إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 17 مارس 2024

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (2)

وسائل تحصيل الاعتصام بالله تعالى (2)

 

الحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا، أحمده الحمد كله، وأشكره الشكر كله، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت، أشهد أن لا إله إلا الله شهادة أدخرها ليوم العرض على الله، شهادة مبرأة من الشكوك والشرك، شهادة من أنار بالتوحيد قلبه، وأرضى بالشهادة ربه، وشرح بها لبه. وأصلي وأسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله وسلم على كاشف الغمة، وهادي الأمة، ما تألقت عين لنظرٍ، وما اتصلت أذن بخبر، وما هتف حمام على شجر، وعلى آله بدور الدجى، وليوث الردى، وغيوث الندى، وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا به عز وجل، واحرصوا للغاية على تحصيل وسائل الاعتصام به تبارك وتعالى، واعلموا أن من أعظمها:

4 ــ الصدق مع الله تعالى:

فالصدق مع الله تعالى هو آخيّة التوفيق والفلاح، ودليل صحة التوجّه والإخلاص، وبرهان التوقير للعليّ الأعلى تبارك وتعالى، ومن رام جزيل العطايا فليصدق مع العظيم بقلبه وقوله وعمله. وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله ¶ قال: «بينا فتى من الأنصار عَلَفَ ناضحه، وأقام معاذ بن جبل صلاة العشاء، فنزَّلَ الفتى عَلَفَه، فقام فتوضأ، وحضر الصلاة، وافتتح معاذ بسورة البقرة، فصلّى الفتى وترك معاذًا، وانصرف إلى ناضحه فعلَفَه أو فعلفها، فلما انصرف معاذ جاء الفتى فسبّه ونَقَصَه، ثم قال: لآتين نبي الله ﷺ فأخبره خبرك، فأصبحنا فاجتمعا عند النبي ﷺ، فذكر له معاذ شأنه، فقال الفتى: إنا أهل عمل وشُغْلٍ، فطوّل علينا، استفتح بسورة البقرة، فقال النبي ﷺ: «يا معاذ أتريد أن تكون فتّانًا، إذا أممت الناس فاقرأ بـ(سبح اسم ربك الأعلى) (والليل إذا يغشى) و (إقرأ باسم ربك) (والضحى) وبهذا النحو».

فقال عبد الله بن عبيد بن عمير: فدعا النبي ﷺ الفتى فقال: «يا معاذ، ادع» فدعا، فقال للفتى: «ادع» فقال: والله لا أدري ما دندنتكما هذه، غير أني والله لئن لقيت العدو لأصدقنّ الله، فلقي العدو فاستشهد، فقال النبي ﷺ: «صَدَقَ الله فصَدَقَهُ الله»([1]).

5 ــ الدعاء:

الدعاء حبل المعتصمين بربهم، وباب الداخلين إلى سيدهم، ووسيلة الطالبين كريمَهُم، فبه يرفعون شكاياتهم من غوائل الدنيا وحبائل الشيطان، وبه يطلبون رغائبهم من الكريم الوهاب المنان، قال بكر بن عبد الله المزني: «من مثلك يا ابن آدم! خُلِّيَ بينك وبين الماء والمحراب، متى شئت دخلت على ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان»([2]).

6 ــ المحاسبة:

قال الحسيب سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) [الحشر: 18] وهذا أصل في محاسبة المؤمن نفسه، ومِن أولى ما يحاسب المؤمن نفسه فيه قوة اعتصامه بربه تعالى واستمساكه بحبله، فالدنيا تذهب بلبّه أحيانًا فيطيش وَهَلُهُ عن سعادته باعتصامه بحبل مولاه، فإن أسعفه ربه بمحاسبة صادقة لنفسه عاد لكنف ربه ورحمته وكرامته.

وبالجملة؛ فالمحاسبة أخذٌ بالحزم في تحصيل المراد، واحترازٌ من مؤاخذة الحساب، ومن اعتصم بربه فاز.

7 ــ لزوم العلماء:

فالمعتصم بالله تعالى مفتقر لبصيرة تهديه، ومعدنها العلم بالله وبدينه، ومعينها صدور العلماء الأتقياء العاملين الربانيين، فمن لزم غرْزَهم أوشك أن يصل بإذن الله، ذلك أن للشيطان حظوظ من فريسته الآدمية، وللنفس رغائب تعميها، وشهوات تُعشيها، فإن استفرد به الشيطان أتلفه، فإن وفّقه الله لبصير يرشده ويأخذ بيده أوشك السعيد لفلاحه أن يصل.

أيضًا فلزوم أهل العلم ومصاحبتهم في اختلاف أحوالهم وتقلّبهم مع الشدة والرخاء، والخوف والأمن، والضيق والسعة يحقن في قلب المؤمن جرعات النفع وعقار التحصين وغذاء المسير بإذن الله تعالى.

8 ــ الفرح بالله تعالى:

الفرح بالله له لذة تقصر عن وصفها الحروف، فهي الجنة قبل الجنة، والنعيم السابق للنعيم، وهي حقًّا قطعة من نعيم الجنة، وفي الجرعة اليسيرة منها ما يشبع الروح في مسيرها للآخرة، فكيف بالكثير؟!

فافرح بربك وبرحمته وفضله كلَّ الفرح، واجرع بقلبك وروحك ونفسك موارد الفرح ومصادر السرور وألوان الحبور، فلا أَفَرَحَ على الإطلاق مِنْ فَرَحِ العبد بربه تعالى، وهذا من الأمور المعلومة بالفطرة والعقل والشرع والحال والتجربة، فالحمد لله كثيرًا كثيرًا على ما يعجز عنه البيان، وتقصر عنه الحروف، ويقف دونه التوضيح (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) [يونس: 58].

قال ابن تيمية حين كان سجينًا في قلعة دمشق قبل وفاته ؒ: «ما يُبِيّن نعم الله التي أنعم بها عليّ وأنا في هذا المكان أعظم قدرًا وأكثر عددًا ما لا يمكن حصره، وأكثر ما ينقص علي الجماعة، فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يُفتح لهم من معرفة الله وطاعته والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات، وأُعَرِّفُ أكثرَ الناس قدر ذلك، فإنه لا يُعرف إلا بالذوق والوجد، لكن ما من مؤمن إلا له نصيب من ذلك ويستدل منه بالقليل على الكثير، وإن كان لا يُقَدِّرُ قدرَهُ الكبير، وأنا أَعْرِفُ أحوال الناس والأجناس واللذات. وأين الدر من البعر؟ وأين الفالوذج من الدبس؟ وأين الملائكة من البهائم؟»([3])

9 ــ تجديد التوبة:

فلما كانت التوبة هي أولى المنازل وأوسطها وآخرها ــ بحسب ابن القيم ــ فعلى المؤمن أن يعتصم بها، وهي ــ بحمد الله ــ موصلة للاعتصام بحبل ربه، لأن دائمَ التوبة لله دائمُ الاعتصام به، فهو يتوب إلى الله تعالى من قصور وتقصير، من قصور في ذات الاعتصام، وتقصير في تحصيل وإعمالِ أدوات الاعتصام، فيتوب على التكرار والدوام تطهيرًا وإنقاءً من دخيلةٍ في نفسه، ودخَنٍ في قلبه، وضعفٍ في فؤاده، ونَكْتٍ وقَتَرٍ وثَقْلَةٍ وغفلةٍ يعترينه أحيانًا على مرِّ الزمان وتتابع الأيام، لأنّ الإنسان ضعيف عاجز، جهول فاتر، ملول عجول، مفتّنٌ توّاب، ومن هنا كانت ضرورته لتجديد التوبة للتواب تبارك وتعالى، وتجديد التوبة فرع عن المحاسبة الصادقة وثمرة نافعة لها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.

...................

الخطبة الثانية

 الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله. واعلموا أن من أعظم وسائل تحقيق الاعتصام بالله تعالى ذكره جل وعلا.

10 ــ الذكر:

فهو زاد المعتصمين، ووقود المقرورين بين جليد الدنيا وبأسائها، ذلك أن الاعتصام بحد ذاته ذكر خالص بالقلب، فأعظِمْ بالذكر منهلًا وزادًا وسلاحًا.

قال الطبري رحمه الله تعالى: «ومن جسيم ما يُرجى به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛ لحديث أبى هريرة عن النبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم»([4]).

والذكر سبب للعصمة من لأواء الأرواح ــ أي أذاها بالذنوب ــ فالذكر سربال حافظ بإذن الله من غوائل الخطايا، ونوازل الرزايا، وحَرَابَاتِ طوارق الليل والنهار، كما أن بعض الأذكار عاصمة بإذن الله من أخطار مخصوصة، كتعويذات طرفي النهار والمنزل والنوم وغيرها، وكعشر سورة الكهف، فعن أبي الدرداء ؓ أن النبي ﷺ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» وفي رواية: «من آخر سورة الكهف» رواهما مسلم([5]).

قال الطبري: «إن قال قائل: أي أنواع الذكر أفضل؛ فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟

قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التي لا يصح لأحدٍ عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله([6]).

روى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع وسبعون ــ أو بضع وستون ــ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه([7]). وقال ﷺ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله»([8])([9]).

اللهم صل على محمد..



([1])  مصنف عبد الرزاق (2/ 365) (3725).

([2])  شعب الإيمان (4/ 537).

([3])  مجموع الفتاوى (28 / 45) وللفرح بالله تعالى كتاب مستقل في هذه السلسلة بإذن الله تعالى.

([4])  شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 138).

([5])  مسلم 2/199 (809) (257) وفي صحيح ابن حبان (3/ 65) (785): «من قرأ..» بدلاً من: «من حفظ» قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

([6])  قلت: وهو كما قال، فهي خير الكلام، وهي مفتاح الجنة، وهي حبل الوصول إلى الله تعالى، وهي أحب الكلام إلى الله تعالى، ومن أجل تحقيقها خلق الله الخليقة، وكل الأذكار مردّها إليها، وهي قطعة من القرآن قال سبحانه: ﴿فاعلم أنه لا إله الله إلا الله﴾. فلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

([7])  البخاري 1/9 (9) ومسلم 1/46 (35) (58).

([8])  أخرجه أحمد (2/210) (6961).

([9])  شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 139) بتصرف يسير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق