ضرورة العبد للافتقار لربه تعالى
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى
والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه
للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خير من علَّمَ أحكامَ
الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان، وعلى
التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلّم تسليمًا مزيدا.
أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله،
واستعدوا بصالح أعمالكم للقائه، واعلم يا عبد الله أنك لو تأملت العبادات كافّة
قلبيّها وعمليّها لعلمت أن الافتقار إلى الله تعالى هو الوصف الجامع لها الذي لا
ينفك عنها، وبقدر تمكّن الافتقار من القلب تكون ثمرته ونتيجته ونفعه في الدارين،
وحسبك أن تتأمل الصلاة وما فيها من معاني الافتقار للغني الوهاب الرحيم المنان. وكل
أحوال المرء وحركاته وسكناته لا تخلو من اضطرار حقيقي ملازم افتقارًا للواحد الأحد
سبحانه وبحمده.
قال الله سبحانه: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو
الغني الحميد) [فاطر:
١٥] والفقر المذكور هنا هو الفقر الذاتي في الناس إلى الله
تعالى، يستوي فيه الغني منهم لكثرة العرض، مع الفقير لقلة العرض. قال ابن سعدي
رحمه الله تعالى: «يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم، ووصفهم وأنهم فقراء
إلى الله من جميع الوجوه:
فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم
لم يوجدوا.
فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء
والجوارح، التي لولا اعداده إياهم بها لما استعدوا لأي عمل كان.
فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق
والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور لما حصل لهم من الرزق
والنعم شيء.
فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره،
وإزالة الكروب والشدائد، فلولا دفعه عنهم وتقريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم
لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية
وأجناس التدبير.
فقراء إليه في تألههم له وحبهم له،
وتعبدهم واخلاص العبادة له تعالى؛ فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم
وقلوبهم وأحوالهم.
فقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون،
وعلمهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه لم يتعلموا ولولا توفيقه لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى، وبكل
اعتبار سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا؛ ولكن الموفق منهم الذي لا يزال
يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله ألا يكله إلى نفسه
طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا حري
بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم من الوالدة بولدها.
والله هو الغني الحميد أي الذي له الغنى
التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما
يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته وكونها كلها صفات كمال ونعوت جلال، ومن غناه
تعالى أنه قد أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، فهو الحميد في ذاته، وأسمائه، وأنها
حسنى، وأوصافه لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي
أوامره ونواهيه فهو الحميد على ما فيه من الصفات، وعلى ما منه من الفضل والإنعام
وعلى الجزاء بالعدل وهو الحميد في غناه الغني في حمده»([1]).
عباد الرحمن: إن منزلة الفقر من منازل
العبادة لله سبحانه، التي يدور فيها المسلم بين {إياك نعبد وإياك نستعين}. [الفاتحة: ٥]. فعن أبي ذر ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «يقول الله
تعالى: يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فسلوني الهدى؛ أهدِكُم. وكلُّكُم فقير
إلا من أغنيت، فسلوني؛ أرزقْكم. وكلّكم مذنب إلا من عافيتُ، فمن علم منكم أني ذو
قدرة على المغفرة فاستغفرني؛ غفرتُ له ولا أبالي. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم
وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي([2])؛ ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة. ولو أن أوَّلكم وآخركم
وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي([3])؛ ما نقص ذلك من ملكي جناح بعوضة. ولو أن أولكم وآخركم
وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كلُّ إنسان منكم ما بلغت
أمنيته، فأعطيتُ كلَّ سائل منكم ما سأل؛ ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم
مرّ بالبحر فغمس فيه إبرة، ثم رفعها إليه. ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أريد،
عطائي كلام([4]) وعذابي كلام. إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن
فيكون»([5]).
فلنتأمل ــ يا أخي ــ غنى ربنا عنّا وعن
عبادتنا مهما بلغت كمّا وكيفًا وصدقًا وإخلاصًا وإحسانًا، فنحن المحتاجون
المفتقرون لتلك العبادات التي لا غنى لأرواحنا عنها، فهي غذاؤها وأنسها وغناها،
وكفاها شرفًا وفضلًا أن ارتضاها الله تعالى لنا قرابين إليه ووسائل لمرضاته وسبلًا
لمحبته، فله الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، له الحمد كله، سبحانه لا نحصي
ثناء عليه.
وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب؛ بأن
يفتقر إلى ربه في جميع أموره، فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على
نعمائه، ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غير ربه
تعالى([6]).
قال ابن حجر رحمه الله: «إن قيل ما وجه
استعاذته صلى الله عليه وسلم من الفقر؟ فالجواب: إن الذي استعاذ منه وكرهه فقر
القلب، والذي اختاره وارتضاه طرح المال»([7])
فالفقر الحقيقي هو فقر القلب وليس فقر
العَرَض، فعن أبي ذر ؓ قال: قال رسول الله ﷺ «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو
الغنى؟» قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فترى قلة المال هو الفقر؟» قلت:
نعم يا رسول الله. قال: «إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب»([8]).
«وفقر القلب: خلوه من دوام الافتقار إلى
الله في كل حال، وبعده عن مشاهدة فاقته التامة إلى الله تعالى من كل وجه»([9]).
بارك الله لي ولكم....
...........................
الخطبة الثانية
الحمد لله...
عبد الله: تدبّر ــ رعاك الله ــ تملّق
الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لربه تعالى، واستكانته وانكساره
وانطراحه وافتقاره إليه في هذه النجوى النبوية لرب العالمين. ففي الصحيحين عن أبي
موسى الأشعري ؓ أن النبي ﷺ كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهم اغفر لي خطيئتي،
وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي
وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما
أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»([10]). وفي شفاء العليل: «وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى
الله من كل وجه وبكل اعتبار، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه
بمصالحه وتدبيره له، وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم
الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه، فيكون أحب
إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم، وفقير إليه من جهة معافاته
له من أنواع البلاء، فإنه إن لم يعافِهِ منها هلك ببعضها، وفقير إليه من جهة عفوه
عنه ومغفرته له، فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة، فما نجى
أحد إلا بعفو الله، ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.
عباد الله: إنّ شُكرَ المُنعِم على قَدْرِه
وعلى قدر نعمه، ولا يقوم بذلك أحد، لذلك كان حقه سبحانه على كل أحد، وله المطالبة
به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى
حفظه وكلاءته ورزقه، فإن لم يحفظهم هلكوا، وإن لم يرزقهم هلكوا، وأن لم يغفر لهم
ويرحمهم هلكوا وخسروا، ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: (ربنا ظلمنا أنفسنا وأن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين) [الأعراف: ٢٣] وهذا شأن ولده من بعده، وقد قال موسى كليمه: ( رب إني ظلمت نفسي فأغفر لي) وقال: (سبحانك تبت إليك وأنا
أول المؤمنين) وقال: (رب أغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)
وقال: (أنت ولينا فاغفر وارحمنا وأنت خير الغافرين) وقال خليله إبراهيم: (رب
اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوادي وللمؤمنين يوم
يقوم الحساب) وقال: (الذي خلقني فهو يهدين) إلى قوله: (والذي أطمع أن يغفر لي
خطيئتي يوم الدين) وقال أول رسله إلى أهل الأرض: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس
لي به علم وألا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم
إليه: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) وقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق)
إلى قوله: (واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما) وقال: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما).
وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى
الله عليه وسلم: «رب أعني ولا تعن عليَّ» وفيه: «رب تقبل توبتي واغسل
حوبتي» الحديث([11]) وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر([12]) داود أنه استغفر ربه راكعًا وأناب، وقال تعالى: (فغفرنا له ذلك) وقال عن نبيه سليمان: (ولقد فتنا سليمان
وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي
أنك أنت الوهاب) وقال عن نبيه يونس: (فنادى في الظلمات لا إله إلا أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين).
وقال صدّيق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها
لله بعد رسوله: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. فقال: «قل: اللهم
إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك،
وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»([13]).
فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد
التي تقتضي تقرير ما بعدها، ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه، ثم وصف ذلك الظلم
بكونه ظلمًا كثيرًا، ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده، أي لا يبلغها علمه
ولا سعيه، بل هي محض منّته وإحسانه وأكبر من عمله، فإذا كان هذا شأن من وزن بالأمة
فرجح بهم فكيف بمن دونه؟!»([14]). والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا ب
الله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم
بإحسان.
إبراهيم الدميجي
10/ 4/ 1445
aldumaiji@gmail.com
([11]) روى ابن ماجه في سننه بسند صحيح
عن ابن عباس، أن النبي ﷺ كان يقول في دعائه: «رب أعنّي ولا تعن عليَّ، وانصرني
ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى
علي، رب اجعلني لك شكّارًا، لك ذكّارًا، لك رهّابًا، لك مطيعًا، إليك مخبتًا، إليك
أوّاهًا منيبًا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وسدد لساني،
وثبت حجّتي، واسلل سخيمة قلبي» وأخرجه أبو داود (1501) و(1511)، والترمذي
(3865) و(3866)، والنسائي في الكبرى (10368) وهو في مسند أحمد (1997).
([12]) أي: من أعبدهم، إشارة لحديث أبي
محمد عبد الله بن عمرو بن العاص ¶ قال: أُخبر النبي ﷺ أني أقول:
والله لأصومنَّ النهار، ولأقومنّ الليل ما عشت. فقال رسول الله ﷺ: «أنت الذي
تقول ذلك؟» فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: «فإنك لا
تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر
أمثالها وذلك مثل صيام الدهر» قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا
وأفطر يومين» قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فصم يومًا وأفطر يومًا،
فذلك صيام داود ﷺ، وهو أعدل الصيام» وفي رواية: «هو أفضل الصيام» فقلت:
فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله ﷺ: «لا أفضل من ذلك» ولَأَن أكون
قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله ﷺ أحب إلي من أهلي ومالي» أخرجه البخاري
2/63 (1131) ومسلم 3/162 (1159) وفي رواية: «إن أحبّ الصيام إلى الله صيام
داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه،
وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق