إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 17 مارس 2024

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (3)

 

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (3)


الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا به وتوحيدا , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا. أما بعد؛ فاتقوا الله تعالى عباد الله، واحرصوا قدر طاقتهم على إحسان العبودية له، وتحصيل الاعتصام به، وقد جعل الله تعالى لذلك طرقًا شرعها وبيّنها ومنها:

11 ــ التفكّر:

اعلم رحمني الله وإياك أن التفكر سبيل للاعتصام بإذن الله، ولنقف قليلا متفكرين شاكرين في سبع نعمٍ كبار!

تركوا التفّكرَ في أمور فلاحهم

 

فكأنهم بجمودهم أصنامُ

العاقل الحازم الرشيد، المريدُ لنفسه الخلاصَ ثم الفلاحَ وحسنَ العاقبة لا بدّ له من وقفات يخلو بها مع نفسه، يتأمل وإياها منن ربه وآلاءَ معبوده..

وجّه الله عبادة للتدبر في آياته (أفلا يتدبرون القرآن) وأرشدهم للتفكر في الخليقة: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) والنهاية: (ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار) وقال حكيم الصحابةِ أبو الدرداء ؓ: «تفكّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة».

يا لَله! كم تحتَ هذه الكلمة من كنوزِ علمٍ، وذخائرِ حكمة!

ألم تعلم أنك منغمسٌ حتى شعرِ رأسك في نعمٍ لا تستطيع إحصاءها، مع هذا فأنت مأمورٌ بشكرها، ولكن من رحمة ربك بك أن جعل وجوبَ الشكرِ على قدر وُسعك وطاقتك، والأمر يسير بحمد الله تعالى.

قف الآن هنيهاتٍ متذكّرًا بعض نعم الحميد الكريم الوهاب عليك، فالله يحب المتحدثين بنعمه، المتفكرين في آلائه.

النِّعمُ السبعُ الكبار:

أًولاها: نعمةُ الخلق:

إنها نعمةٌ مدهشةٌ عجيبة، فأحضر عقلك بين يديك، وعُد بذاكرتك لأبعدِ ما تستطيع، يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهر، وسنةً بعد سنة حتى تقفَ عند عتبةٍ زمانيّة، لا تستطيع بذاكرتك اختراقَ حاجِزِها ولا كشفَ سِترِها.

مِن ذلك المكانِ الزمانيٍّ اقفز بمُخيلتك إلى ما قبلَ خلقِك!

هناك في ذلك العالم السحيق لا تجدُ نفسك، قد وُجِدَ الكونُ وأنت غيرُ موجود، ليس لك ذرّةُ وجود فيه، لا جسدًا ولا روحًا، ليس هناك منك أيها الفاني سوى العدم!

مرّت أزمانٌ وأزمان وأحداثٌ في هذا الكون وأنت غيرُ موجودٍ فيه، لا إله إلا الله (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورًا).

بعد ذلك خلقك ربُّكَ، وفطرك وبرأك، وسوّاك وأوجدك ولم تكُ شيئًا، فاحمد الله واشكره على نعمة خلقِكَ، فهي خيرٌ للصالحين، وأكثرُ البشر عن شكرها غافلون.

ثانيةُ النعم: نعمةُ الاصطفاء الانساني:

 لمّا خلقك ربُّكَ اختارك لتكون مخلوقًا مُمَيّزًا فاضلًا كريمًا (ولقد كرّمنا بني آدم) [الإسراء: 70].

وتأمل ضدَّ ذلك، ما ذا لو أن اللهَ قد خلقك شجرةً تُرعى وتُقطعُ وتُرمى للنار، أو خلَقَكَ صخرةً، تَهوِي وتُكسَر، أو قطرة ماء في بحرٍ، أو ذرّةَ هواء، أو حيوانًا بهيمًا، أو طيرًا حائرًا، أو حشرة تائهة!

اصطفاك الله من جميع أجناس مخلوقاته لتكون بشرًا مُمَيّزًا كريمًا، تستحقُّ رضاهُ وحبّه، وكرامتَه وجنته إن شكرته وأطعته.

