ضرورة المؤمن للاعتصام بالله تعالى
الحمد لله حمدا
كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد وكفر، وأشهد
أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، سيد الخلائق والبشر، الشفيع المشفع في المحشر، صلى الله
عليه وعلى أصحابه ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر، أما بعد؛ فاتقوا الله عباد
الله، وحققوا الاعتصام به دون سواه.
قال تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [آل عمران: ١٠١] والاعتصام
بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات، وما سنّه لنا رسول الله ﷺ. إذن فباب
الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله. ولم يقبض الحقُّ رسولَه إلا بعد أن أكمل لنا
الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا. قال الرسول ﷺ: «تركت فيكم
شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي»([1]).([2]).
ومن تدبر حديث ابن عباس المشهور وعمل به حاز الاعتصام، وقطف ثمراته،
ونال على حسَبِ تحقيقه درجاتِه، فهو حديث جامع، وكلام حافل بكل معاني المَنَعة
والحفظ والعِصمة، ووصية مانعة لمن حقّقها، ووعد إلهي لمن الْتَزَمَهُ، فقد أخرج
الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كنت خلف رسول اللَّه ﷺ
يومًا، فقال: «يا غلام؛ احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تُجاهك، إذا سألت
فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف»([3]).
«ومعنى الحديث أن اللَّه سبحانه وتعالى ملك الملوك، ليس شأنه شأن
الملوك، بل هو في منتهى الكرم والرحمة، لا ينسى أحدًا، ولا يغفل عن أحد، شفع شفيع،
أو لم يشفع، وهو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، فمن أقبل عليه بقلبه أقبل عليه
بعطفه، ووجده تجاه نفسه، ليس بينه وبين ربه حجاب إلا الغفلة والجهالة، فمن بَعُدَ
عنه بعد بغفلته، ومن حُرِمَ رحمته حرم بجهالته ومعصيته، وهو أقرب من كل قريب.
ألا يعرف من دعا
شيخًا أو نبيًّا، وناداهما لنصرته ليقرباه إلى اللَّه زلفى؛ أن الشيخ والنبيَّ
بعيدان عنه، واللهُ قريب منه، ومثله مثل رجل جالس وحده عند الملك، وقد أقبل عليه
الملك يسمع طلبه، وما يبديه من حاجة أو رغبة، فانصرف هذا الرجل الجاهل عن الملك،
وبدأ ينادي أميرًا أو وزيرًا، وهما بعيدان، وسألهما أن يُبلغا حاجته إلى هذا الملك
العظيم!
فهو لا يخلو عن
حالين: إما أنه أعمى، وإما أنه مجنون.
وقد أمر النبي ﷺ
في هذا الحديث بأن العبد إذا سنحت له حاجة اضطرته إلى السؤال فليسأل اللَّه، وأنه
إذا كان في حاجة إلى إعانة أو إغاثة فليستعن بالله، وأنه قد رفعت الأقلام، وجفت
الصحف، فلا ماحي لما أثبته اللَّه، ولا مثبت لما محاه اللَّه، وأن القضاء واقع،
والأمر محتوم، وإن اجتمع الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم على أن ينفعوا أحدًا أو يضروه؛
لم يجاوز ذلك قدر اللَّه.
والمؤمن الموحّد رابط الجأش ناعم البال، وضعيف العقيدة مشتت الفكر
موزع النفس، فمن المشاهد أن الإنسان إذا تعلق قلبه بشيء واستحوذ عليه، أو ألمت به
ملمة فلم تنفرج؛ تشتت فكره، وذهب في طلب الغوث كل مذهب، وهام في كل واد، وقد تسول
له نفسه أن يستصرخ النبي الفلاني، وقد تزين له أن ينادي فلانًا من الأئمة، وقد
يجول بخاطره أن ينذر لفلان من المشايخ، وكذا من الشهداء، أو يخضع لجنية فلانية، أو
يرجع إلى المنجم الفلاني، أو الرمّال الفلاني، وقد تحدثه نفسه بأن يراجع سادنًا،
أو إمامًا من أئمة المساجد الذين اتخذوا هذه الأمور حرفة، فيطلب منه أن يبحث عن
الفأل في كتاب!
ومن هام في كل واد، واتبع كل ناعق؛ صرف اللَّه عنه عنايته، وأخرجه من
عباده الصادقين، وأخطأ طريق التربية والهداية الربانية، وظل يهيم في هذه الأودية،
ويتيه في مهامه الأوهام والأحلام إلى أن يتلف ويهلك، فمنهم من تمذهب بمذهب
الدهريين، ومنهم من سلك مسلك الملحدين، ومنهم من دخل في غمار المشركين، ومنهم من
ابتلي بالسفسطة.
