فضل الافتقار الاختياري إلى الله
تعالى
الحمد لله ربِّ الأرض وربّ السماء، خلق آدم وعلّمه
الأسماء، وأسجد له ملائكته، وأسكنه الجنة دار البقاء، وحذّره من الشيطان ألدّ
الأعداء، ثم أنفذ فيه ما سبق به القضاء، فأهبطه إلى دار الابتلاء، وجعل الدنيا له
ولذريته دار عمل لا دار جزاء، وتجلّت رحمتُه بهم فتوالت الرسلُ والأنبياء، وما
منهم أحد إلا جاء معه بفرقان وضياء، ثم ختم الرسالات بالشريعة الغراء، ونزّلَ
القرآن لما في الصدور شفاء، فأضاءت به قلوب الأتقياء. أغنى الناس من افتقر إليه،
وأسعدهم من فاز بالزُّلفى لديه.
أحمده تبارك وتعالى على النعماء والسرّاء،
وأستعينه على البأساء والضراء، وأعوذ بنور وجهه الكريم من جَهد البلاء، ودرك
الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وأسأله عيش السعداء، وموت الشهداء، ومرافقة
الأنبياء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سميعٌ بصيرٌ يرى ويسمع
النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء، أجرى الأمور بحكمته، وقسم
الأرزاق وفق مشيئته. وأشهد أن نبينا محمدًا خاتمُ الرسل والأنبياء، وإمام
المجاهدين والأتقياء، هو القدوة النيّرة في الصبر على البلاء، والعمل لدار البقاء.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحابته الأجلّاء، وعلى السائرين على دربه
والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء، ما تعاقب الصبح والمساء، وما دام في الكون ظلمة
وضياء.
أما بعدُ؛ فاتقوا الله عباد الله، وافتقروا إليه،
واستغنُوا به عمن سواه، واعلموا أن توحيد الافتقار الاختياري إليه الله تبارك
وتعالى وحده معدود من سنام دين الحنفاء، بل هو لُبَابُ دعوةِ الأنبياء، فيا أيها
الفقير الكسير الحسير المسكين المذنب الخاطئ الذليل تعلق به دون سواه، وتب إليه واستغنِ
به وحده لا شريك له، وادعه بقلب حاضر صادق مخلص؛ فلله نفحات لطف وساعات إجابه
وأرزاق برٍّ مَنْ أنعمَ عليه بها فهو من الفائزين، (يا أيها الناس أنتم الفقراء
إلى الله والله هو الغني الحميد)، [فاطر: 15].
أما حدُّ الفقر فهو الحاجة، والافتقار الاحتياج، فالفقر صفة راسخة لا تزول
إلا بزوال الفقر عن طريق الغنى، أما الافتقار فكأن فيه زيادة الإحساس بالفقر سواء
كان فقيرًا في الأصل أم لا.
وبتعبير آخر فالفقر قد يكون حِسّيًّا نابعًا من قرارة النفس وجوعتها لما يسد
رمقها الحسي كالمال والغذاء والدواء ونحو ذلك، أو معنويّا ـــ وهو أشدّ ـــ
كالحاجة للأمن والسكينة والراحة والطمأنينة والغنيمة والحب، ثم إن هذا الافتقار قد
يكون مكتسبًا، أي أن المرء يحرّك قلبه ضراعة وحاجة نحو سبب الغنى أيًّا كان ذلك
السبب حقيقيًا كان أو متوهّمًا. وبالعموم فكل مخلوق هو في حقيقته فقير فقرًا
مطلقًا لخالقه ومالكه وربه سبحانه وبحمده.
عباد الرحمن: إن أعظم الافتقار وأصدقه وأنجعه هو افتقار المرء لربه، فيتأمل
ضعفه وفقره ومسكنته وحاجته وعجزه، ثم يرفع ذلك إلى ربه الغنيّ الملك القويّ العزيز
الرزّاق الوهّاب، حينها يكون ذلك القلب المهديّ قد التوى على حبل التوفيق والإعانة
والرزق والغنى في روحه وجسده ودينه ودنياه، وعلى قدر افتقاره لربه يكون توفيقه
ورزقه وغناه. قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) [الزمر: 36]، وقال سبحانه: (ذلك
بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) [لقمان:
30].
ولما كان الله تعالى هو الخالق المالك المدبر فلا
يخرج شيء في ملكه عن قدرته ومشيئته وحكمته ورحمته، وكان العبد هو المخلوق
المملوك المُدّبَّر الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا حياة ولا موتًا، ولا
إعطاءً ولا منعًا؛ فهو هباءٌ صغير فقير في جملة هذا الكون الشاسع الفسيح، فإن
مسألة حاجة العبد التامّة وافتقاره المطلق ومسكنته البالغة لغنى ربه وقوته
ورحمته ولطفه تكون شديدة الوضوح والسطوع في بصر العبد وبصيرته، ذلك أن
العبد كله لله وبالله ملكًا وإعانة فأين إذن استغناؤه ولمن يا ترى فراره؟!
واعلم يا عبد الله أن الافتقار نوعان:
الأول: افتقار اضطراري، وهذا لكل مخلوق لا ينفك عنه مهما
بلغ به التيه والكبر ووهم الاستغناء، وهذا النوع لا يُحمد المخلوق عليه لأنه لا
اختيار ولا خيار له فيه البتة.
الثاني: افتقار اختياري، وهو المحمود صاحبه، والمُوفَّق
فاعلُه، ومعناه التوجّه بكليّة القلب إلى الله، فيحدّث نفسه ويذكّرها دومًا
بافتقارها لمولاها، ويملأ قلبه بالامتنان لربه وشدة الحاجة إليه، ويدعو ربه بلسانه
وبحاله وبجنانه.
من افتقر فليلذ بالغني الكريم، ولينخ ركابه
مستمنحًا عطايا الوهاب البر الرحيم، وكل أحدٍ إذا خفته هربت منه إلا الله العظيم
فإنك إذا خفته فررت إليه (ففروا إلى الله) [الذاريات: ٥٠] أي الجئوا إليه واعتمدوا في كل أموركم عليه.
والعبد لا ينفك عن افتقار تام لربه سواء في
حياة قلبه وغذاء روحه بالعلم والإيمان والتسديد والتوفيق، أو في حياة جسده وتحصيل بلغته من هذه الدنيا التي جعلها الله قيامًا له،
حتى إذا وصل لتلك المحلة المنيفة من التعلق والافتقار واللجأ أغناه ربه بأمداد
لطفه فازداد علمه بربه ويقينه وإيمانه بموعوده وبارك الله له عمره، قال شيخ الإسلام:
«ليس عند القلب أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا ألين ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن
عبوديته لله ومحبته له وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير
القلب منيبًا إلى الله خائفًا منه راغبًا راهبًا، كما قال تعالى: (من خشي الرحمن
بالغيب) [ق: ٣٣] إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول مرهوبه، فلا
يكون عبدًا لله ومحبًّا له إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى: (أولئك الذين يدعون
يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذا به إن عذاب ربك كان
محذورا) [الإسراء: ٥٧]»([1]).
واعلم أخي الكريم أن افتقار القلب إلى ربه هو محض فضل الله وكرمه
وجوده وإحسانه، والناس متفاضلون في إدراكه والإحساس به والعمل بمقتضاه وما يترتب
عليه تفاضلًا كبيرًا. والتوحيد عمود الافتقار
و«الناس في هذا الباب ــ أي التوحيد والإخلاص وكمال التعلق والافتقار
ــــ على ثلاث درجات:
منهم من علم ذلك سماعًا واستدلالًا، ومنهم من شاهد
وعاين ما يحصل لهم، ومنهم من وجد حقيقة الإخلاص والتوكل على الله والالتجاء إليه
والاستعانة به وقطع التعلق بما سواه، وجرّب من نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين
ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة؛ فإنه يُخذل من جهتهم،
ولا يحصل مقصوده، بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه
وقت حاجته إليهم فلا ينفعونه، إما لعجزهم وإما لانصراف قلوبهم عنه.