ثالثةُ النعم: نعمةُ الإسلام:

وهي أعظم النعم بإطلاق، ومهما تصوّرتَ قدْرَ هذه النعمةِ فلن تطيق قدْرها، ويكفيك أن ترى شؤمَ الكفر وظلْمةَ الضلال، وبشاعة المآل، وسوء العاقبة والمُنقلب.

ألم تعلم أن نسبةَ دخولِ البشرِ للجنة هي واحد من كل ألف! اللهم سلّم سلّم.

ففي صحيح البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ ؓ قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).

إن أكثر بني آدم لن يعودوا لمسكنهم الأول الذي أخرجوا منه وهو الجنة: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين) [سبأ: 20] فهل أنت من العائدين؟!

سيغضبُ اللهُ في ذلك اليومِ غضبًا لم يغضب قبله مثلَه، ولن يغضبْ بعده مثلَه، فما ذا أعددت لغضبه من صالح العمل؟!

رابعةُ النعم: نعمةُ الاصطفاءِ المحمديّ:

وأبشر ببشرى الله لك، فقد جعلك من خير أمة أُخرجت للناس، وخصّك بأن تكون من أتباع النبي الخاتَمِ الكامِل. فاسْعَدْ الآن وابتهج، فأنت من الأمة المرحومة، فلهذه الأمةِ من المزايا والخصائصِ ما ليس لغيرها، من مضاعفةِ الأجورِ والحسنات، والتجاوُزِ عن الخطايا والسيئات، ورحمةِ الله لها ورفعِ الدرجات، كرامةً لسيدها نبيِّ الرحمة والهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

ولكلّ نبي دعوةٌ مستجابة فاستعجلَ كلُّ نبيٍّ دعوته، لكن نبيّك ادّخرها لك شفاعة عند ربك يوم القيامة، فكن من أهل الإخلاص والاتّباع تنلْها بإذن ربك.

وما حملتْ من ناقةٍ فوق رحْلِها
ولا طلعت شمس النهار على امرئ

ولا لاحت الجوزاءُ شرقًا ومغربًا

 

أبرَّ وأوفى ذمّةً من محمدِ
تقيٍّ نقيٍّ كالنبي محمدِ
بأطيبَ من طيبِ النبي محمد

ولولا أن الله أرسله ووفّقه لكنت أنت ووالديكَ وكلَّ من تحب من حطبِ جهنم، لكن الله استنقذكم به من عَمَاية الضلالة لنور الإسلام والايمان، فاحمد الله على ذلك، واسأله المزيد من فضله، وألحَّ عليه، ألحَّ عليه بأن يُثبّتكَ على الحق حتى تلقاهُ وهو راض عنك.

إنك إنسان محظوظٌ متميزّ بكونك من أتباع هذا النبي المُمَيَّز، فعن ابن مسعود ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «أما ترضون أن تكونوا رُبُع أهل الجنة»، فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة»، فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا شطْرَ أهل الجنة» ثم وجدنا الله قد زاده على ما رجا من ذلك، فجعل أمته ثلثي أهل الجنة. رواه مسلم([1]) وثبت عنه ﷺ أنه قال: «أهلُ الجنة يومَ القيامة عشرون ومائةُ صفٍّ، أنتم منهم ثمانون صفًّا»([2]).

ومن رحمته ﷺ بأمته أنه كان يتلو قولَ الله تعالى في إبراهيمَ عليه السلامُ: (رب إنَّهُنَّ أضْلَلْن كثيراً من الناس فَمَن تَبِعني فإنَّه مِنِّي ومَن عصاني فإنك غفورٌ رحيم) وقولَ عيسى عليه السلامُ: (إن تعذِّبهُم فإنَّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم) [المائدة: 118] فرفع يديه قائلاً: «اللهم أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل ــ وهو أعلم ــ: «يا جبريل اذهب إلى محمد فسلْه: ما يبكيك؟» فاتاه جبريل فسأله، فأخبره النبيُّ ﷺ، فقال الله تعالى: «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوؤك»([3]) (ولسوف يعطيك ربك فترضى). [الضحى: 5].

عليك بتأمل سيرته ﷺ، وما فيها من أحواله وأوصافه وأخباره. واعلم أنّك كلّما استوعبت سيرتَه كلّما ازددت به شغفًا وحبًّا وشوقًا.

إنه يُحبّك ويشتاقُ لك، فهل لك مهجةٌ تُطيقُ الصدودَ يا صاح!

تسلَّى الناسُ بالدنيا وإنّا

 

لعمرُ الله بَعْدَك ما سَلَيْنا

والذي نفسي بيده لوِ استغرقتَ عُمُرَكَ في الصلاةِ والسلامِ عليه ما أدّيتَ مِعشارَ حقّهِ عليك، مع ذلك فأكثر من الصلاةِ والسلامِ عليه ما استطعت.

ولقد أوصاك وبشّرك بقوله: «إن أولاكم بي يوم القيامة أكثرُكم علي صلاة»([4]).

تكادُ حين تناجيكم ضمائرُنا
إن كان قد عزَّ في الدنيا اللقاءُ ففي

 

يَقــضي علينـا الأسى لولا تأسِّينا
مواقفِ الحشـرِ نلقاكم ويكفينا

خامسةُ النعم: نعمةُ الهدايةِ للسنة:

إذ جعلك الله من أهل السنة والجماعة، لا من أهل الفُرقة والبدعة، هل هناك أجملُ من أن تبيتَ على مُعتقدِ رسول الله ﷺ وصحابته الأبرار؟!

إن معتقدَ أهلِ السنة موافق للفطرة، مريحٌ للنفس، مبهجٌ للروح، مغذٍّ للعقل، فليس فيه خرافةٌ ولا دجلٌ ولا شعوذةٌ، ولا تعقيدٌ ولا قرمطةٌ ولا سفسطةٌ. بل هو الزُّلالُ الصافي للوحي، والخلاصةُ النقيةُ للرسالة، والمهيَعُ السهلُ المُنيرُ للجنَّة، فاستمسك به وافرح به واثبت عليه رعاك الله.

سادسةُ النعم: نعمةُ الصلاح والاستقامة:

فما كُلُّ من عرف الحق عمل به، ولا كلُّ من عَلِمَ الهدى اهتدى، ولا كلُّ من اهتدى ثبت. فافرح بصلاحِك واستقامتك وورَعِك وعفافِك، واسأل ربَّك المزيدَ من فضلِه ورحمتِه وتوبتِه وغفرانه.

سابعةُ النعم: النعمُ المتعلقة بالصحة والعافية في العقل والبدن والرزق:

تفكّر في نعمة العقلِ والإدراك وما فيه من الآلاء والمِنح، وفي الجسدِ وما فيه من العجائب والحِكَم، تأملِ القلبَ ونبضَه، والدمَ وجريانَه، والعظمَ وإحكامَه، والعَصَب ودقّتَه، والنَّفَسَ وراحتَه، والبصرَ ومُتعتَه، والسمع وضرورتَه.

أبحِرْ بخشوعٍ في تأملِ نِعَمِ الروح والعقل والجسد، واهتف بقلبك: آمنتُ بك يا ربي، حَنانيك خُذ بيدي.

اسبح في بحر التأمّل لنعم الكريم عليك، واحمده حمْد من عَرَف وخضَعَ وخشَع، وامتلأ فؤادُه بالمحبّة والشكر والامتنان للوهاب الكريم الرحمن (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). [فصلت: 53].

والآن: قد عرفتَ فالزم. وانتشِ بهذه النّعم، واغتبط وافرح بها، ولا فَرَح كالفَرَحِ بالله، لا فرح كالفرح بالله، ولا أُنسَ كالأنسِ بالله، واشكرهُ وَسْلهُ المزيد، فقد وعدك إن كنت من الشاكرين.

نعم، لقد وعدك إن كنتَ من الشاكرين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.

...................

الخطبة الثانية

 الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أن من وسائل تحصيل الاعتصام بحبل الله تعالى:

12 ــ الثقة بالله تعالى:

فالثقة أساس الاعتصام، فالاعتصام استمساك واستيثاق وسكون وعكوف واستئمان، وعلى قدر الثقة يكون الاعتصام، فعزّز الثقة يشتدّ الاعتصام، ومن جمال الثقة جمعها بين عالمي الغيب والشهادة، إذ يتنفسها المؤمن بقلبه قبل صدره، ويراها ببصيرته قبل بصره، ويأنس إليها ومنها وبها، فهي الركن الشديد، والمأرز الوثيق، ومن وثق بالله انقطع حقيقة عن كل ما سواه، وانخلع من نظره إليهم وانتظار فرجهم أو عونهم أو حفظهم (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم). [آل عمران: 101].

13 ــ اليقين بالله تعالى:

اليقين هو العمود الذي يرفع بنيان الاعتصام، فإذا هبّت رياح شتاء البلايا ثبت جبل الاعتصام بعمود اليقين، فيرى ببصيرته اليقينية حِكَمَ ربه في ابتلائه وآلاء معبوده في طي مِحَنه، وقرب فرجه من كربه، فالناس يتساقطون صرعى في أتون الكربات، ويتلوّون شاكين من ماجَرَيَاتِ الأقدار، وصاحب اليقين راسخ في اعتصامه بحبل ربه، ثابت الجنان، عظيم العلم والإيمان.

وتأمل كيف حمل البحر موسى في مهده وهو وليد وحيد، ثم أغرق فرعون وجنده وهو ملك جبار عنيد، إنه تدبير العزيز الحميد فثق به وتيقن من صدق موعوده.

14 ــ الاعتصام بمسمّيات الشرع دون اصطلاحات المُحدثين:

من المهمات في باب الاعتصام: الحرص على مراعاة الألفاظ السنية الواضحة التي لا تحتمل محامل أهل الفرقة، ومما داخل الناس من سبل الشر الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، فيقولها الصِّدِّيق والزنديق، ويوردها صاحب البدعة ليصل لباطله دون الحق الذي تحتمله، فيُغضي عنه صاحب السنة إحسانًا للظن به أو غفلة عن باطن بدعته، وهذا خطأ فالباطل يردّ على من كان نصحًا له ولغيره.

 وبالجملة؛ فمن وسائل تحصيل الاعتصامِ الاعتصامُ بألفاظ الشرع وحروفه، توقيرًا وإعظامًا، وحراسة واحترازًا، وكلُّ الخير في الاتّباع، ونحن وإن قلنا بتقديم المعنى واللب إلّا أن القالب واللفظ والظاهر له حظه من الأهمية، فشعار المؤمنين ظاهر، واجتماعهم ظاهر، وحزبهم ظاهر، وحروفهم ظاهرة، وحظهم قائم، وقسمهم غانم، وطائفتهم منصورة بإذن الله تعالى.

اللهم صل على محمد...



([1])  مسلم (1/ 200) (221).

([2])  أحمد (7/ 349) (4328).

([3])  مسلم 1/132 (202) (346).

([4])  أبي يعلى في مسنده (9/13) (5080).

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (2)

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (2)

 

الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا، أحمده الحمد كله، وأشكره الشكر كله، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، أشهد أن لا إله إلا الله شهادة أدخرها ليوم العرض على الله، شهادة مبرأة من الشكوك والشرك، شهادة من أنار بالتوحيد قلبه، وأرضى بالشهادة ربه، وشرح بها لبه. وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم على كاشف الغمة، وهادي الأمة، ما تألقت عين لنظرٍ، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف حمام على شجر، وعلى آله بدور الدجى، وليوث الردى، وغيوث الندى، وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به عز وجل، واحرصوا للغاية على تحصيل وسائل الاعتصام به تبارك وتعالى، واعلموا أن من أعظمها:

4 ــ الصدق مع الله تعالى:

فالصدق مع الله تعالى هو آخيّة التوفيق والفلاح، ودليل صحة التوجّه والإخلاص، وبرهان التوقير للعليّ الأعلى تبارك وتعالى، ومن رام جزيل العطايا فليصدق مع العظيم بقلبه وقوله وعمله. وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله ¶ قال: «بينا فتى من الأنصار عَلَفَ ناضحه، وأقام معاذ بن جبل صلاة العشاء، فنزَّلَ الفتى عَلَفَه، فقام فتوضأ، وحضر الصلاة، وافتتح معاذ بسورة البقرة، فصلّى الفتى وترك معاذًا، وانصرف إلى ناضحه فعلَفَه أو فعلفها، فلما انصرف معاذ جاء الفتى فسبّه ونَقَصَه، ثم قال: لآتين نبي الله ﷺ فأخبره خبرك، فأصبحنا فاجتمعا عند النبي ﷺ، فذكر له معاذ شأنه، فقال الفتى: إنا أهل عمل وشُغْلٍ، فطوّل علينا، استفتح بسورة البقرة، فقال النبي ﷺ: «يا معاذ أتريد أن تكون فتّانًا، إذا أممت الناس فاقرأ بـ(سبح اسم ربك الأعلى) (والليل إذا يغشى) و (إقرأ باسم ربك) (والضحى) وبهذا النحو».

فقال عبد الله بن عبيد بن عمير: فدعا النبي ﷺ الفتى فقال: «يا معاذ، ادع» فدعا، فقال للفتى: «ادع» فقال: والله لا أدري ما دندنتكما هذه، غير أني والله لئن لقيت العدو لأصدقنّ الله، فلقي العدو فاستشهد، فقال النبي ﷺ: «صَدَقَ الله فصَدَقَهُ الله»([1]).

5 ــ الدعاء:

الدعاء حبل المعتصمين بربهم، وباب الداخلين إلى سيدهم، ووسيلة الطالبين كريمَهُم، فبه يرفعون شكاياتهم من غوائل الدنيا وحبائل الشيطان، وبه يطلبون رغائبهم من الكريم الوهاب المنان، قال بكر بن عبد الله المزني: «من مثلك يا ابن آدم! خُلِّيَ بينك وبين الماء والمحراب، متى شئت دخلت على ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان»([2]).

6 ــ المحاسبة:

قال الحسيب سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) [الحشر: 18] وهذا أصل في محاسبة المؤمن نفسه، ومِن أولى ما يحاسب المؤمن نفسه فيه قوة اعتصامه بربه تعالى واستمساكه بحبله، فالدنيا تذهب بلبّه أحيانًا فيطيش وَهَلُهُ عن سعادته باعتصامه بحبل مولاه، فإن أسعفه ربه بمحاسبة صادقة لنفسه عاد لكنف ربه ورحمته وكرامته.

وبالجملة؛ فالمحاسبة أخذٌ بالحزم في تحصيل المراد، واحترازٌ من مؤاخذة الحساب، ومن اعتصم بربه فاز.

7 ــ لزوم العلماء:

فالمعتصم بالله تعالى مفتقر لبصيرة تهديه، ومعدنها العلم بالله وبدينه، ومعينها صدور العلماء الأتقياء العاملين الربانيين، فمن لزم غرْزَهم أوشك أن يصل بإذن الله، ذلك أن للشيطان حظوظ من فريسته الآدمية، وللنفس رغائب تعميها، وشهوات تُعشيها، فإن استفرد به الشيطان أتلفه، فإن وفّقه الله لبصير يرشده ويأخذ بيده أوشك السعيد لفلاحه أن يصل.

أيضًا فلزوم أهل العلم ومصاحبتهم في اختلاف أحوالهم وتقلّبهم مع الشدة والرخاء، والخوف والأمن، والضيق والسعة يحقن في قلب المؤمن جرعات النفع وعقار التحصين وغذاء المسير بإذن الله تعالى.

8 ــ الفرح بالله تعالى:

الفرح بالله له لذة تقصر عن وصفها الحروف، فهي الجنة قبل الجنة، والنعيم السابق للنعيم، وهي حقًّا قطعة من نعيم الجنة، وفي الجرعة اليسيرة منها ما يشبع الروح في مسيرها للآخرة، فكيف بالكثير؟!

فافرح بربك وبرحمته وفضله كلَّ الفرح، واجرع بقلبك وروحك ونفسك موارد الفرح ومصادر السرور وألوان الحبور، فلا أَفَرَحَ على الإطلاق مِنْ فَرَحِ العبد بربه تعالى، وهذا من الأمور المعلومة بالفطرة والعقل والشرع والحال والتجربة، فالحمد لله كثيرًا كثيرًا على ما يعجز عنه البيان، وتقصر عنه الحروف، ويقف دونه التوضيح (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58].

قال ابن تيمية حين كان سجينًا في قلعة دمشق قبل وفاته ؒ: «ما يُبِيّن نعم الله التي أنعم بها عليّ وأنا في هذا المكان أعظم قدرًا وأكثر عددًا ما لا يمكن حصره، وأكثر ما ينقص علي الجماعة، فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يُفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات، وأُعَرِّفُ أكثرَ الناس قدر ذلك، فإنه لا يُعرف إلا بالذوق والوجد، لكن ما من مؤمن إلا له نصيب من ذلك ويستدل منه بالقليل على الكثير، وإن كان لا يُقَدِّرُ قدرَهُ الكبير، وأنا أَعْرِفُ أحوال الناس والأجناس واللذات. وأين الدر من البعر؟ وأين الفالوذج من الدبس؟ وأين الملائكة من البهائم؟»([3])

9 ــ تجديد التوبة:

فلما كانت التوبة هي أولى المنازل وأوسطها وآخرها ــ بحسب ابن القيم ــ فعلى المؤمن أن يعتصم بها، وهي ــ بحمد الله ــ موصلة للاعتصام بحبل ربه، لأن دائمَ التوبة لله دائمُ الاعتصام به، فهو يتوب إلى الله تعالى من قصور وتقصير، من قصور في ذات الاعتصام، وتقصير في تحصيل وإعمالِ أدوات الاعتصام، فيتوب على التكرار والدوام تطهيرًا وإنقاءً من دخيلةٍ في نفسه، ودخَنٍ في قلبه، وضعفٍ في فؤاده، ونَكْتٍ وقَتَرٍ وثَقْلَةٍ وغفلةٍ يعترينه أحيانًا على مرِّ الزمان وتتابع الأيام، لأنّ الإنسان ضعيف عاجز، جهول فاتر، ملول عجول، مفتّنٌ توّاب، ومن هنا كانت ضرورته لتجديد التوبة للتواب تبارك وتعالى، وتجديد التوبة فرع عن المحاسبة الصادقة وثمرة نافعة لها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.

...................

الخطبة الثانية

 الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أن من أعظم وسائل تحقيق الاعتصام بالله تعالى ذكره جل وعلا.

10 ــ الذكر:

فهو زاد المعتصمين، ووقود المقرورين بين جليد الدنيا وبأسائها، ذلك أن الاعتصام بحد ذاته ذكر خالص بالقلب، فأعظِمْ بالذكر منهلًا وزادًا وسلاحًا.

قال الطبري رحمه الله تعالى: «ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة عن النبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم»([4]).

والذكر سبب للعصمة من لأواء الأرواح ــ أي أذاها بالذنوب ــ فالذكر سربال حافظ بإذن الله من غوائل الخطايا، ونوازل الرزايا، وحَرَابَاتِ طوارق الليل والنهار، كما أن بعض الأذكار عاصمة بإذن الله من أخطار مخصوصة، كتعويذات طرفي النهار والمنزل والنوم وغيرها، وكعشر سورة الكهف، فعن أبي الدرداء ؓ أن النبي ﷺ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» وفي رواية: «من آخر سورة الكهف» رواهما مسلم([5]).

قال الطبري: «إن قال قائل: أي أنواع الذكر أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟

قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التي لا يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله([6]).

روى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون ــ أو بضع وستون ــ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه([7]). وقال ﷺ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»([8])([9]).

اللهم صل على محمد..



([1])  مصنف عبد الرزاق (2/ 365) (3725).

([2])  شعب الإيمان (4/ 537).

([3])  مجموع الفتاوى (28 / 45) وللفرح بالله تعالى كتاب مستقل في هذه السلسلة بإذن الله تعالى.

([4])  شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 138).

([5])  مسلم 2/199 (809) (257) وفي صحيح ابن حبان (3/ 65) (785): «من قرأ..» بدلاً من: «من حفظ» قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

([6])  قلت: وهو كما قال، فهي خير الكلام، وهي مفتاح الجنة، وهي حبل الوصول إلى الله تعالى، وهي أحب الكلام إلى الله تعالى، ومن أجل تحقيقها خلق الله الخليقة، وكل الأذكار مردّها إليها، وهي قطعة من القرآن قال سبحانه: ﴿فاعلم أنه لا إله الله إلا الله﴾. فلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

([7])  البخاري 1/9 (9) ومسلم 1/46 (35) (58).

([8])  أخرجه أحمد (2/210) (6961).

([9])  شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 139) بتصرف يسير.