وأما من توكل على اللَّه ولم تتشعب به المذاهب وفّقه اللَّه، وفتح
اللَّه عليه طريق الهداية، وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية من
السكينة، ورزق من اجتماع الخاطر، ورباطة الجأش، وبرد اليقين، وهدوء النفس ما لا
سبيل إليه لمن تشتت فكره، وتفرق هواه.
ثم إنه لا يخطئه ما قُدِّرَ
له وقُسم، ولكن ضعيف العقيدة متشتت البال، يعاني الحزن والقلق من غير جدوى،
والمؤمن المتوكل الموحد ينعم بالهدوء والطمأنينة والسكينة.
ومعنى ذلك: أن اللَّه عز وجل وعلا لا يقاس على ملوك الدنيا، فإنهم
يباشرون الأمور الخطيرة ويتولونها بأنفسهم، أما الأمور التافهة فيكلونها إلى الخدم
والموظفين، فيلجأ الناس إليهم في هذه الأمور التي ليست ذات خطر وشأن، وليس الأمر
كذلك فيما يختص بالله تعالى، فإنه هو القادر المطلق الذي يقدر على أن يصلح ما دقّ
وجلّ من الأمور، وإن كانت في عددها وانتشارها كنجوم السماء، ورمال الدهناء، وليس
لأحد تصرف في مملكته، فيحب أن يطلب منه الأمر التافه كما يحب أن يطلب منه الأمر
الجليل والعطاء الجزيل، لأن أحدًا لا يملك شيئًا سواء الصغير منه والكبير، والدقيق
والجليل»([4]).
وقال تعالى: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم
النصير) [الحج:
٧٨] «أي: متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم
وعلى الشيطان، وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد، وعداوتهما أضر من عداوة
العدو الخارج، فالنصر على هذا العدو أهم، والعبد اليه أحوج، وكمال النصرة على
العدو بحسب كمال الاعتصام بالله» ([5]).
والمعتصم بالله الملازم للاعتصام يمدّه الله بقوة الإيمان وإصابة
الحق، فيريد الحق ويحرص عليه، وهذا من أعظم أسباب معرفة الحق واتضاحه، قال شيخ الإسلام ؒ: «وفي الحديث الصحيح: «إن
الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»([6]) فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛
ولا سيما في الفتن.. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف
حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج
الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله تعالى: : (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: ٣٥] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق،
وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نور»([7]).
بارك الله لي ولكم....
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالاعتصام بحبله
تفلحوا.
واعلموا
أن من فضائل تحقيق الاعتصام بالله تعالى:
1 ــ اختصار
الطريق على نفسك، فلا تتشعب بك السبل ومردك إلى الله بكل أحوالك، قال سبحانه: { وَلَئِنْ
مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } [آل عمران: 158] «فالخلق إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله،
ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا
الاعتصام بحبل الله؟»([8]).
2 ــ تكفير
الخطايا مهما بلغت. فحتى المنافق إذا تاب واعتصم بالله حُطت عنه ذنوبه برحمة الله
قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ
وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ
شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء:
145- 147] «يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم
في أسفل الدركات من العذاب، وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار؛ لأنهم
شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير
من أنواع العداوة للمؤمنين على وجه لا يُشعر به ولا يُحسّ. ورتبوا على ذلك جريان
أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق ما لا يستحقونه؛ فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب،
وليس لهم منقذ من عذابه، ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا
مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات. { وَأَصْلَحُوا
} له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } والتجأوا إليه في جلب منافعهم
ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ } الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان
{ لِلَّهِ }.
فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة
وسلِمُوا من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ
الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا
أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع
دخولهما في قوله: { وَأَصْلَحُوا } لأن
الاعتصام والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما، خصوصًا في هذا المقام
الحرج الذي يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ
والافتقار إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيًا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما
لفضلهما وتوقفِ الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام
إليهما.
وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع
المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: { وَسَوْفَ
يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه القاعدة الشريفة لم يزل
الله يبدئ فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا
أو عقابا وكان ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة
الحكم العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر
الجزئي، فهذا من أسرار القرآن البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله
ثوابهم.
ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته
وإحسانه فقال: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال الدائبين في
الأعمال جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه.
ومع هذا يعلم
ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو يريد منكم
التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا
يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع
لنفسه.
والشكر هو خضوع
القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وألا
يستعين بنعمه على معاصيه»([9]). فأكْرِمْ بالاعتصام ملجأً وملاذًا، وأمَنَةً وسلامًا، ونعمةً
ونَوَالًا. والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق