وسائل
تحصيل الاعتصام بالله تعالى (3)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين
كله وكفى بالله شهيدا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إقرارا به وتوحيدا
, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما مزيدا. أما بعد؛ فاتقوا الله تعالى عباد الله، واحرصوا قدر
طاقتهم على إحسان العبودية له، وتحصيل الاعتصام به، وقد جعل الله تعالى لذلك طرقًا
شرعها وبيّنها ومنها:
11 ــ التفكّر:
اعلم رحمني الله وإياك أن التفكر سبيل
للاعتصام بإذن الله، ولنقف قليلا متفكرين شاكرين في سبع نعمٍ كبار!
تركوا التفّكرَ في أمور فلاحهم |
|
فكأنهم بجمودهم أصنامُ |
العاقل الحازم الرشيد، المريدُ لنفسه
الخلاصَ ثم الفلاحَ وحسنَ العاقبة لا بدّ له من وقفات يخلو بها مع نفسه، يتأمل
وإياها منن ربه وآلاءَ معبوده..
وجّه الله عبادة للتدبر في آياته (أفلا يتدبرون القرآن) وأرشدهم للتفكر
في الخليقة: (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) والنهاية: (ربنا ما خلقت هذا
باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار) وقال
حكيم الصحابةِ أبو الدرداء ؓ: «تفكّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة».
يا لَله! كم تحتَ هذه الكلمة من كنوزِ
علمٍ، وذخائرِ حكمة!
ألم تعلم أنك منغمسٌ حتى شعرِ رأسك في
نعمٍ لا تستطيع إحصاءها، مع هذا فأنت مأمورٌ بشكرها، ولكن من رحمة ربك بك أن جعل
وجوبَ الشكرِ على قدر وُسعك وطاقتك، والأمر يسير بحمد الله تعالى.
قف الآن هنيهاتٍ متذكّرًا بعض نعم
الحميد الكريم الوهاب عليك، فالله يحب المتحدثين بنعمه، المتفكرين في آلائه.
النِّعمُ السبعُ الكبار:
أًولاها: نعمةُ الخلق:
إنها نعمةٌ مدهشةٌ عجيبة، فأحضر عقلك
بين يديك، وعُد بذاكرتك لأبعدِ ما تستطيع، يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهر، وسنةً
بعد سنة حتى تقفَ عند عتبةٍ زمانيّة، لا تستطيع بذاكرتك اختراقَ حاجِزِها ولا كشفَ
سِترِها.
مِن ذلك المكانِ الزمانيٍّ اقفز
بمُخيلتك إلى ما قبلَ خلقِك!
هناك في ذلك العالم السحيق لا تجدُ
نفسك، قد وُجِدَ الكونُ وأنت غيرُ موجود، ليس لك ذرّةُ وجود فيه، لا جسدًا ولا
روحًا، ليس هناك منك أيها الفاني سوى العدم!
مرّت أزمانٌ وأزمان وأحداثٌ في هذا الكون وأنت غيرُ
موجودٍ فيه، لا إله إلا الله (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم
يكن شيئا مذكورًا).
بعد
ذلك خلقك ربُّكَ، وفطرك وبرأك، وسوّاك وأوجدك ولم تكُ شيئًا، فاحمد الله واشكره
على نعمة خلقِكَ، فهي خيرٌ للصالحين، وأكثرُ البشر عن شكرها غافلون.
ثانيةُ
النعم: نعمةُ الاصطفاء الانساني:
لمّا خلقك ربُّكَ
اختارك لتكون مخلوقًا مُمَيّزًا فاضلًا كريمًا (ولقد كرّمنا بني آدم) [الإسراء: 70].
وتأمل ضدَّ ذلك، ما ذا لو أن اللهَ قد خلقك
شجرةً تُرعى وتُقطعُ وتُرمى للنار، أو خلَقَكَ صخرةً، تَهوِي وتُكسَر، أو قطرة ماء
في بحرٍ، أو ذرّةَ هواء، أو حيوانًا بهيمًا، أو طيرًا حائرًا، أو حشرة تائهة!
اصطفاك الله من جميع أجناس مخلوقاته
لتكون بشرًا مُمَيّزًا كريمًا، تستحقُّ رضاهُ وحبّه، وكرامتَه وجنته إن شكرته
وأطعته.
ثالثةُ النعم: نعمةُ الإسلام:
وهي أعظم النعم بإطلاق، ومهما تصوّرتَ
قدْرَ هذه النعمةِ فلن تطيق قدْرها، ويكفيك أن ترى شؤمَ الكفر وظلْمةَ الضلال،
وبشاعة المآل، وسوء العاقبة والمُنقلب.
ألم تعلم أن نسبةَ دخولِ البشرِ للجنة
هي واحد من كل ألف! اللهم سلّم سلّم.
ففي صحيح البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ ؓ قال: قَالَ
النَّبِيُّ ﷺ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ،
يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا
رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ
وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ
الْوَلِيدُ (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ).
إن أكثر بني آدم لن يعودوا لمسكنهم الأول الذي أخرجوا منه وهو
الجنة: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين) [سبأ: 20] فهل أنت من العائدين؟!
سيغضبُ اللهُ في ذلك اليومِ غضبًا لم
يغضب قبله مثلَه، ولن يغضبْ بعده مثلَه، فما ذا أعددت لغضبه من صالح العمل؟!
رابعةُ النعم: نعمةُ الاصطفاءِ
المحمديّ:
وأبشر ببشرى الله لك، فقد جعلك من خير
أمة أُخرجت للناس، وخصّك بأن تكون من أتباع النبي الخاتَمِ الكامِل. فاسْعَدْ الآن
وابتهج، فأنت من الأمة المرحومة، فلهذه الأمةِ من المزايا والخصائصِ ما ليس
لغيرها، من مضاعفةِ الأجورِ والحسنات، والتجاوُزِ عن الخطايا والسيئات، ورحمةِ
الله لها ورفعِ الدرجات، كرامةً لسيدها نبيِّ الرحمة والهدى صلوات الله وسلامه
وبركاته عليه.
ولكلّ نبي دعوةٌ مستجابة فاستعجلَ كلُّ
نبيٍّ دعوته، لكن نبيّك ادّخرها لك شفاعة عند ربك يوم القيامة، فكن من أهل الإخلاص
والاتّباع تنلْها بإذن ربك.
وما حملتْ من ناقةٍ فوق رحْلِها |
|
أبرَّ وأوفى ذمّةً من محمدِ |
ولولا أن الله أرسله ووفّقه لكنت أنت
ووالديكَ وكلَّ من تحب من حطبِ جهنم، لكن الله استنقذكم به من عَمَاية الضلالة
لنور الإسلام والايمان، فاحمد الله على ذلك، واسأله المزيد من فضله، وألحَّ عليه،
ألحَّ عليه بأن يُثبّتكَ على الحق حتى تلقاهُ وهو راض عنك.
إنك إنسان محظوظٌ متميزّ بكونك من أتباع
هذا النبي المُمَيَّز، فعن ابن مسعود ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «أما ترضون أن
تكونوا رُبُع أهل الجنة»، فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا ثُلُثَ
أهل الجنة»، فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا شطْرَ أهل الجنة»
ثم وجدنا الله قد زاده على ما رجا من ذلك، فجعل أمته ثلثي أهل الجنة. رواه مسلم([1]) وثبت عنه ﷺ أنه قال: «أهلُ الجنة يومَ القيامة عشرون
ومائةُ صفٍّ، أنتم منهم ثمانون صفًّا»([2]).
ومن رحمته ﷺ بأمته أنه كان يتلو قولَ
الله تعالى في إبراهيمَ عليه السلامُ: (رب إنَّهُنَّ أضْلَلْن كثيراً من الناس
فَمَن تَبِعني فإنَّه مِنِّي ومَن عصاني فإنك غفورٌ رحيم) وقولَ عيسى عليه
السلامُ: (إن تعذِّبهُم فإنَّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ الحكيم) [المائدة: 118] فرفع
يديه قائلاً: «اللهم أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل ــ وهو أعلم ــ: «يا
جبريل اذهب إلى محمد فسلْه: ما يبكيك؟» فاتاه جبريل فسأله، فأخبره النبيُّ ﷺ،
فقال الله تعالى: «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن
نسوؤك»([3]) (ولسوف يعطيك ربك فترضى). [الضحى: 5].
عليك بتأمل سيرته ﷺ، وما فيها من أحواله
وأوصافه وأخباره. واعلم أنّك كلّما استوعبت سيرتَه كلّما ازددت به شغفًا وحبًّا
وشوقًا.
إنه يُحبّك ويشتاقُ لك، فهل لك مهجةٌ
تُطيقُ الصدودَ يا صاح!
تسلَّى الناسُ بالدنيا وإنّا |
|
لعمرُ الله بَعْدَك ما سَلَيْنا |
والذي نفسي بيده لوِ استغرقتَ عُمُرَكَ
في الصلاةِ والسلامِ عليه ما أدّيتَ مِعشارَ حقّهِ عليك، مع ذلك فأكثر من الصلاةِ
والسلامِ عليه ما استطعت.
ولقد أوصاك وبشّرك بقوله: «إن أولاكم
بي يوم القيامة أكثرُكم علي صلاة»([4]).
تكادُ حين تناجيكم ضمائرُنا |
|
يَقــضي علينـا الأسى لولا تأسِّينا |
خامسةُ النعم: نعمةُ الهدايةِ للسنة:
إذ جعلك الله من أهل السنة والجماعة، لا
من أهل الفُرقة والبدعة، هل هناك أجملُ من أن تبيتَ على مُعتقدِ رسول الله ﷺ
وصحابته الأبرار؟!
إن معتقدَ أهلِ السنة موافق للفطرة،
مريحٌ للنفس، مبهجٌ للروح، مغذٍّ للعقل، فليس فيه خرافةٌ ولا دجلٌ ولا شعوذةٌ، ولا
تعقيدٌ ولا قرمطةٌ ولا سفسطةٌ. بل هو الزُّلالُ الصافي للوحي، والخلاصةُ النقيةُ للرسالة،
والمهيَعُ السهلُ المُنيرُ للجنَّة، فاستمسك به وافرح به واثبت عليه رعاك الله.
سادسةُ النعم: نعمةُ الصلاح والاستقامة:
فما كُلُّ من عرف الحق عمل به، ولا كلُّ
من عَلِمَ الهدى اهتدى، ولا كلُّ من اهتدى ثبت. فافرح بصلاحِك واستقامتك وورَعِك
وعفافِك، واسأل ربَّك المزيدَ من فضلِه ورحمتِه وتوبتِه وغفرانه.
سابعةُ النعم: النعمُ المتعلقة بالصحة
والعافية في العقل والبدن والرزق:
تفكّر في نعمة
العقلِ والإدراك وما فيه من الآلاء والمِنح، وفي الجسدِ وما فيه من العجائب
والحِكَم، تأملِ القلبَ ونبضَه، والدمَ وجريانَه، والعظمَ وإحكامَه، والعَصَب
ودقّتَه، والنَّفَسَ وراحتَه، والبصرَ ومُتعتَه، والسمع وضرورتَه.
أبحِرْ بخشوعٍ في تأملِ نِعَمِ الروح
والعقل والجسد، واهتف بقلبك: آمنتُ بك يا ربي، حَنانيك خُذ بيدي.
اسبح في بحر
التأمّل لنعم الكريم عليك، واحمده حمْد من عَرَف وخضَعَ وخشَع، وامتلأ فؤادُه
بالمحبّة والشكر والامتنان للوهاب الكريم الرحمن (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه
الحق). [فصلت: 53].
والآن: قد عرفتَ فالزم. وانتشِ بهذه
النّعم، واغتبط وافرح بها، ولا فَرَح كالفَرَحِ بالله، لا فرح كالفرح بالله، ولا
أُنسَ كالأنسِ بالله، واشكرهُ وَسْلهُ المزيد، فقد وعدك إن كنت من الشاكرين.
نعم، لقد وعدك إن كنتَ من الشاكرين.
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول،
وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو
الغفور التواب الرحيم.
...................
الخطبة
الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه
وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أن من وسائل
تحصيل الاعتصام بحبل الله تعالى:
12 ــ الثقة بالله تعالى:
فالثقة أساس الاعتصام، فالاعتصام
استمساك واستيثاق وسكون وعكوف واستئمان، وعلى قدر الثقة يكون الاعتصام، فعزّز
الثقة يشتدّ الاعتصام، ومن جمال الثقة جمعها بين عالمي الغيب والشهادة، إذ يتنفسها
المؤمن بقلبه قبل صدره، ويراها ببصيرته قبل بصره، ويأنس إليها ومنها وبها، فهي
الركن الشديد، والمأرز الوثيق، ومن وثق بالله انقطع حقيقة عن كل ما سواه، وانخلع
من نظره إليهم وانتظار فرجهم أو عونهم أو حفظهم (ومن
يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم). [آل عمران: 101].
13 ــ اليقين بالله تعالى:
اليقين هو العمود الذي يرفع بنيان
الاعتصام، فإذا هبّت رياح شتاء البلايا ثبت جبل الاعتصام بعمود اليقين، فيرى
ببصيرته اليقينية حِكَمَ ربه في ابتلائه وآلاء معبوده في طي مِحَنه، وقرب فرجه من
كربه، فالناس يتساقطون صرعى في أتون الكربات، ويتلوّون شاكين من ماجَرَيَاتِ
الأقدار، وصاحب اليقين راسخ في اعتصامه بحبل ربه، ثابت الجنان، عظيم العلم
والإيمان.
وتأمل كيف حمل البحر موسى في مهده وهو
وليد وحيد، ثم أغرق فرعون وجنده وهو ملك جبار عنيد، إنه تدبير العزيز الحميد فثق
به وتيقن من صدق موعوده.
14 ــ الاعتصام بمسمّيات الشرع دون
اصطلاحات المُحدثين:
من المهمات في باب الاعتصام: الحرص على
مراعاة الألفاظ السنية الواضحة التي لا تحتمل محامل أهل الفرقة، ومما داخل الناس
من سبل الشر الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، فيقولها الصِّدِّيق
والزنديق، ويوردها صاحب البدعة ليصل لباطله دون الحق الذي تحتمله، فيُغضي عنه صاحب
السنة إحسانًا للظن به أو غفلة عن باطن بدعته، وهذا خطأ فالباطل يردّ على من كان
نصحًا له ولغيره.
وبالجملة؛ فمن وسائل تحصيل الاعتصامِ الاعتصامُ
بألفاظ الشرع وحروفه، توقيرًا وإعظامًا، وحراسة واحترازًا، وكلُّ الخير في
الاتّباع، ونحن وإن قلنا بتقديم المعنى واللب إلّا أن القالب واللفظ والظاهر له
حظه من الأهمية، فشعار المؤمنين ظاهر، واجتماعهم ظاهر، وحزبهم ظاهر، وحروفهم
ظاهرة، وحظهم قائم، وقسمهم غانم، وطائفتهم منصورة بإذن الله تعالى.
اللهم صل على محمد...