الله وحده هو الغنيُّ، وجميعُ الخلائقِ مفتقرةٌ إليه
الحمد لله، الحمد لله الذي
جعلَ حبَّه أشرفَ المكاسِب، وأعظمَ المواهِب، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على نعمة
المطاعِم والمشارِب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُنزَّه عن
النقائِص والمعايِب، خلقَ الإنسانَ من ماءٍ دافِقٍ يخرجُ من بين الصُّلب والترائِب،
وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى الهُدى والنور وطهارة النفسِ
من المثالِب، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي سبيلُ النجاة والفلاح، قال الله
تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد
الرحمن؛ إنّ من أسماء الله تعالى الغني، وهو دال على غناه المطلق بكل صنوف الغنى،
كما أنه دال على فقر الخلائق كلها فقرًا مطلقًا إليه تبارك وتعالى. «وهذا من معاني
(الصمد) وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء. بل الأشياء مفتقرة إليه
من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته؛ فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح
ولا ينفع ولا يدوم. وهذا تحقيق قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥]
ودخل عثمان أو غيره على ابن مسعود ــ وهو مريض ــ
فقال: كيف تجدك؟ قال أجدني مردودًا إلى الله مولاي الحق»([1]). وقال سهل بن عبد الله: «ليس بين
العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب إليه من الافتقار»([2]).
وتأمل حال هذا الإنسان العجيب ومزاجه الغريب في
جهله مع عجزه، واستغنائه مع فقره، ورجوعه بعد فراره وكفره، قال سبحانه وبحمده: (لا
يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ
قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ
مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ
رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا
أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت: ٤٩ - ٥١].
قال الحافظ ابن كثير: «يقول تعالى: لا يَمَلّ
الإنسان من دعائه ربّه بالخير ــ وهو: المال، وصحة الجسم، وغير ذلك ــ وإن مسه
الشر ــ وهو البلاء أو الفقر ــ (فيئوس قنوط) أي: يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد
هذا خير. (وَلَئِنْ
أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا
لِي) أي: إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن: هذا لي، إني كنت أستحقه
عند ربي، (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي: يكفر بقيام الساعة، أي: لأجل
أنه خُوِّل نعمة يفخر، ويبطر، ويكفر، كما قال تعالى: (كَلا إِنَّ الإنْسَانَ
لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: ٦، ٧].
ثم قال: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ
أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) [فصلت: ٥١] أي: أعرض عن الطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر
الله، عز وجل، كقوله تعالى: (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات: ٣٩]. (وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ) [فصلت: ٥١] أي: الشدة، (فَذُو دُعَاءٍ
عَرِيضٍ) [فصلت: ٥١] أي: يطيل المسألة في الشيء الواحد" ([3]).
وتدبر قول الله تعالى مبيّنا ضعف البشر وأنهم
ليسوا في حقيقتهم بشيء إن خذلهم ربهم ووكلهم إلى ضعفهم وفقرهم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: ١٥] «فيخبر تعالى
بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ) أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات،
وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
أي: هو المنفرد بالغنى وحده
لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه»([4]).
معاشر الحنفاء: "ليس في الكائنات ما يسكن
العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا اللهُ سبحانه. ومن عَبَدَ غير
الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه
أعظم من مفسدة التذاذ أكل طعام المسموم (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
فسبحان الله رب العرش عما يصفون) [الأنبياء: ٢٢] فإن قوامهما بأن
تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقًّا، إذ الله لا سميّ
له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها، هذا من جهة الإلهية، وأما من جهة
الربوبية فشيء آخر.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا
يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض
الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي تنعم به والتذ غير مُنْعِمٍ له ولا مُلْتَذٍّ
له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك. وأما إلهه فلا بد له منه في كل
حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ﷺ: (لا أحب
الآفلين) [الأنعام: ٧٦] وكانت أعظم آية
في القرآن الكريم: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) [البقرة: ٢٥٥] وهذا أمر عظيم
جدًا حري بكل مؤمن عابد ملاحظته وتذكره على الدوام، فبعبادة ربه تكون حياته فلا
قوام له إلا بها.
وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي ﷺ قال: «إذا
دخل أهل الجنة الجنة؛ نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن
ينجزْكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟
قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه سبحانه. فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر
إليه، وهو الزيادة»([5]) فبيَّن النبي ﷺ أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم
الله في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه؛ وإنما يكون أحب إليهم لأن
تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره، فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب،
فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم.
عباد الله: إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع
ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا
رفع، ولا عز ولا ذل. بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصَّره وهداه وأسبغ عليه نعمه،
فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه،
وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله.
وإذا تعلّقَ
العبد بما سوى الله ضره ذلك، ومن أحب شيئًا لغير الله فلا
بد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببا لعذابه، وفي الأثر المأثور: «أحبب ما شئت فإنك مفارقه،
واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان»([6]).
فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو
فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له
من اللذة([7]).
ومن توكل على غير الله خاب، فما علّق
العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله
إلا خذل. وقد قال الله تعالى: { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا
. كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا
} [مريم: ٨١، ٨٢].
إنّ الله سبحانه غني حميد كريم رحيم، فهو سبحانه
محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من
العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانًا. والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم،
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك([8])، وذلك منفعة عليك بلا مضرة.
ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان
إليهم، واحتمال الأذى منهم([9])، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تخفهم
فلا ترجهم، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج
الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه
الأعلى } [الليل: ١٧ - ٢٠]. وقال فيه: { إنما نطعمكم
لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } [الإنسان: ٩].
بارك اللي لي ولكم..
...............
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلم يا عبد
الله أن الله سبحانه يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعاوضة
ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك، ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر، ولا تنقص
خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا
أخرجه أثّر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت
الأخذ والانتفاع بما سألته([10])، فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث
لهما:
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت
المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك. وهذا هو الأغلب على الخليقة، فإن
الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم
الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته. وكذلك إذا
أنعم عليك ثم سلبك النعمة، فإنه لم يسلبها لبخل منه، ولا استئثار بها عليك، وإنما
أنت السبب في سلبها عنك، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. (ذلك بأن الله
لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) [الأنفال: ٥٣] فما أزيلت نعم
الله بغير معصيته.
إذا كنت في نعمة فارعها |
|
فإن المعاصي تزيل النعمْ |
فآفتُك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك،
وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك.
ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم
أقداره وتعاتبها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك، وفرطت في حظك، وعجز رأيك عن معرفة أسباب
سعادتك وإرادتها، ثم قعدتَ تعاتب القدر بلسان الحال والمقال! فأنت المعني بقول
القائل:
وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته |
|
حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرَا |
ولو شعرت بدائك، وعلمت من أين دُهيت، ومن أين أصبت؛ لأمكنك تدارك ذلك، ولكن
قد فسدت الفطرة، وانتكس القلب، فأعرضتَ عمَّن أصلُ بلائك ومصيبتك منه، وأقبلت تشكو
مَنْ كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه، فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعضهم
وقد رأى رجلًا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من
لا يرحمك!
وإذا أتتك مصيبة فاصبرْ لها |
|
صبرَ الكريم فإنه بك أرحمُ |
وإذا علم العبدُ حقيقة الأمر، وعرف من أين أُتي،
ومن أي الطرق أغير على سرْحه، ومن أي ثغرة سرق متاعه وسلب؛ استحيا من نفسه ــ إن
لم يستح من الله ــ أن يشكوا أحدًا من خلقه، أو يتظلَّمهم، أو يرى مصيبته وآفته من
غيره، قال تعالى: (وما أصابكم من
مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) [الشورى: ٣٠] وقال: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) [آل عمران: ١٦٥] وقال: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) [النساء: ٧٩]»([11]).
اللهم أعز الإسلام
والمسلمين...
وصلى الله وسلم وبارك على
محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
28/ 3/ 1445
aldumaiji@gmail.com
([6]) البيهقي في الشعب (10541) الحاكم
(4/ 324) أبو نعيم في الحلية (3/ 202) وانظر السلسلة الصحيحة (831).
([7]) لخوفه من فواته، وهلعه عليه،
وحرقته به، وغيرته عليه، وذلته له، وانشغاله به عما سواه.. في عذابات أُخر يُصلى
بها المحبون غير ربهم.
([9]) وهذا تنبيه نفيس، فبعض الخلق يجفو
بني جنسه ويشمئز منهم بل قد يقع في نوع بغي أو تقصير من جهة قصده الاستغناء عنهم
بالله، ونسي أن الله قد سخر الناس لبعضهم وأقام سنن خلقه على تعاونهم وتنافعهم
واتصالهم بل وإحسانهم، فالموفق من نظر للأمر نظرة كلية شاملة، فأعطى الناس حقوقها
المرعية من قبل الشريعة بلا تعلق البتة بغير رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق