا معشار ما أوتوا، أما شاهدوا مآلهم؟ (فَكُلاً أَخَذنا بِذَنبِهِ) أما رحلوا بالندم؟ (فَما بَكَت عَلَيهِم السَماءُ والأرض).
ويحك، لا تحتقر دعاء المظلوم، فشَرار نار قلبه محمول بريح دعائه إلى سقف بيت الظالم، نباله تصيب، وبوعد الله لا تخيب. (وعزتي وجلالي لأَنصُرَنّكَ وَلَو بَعدَ حين).
اصْبِرْ عَلَى الظُّلْمِ وَلَا تَنْتَصِرْ، فَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى الظَّالِمِ، وَكِلْ إلَى اللَّهِ ظَلُومًا فَمَا رَبِّي عَنْ الظَّالِمِ بِالنَّائِمِ.. وَمَا يَدٌ إلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا.
شتان من بات وقلوب العباد عند ربها تدعوا له وتثني عليه، وبين من دموعهم ترفَع شكايتها بالدعاء عليه! وفي الصحيحين: "واتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ فَإِنَّها لَيْسَ بَيْنَها وَبَيْنَ اللهِ حِجابٌ"
‏ربما تنام وعشرات الدعوات ترفع لك، من فقير أعنته، أو جائعٍ أطعمته، أو حزين أسعدته، أو مكروب نفست عنه.. وعند الله في ذاك الجزاءُ.

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

وصية حبيب

وصية حبيب
الحمد لله رب العالمين...
صح عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ « يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إِنِّى لأُحِبُّكَ ». ثم َقَالَ « أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِى دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أن تَقُول اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ». والحديث مسلسل بالوصية
ألا ما أعظمه من موصٍ وما أشرفها من وصية. حقيق بكل مؤمن أن يحفظها ويلزمها.
قال شيخ الإسلام: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤالُ العونِ على مرضاته، ثم رأيتُه في الفاتحة في: "إياك نعبد وإياك نستعين" فالعون على الطاعة هو جماع الخير.
 وقال عنه ابن القيم: كان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ما شاء الله –أي يلحُّ على الله بها ويكررها- وقال لي مرة: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسورُ من أسره هواه.
فرطّب قلبك ولسانك بهذا الدعاء الجامع وخاصة في صلاتك في السجود وقبل السلام.
إن مبنى الدين على قاعدتين: الذكرِ والشكر، قال تعالى: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" وليس المراد بالذكر مجردُ الذكر باللسان بل بالقلب والجوارح، فالدين كله ذكر. وأما الشكر فهو القيام بطاعته والتقربُ اليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا.
 وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزمٌ لمعرفته، وشكرُه متضمن لطاعته، وهذان هما الغايةُ التي خَلَق لأجلها الجنّ والإنس والسموات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب وأنزل الكتب وأرسل الرسل.
فحق الله أن يذكرَ فلا يُنسى ويشكرُ فلا يُكفر، وهو سبحانه ذاكرٌ لمن ذكره شاكرٌ لمن شكره. والذكرُ رأس الشكر، وإذا ذكر العبد نعمة الله تعالى عليه هاج من قلبه هائج الشكر، فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.
وبالجملة فأنفعُ الدعاء طلبُ العون على مرضات الله، وأفضلُ المواهب إسعافُه بهذا المطلوب، وجميعُ الأدعية المأثورة مدارُها على هذا، وعلى دفعِ ما يضادِّه، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه عدد أنفاسِ أهلِ الجنة.

إبراهيم الدميجي

شأن الرَّحِم

شأن الرَّحِم
الحمد لله رب العالمين..
كان النضرُ بنُ الحارث العبدري شديدَ العداوة للإسلام فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر فرثته أخته قُتَيلة، ومما قالته:
يا راكبًا إن الأثيل مظِنّة ... من صبح خامسةِ وأنت موفقُ
أَمُحَمَدٌ يَا خَيْرَ ضَنْءِ كَريمَةٍ ... فِي قومها، والفحل فحلٌ مُعرِقُ
مَا كَانَ ضرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَربَّمَا ... مَنَّ الفتَى، وهُوَ المَغيظُ المُحنَقُ
فالنضْرُ أقربُ مَنْ أَسرْتَ قَرَابَةً ... وَأَحقُّهُم إن كان عِتقٌ يُعتقُ
ظَلتْ سُيُوفُ بني أبِيهِ تنوشُهُ ... لله أَرحَام هُنَاكَ تُشقَّقُ
قالوا: فرقَّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دَمعت عيناهُ، وقال: " يا أبا بكر لو سمعتُ شعرها ما قتلتُ أخاها" أي لقبل شفاعتها فيه.
نعم فلا يهتز لصدق المشاعر سوى معادنِ الأحرار، وسيدهُم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هناك في داخل النفس الإنسانية ثمّ رغبةٌ في الخصوصية، وتأمل نفسك لو جلست في مكان عام، ثم جلس بقربك شخص لا تعرفه حتى كاد أن يلزقَ بك، فما ستحسّ به هو رغبتُك في الابتعاد عنه قليلًا لتتنفس الخصوصية.
وبما أن الإنسان لا مفرّ له من خُلطة البشر والاحتكاكِ بهم فمن الطبيعي أن يكون بينه وبين بعضهم نفرة ومشاحنة وربما قطيعة، لذلك شدّد الله الأمر في كتابه بوصل ما أمر به أن يوصل كحفظِ حق الجار وصلة الرحم ونحوِ ذلك.
ومن نفيس وصايا زينِ العابدين رحمه الله تعالى: يا بني لا تصحبنَّ قاطعَ رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع. "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله"
ولكلِّ من كانت بينه وبين رحمه قطيعة: تذكّر ليالي الجُمع.. قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: " إن أعمالَ بني آدمَ تُعرضُ كلَّ خميسٍ ليلةَ الجمعة، فلا يقبلُ عملُ قاطعِ رحم " رواه أحمد بسند جيد. لذا فانتبه ألّا تكون قاطعًا فتُقطع! فمن وصل وُصِلَ ومن قطعَ قُطع، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُم قَامَتْ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ؟ قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ. قَالَ: أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ. فَذَاكِ" متفق عليه. وفي البخاري: "لا يدخلُ الجنةَ قاطعُ رحمٍ" وفي الصحيحين في حديث الصراط: "وترسل الأمانةُ والرحمُ فتقومان جَنْبَتَي الصراط يميناً وشمالاً".
أُخيّ: ألا تريدُ عمرًا طويلًا ورزقًا دارًّا؟ إن وصلُكَ لِرحمك مُؤدٍّ لذاك: "من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" متفق عليه.
فإن قلتَ: كيف أصلُ رحمي وهم لا يستحقون؟ بل ولا سلامة منهم إلا بالبعد عنهم! قلتُ: بل الوصلُ يسير والأمر هيّنٌ بحمد الله، ولكن بشرط أن تفهم سرَّ سهولته، ألا وهو يقينُك أنكَ تتعاملُ مع الله لا معهم، وأنك تنتظر الأجر والرضى منه لا منهم، وتذكّر حديثين:
في البخاري: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا" وفي مسلم أن رجلا قال : «يا رسولَ الله ، إِن لي قرابةً أصلِهُم ويقطعونني، وأُحْسِن إِليهم ويُسيئُون إِليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ؟ قال: لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ، -وهو الرمادُ الحار - ولن يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك». فهل تريد أجمل من هذا.
أخي: اجعل صلةَ أرحامك من صلبِ اهتماماتك وأولوياتك، واجعل لها نفيس وقتك، والأمر يسهُل بالتعوّد.
وتذكّر أن الجنة تريد منك مهرًا من الصالحات أم هل تريدُها مجّانًا؟!

إبراهيم الدميجي