وإذا توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه، واستغاث
به مخلصًا له الدين؛ أجاب دعاءه، وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة. فمثل هذا قد
ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذق غيره. وكذلك من ذاق طعم الإخلاص لله
وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الأحوال والنتائج والفوائد ما لا يجده من لم يكن
كذلك، بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو وتعلقه بالصور الجميلة أو جمعه
للمال؛ يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا
يعبّر عنه، وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى ولا يحصل له ما يسره، بل هو في خوف
وحزن دائمًا، إن كان طالبًا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزينٌ متألم، حيث لم يحصل،
فإذا أدركه كان خائفٌا من زواله وفراقه([2]). وأولياء الله لا
خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فإذا ذاق هذا فقد ذاق حلاوة الإخلاص لله
والعبادة وحلاوة ذكره ومناجاته وفهم كتابه، وأسلم وجهه لله وهو محسن، بحيث يكون
عمله صالحًا ويكون لوجه الله خالصًا؛ فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم
مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا أو اندفع عنه
ما يضره، فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من المنفعة أو اندفع عنه من المضرة.
ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله، ولا
أضر عليه من الإشراك، فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة (إياك نعبد) مع حقيقة
التوكل التي هي حقيقة (إياك نستعين) كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا»([3]).
بارك الله لي ولكم...
........................
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد: فاتقوا الله عباد الله،
واعلموا أنه كلما عظم التوحيد في القلب وامتدت جذوره فيه نمت أعصانه الظاهرة على
جذع الإيمان، وأينعت ثمرته وطاب مخبره ومظهره. والافتقار إلى الله يمدّ صاحبه بزاد
لا يفنى، وروْح لا يضمحل، ولا يزال المفتقر إلى الله يزداد من الغنى حتى تكون شجرة
التوحيد في قلبه كالشمس، «والتوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء
يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يؤثر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدًّا
أدنى شيء يؤثر فيها. ولهذا تشوشه اللحظة ([4])
واللفظة والشهوة الخفية فإن بادر صاحبها وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار
طبعًا يتعسر عليه قلعه.
وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال،
ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال،
ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرًا عظيمًا ينغمر فيه كثير من تلك الآثار
ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب
التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير
توحيده؛ فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير([5]).
وأيضًا فإن المحل الصافي جدًّا يظهر لصاحبه مما يدنسه مالا يظهر في المحل
الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.
وأيضًا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية
جدًّا أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة. وأيضًا فإن صاحب المحاسن
الكثيرة والغامرة للسيئات ليُسامَحُ بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات،
وليست له مثل تلك المحاسن.
هذا وإنّ ترْكَ الشهوات لله ــ وإن أنجى من عذاب
الله وأوجب الفوز برحمته ــ فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح
والابتهاج به لا يحصل في قلب فيه غيره، وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم.
فإنه سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب فيه سواه، وهمته ومتعلقة بغيره. وإنما يودع
ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله، والغنى فقرًا دون الله، والعز ذلًّا دونه،
والذل عزًّا معه، والنعيم عذابًا دونه، والعذاب نعيمًا معه.
وبالجملة فلا يرى الحياة إلا به، والموت والألم
والهم والغم والحزن إذا لم يكن معه، فهذا له جنتان: جنة في الدنيا معجلة، وجنة يوم
القيامة»([6]).
وبالله الوفيق والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك
على محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
27/ 3/ 1445
aldumaiji@gmail.com
وما في الأرض أشقى من محبٍّ وإن
وجد الهوى حلو المذاقِ
تــراهُ باكيًا في كـــل حيـــــنٍ مخافـــــة
فُرقةٍ أو لاشتيـــــاقِ
فيبكي إن نأوا شــــــوقًا إليهـم ويبكي إن دنوا خوف الفـــراقِ
فتسخـــنُ عينه عنـــد التنـــائي وتسخنُ
عينـه عند التـــــلاقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق