وسائل
تحصيل الاعتصام بالله تعالى (1)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً
وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن
يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً.
أما بعد؛
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا إنّ من رحمة الله تعالى بعباده أن بين لهم جادة
النجاة، وطريقة الفلاح، وسبيل السعادة، وجعلها مَهْيَعًا سالكًا، واضحًا بيّنًا،
سهلًا ميسورًا على من رام الوصول لمرضاته وجنته، كما قد جعل أسباب الضلال واضحة
بيّنة لكل ذي لبّ وإرادة، وجعل فيها من أسباب الضيق والضنك والعَنَتِ والوحشة ما
تَشِيمُ عنه نفوس الطيبين الأحرار، وكلٌّ مسؤول عما جنته يده، فنحن على البيضاء
حقًّا لا يزيغ عنها إلا هالك، قال سبحانه: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) وقال سبحانه وبحمده: (وما كان
الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون). [التوبة: 115].
فالمؤمن الحريص على إدراك خلاصه وفلاحه لا تراه
إلا ساعيًا في فكاك نفسه وتنقيتها وتحصيل أسباب طهاراتها وطِيبِها، ثم رفعتها عند
ربها وقربها منه تبارك وتعالى. وباب فلاحها وفكاكها هو الاعتصام بالله وحده على
التمام، ولتحصيله أسباب منها:
1 ــ الإخلاص:
فهو باب الدخول، وعمود القبول، ومعراج التوفيق،
ومستدرّ العون الإلهي، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام متين: «إن المخلوقين
إذا اشتكى إليهم الإنسان فضررُهم أقرب من نفعهم، والخالق ــ جل جلاله وتقدست
أسماؤه ولا إله غيره ــ إذا اشتكى إليه المخلوق وأنزل حاجته به واستغفره من ذنوبه:
أيده وقوّاه وهداه، وسد فاقته وأغناه، وقربه وأقناه، وأحبه واصطفاه.
والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله
وازدراه، ثم أعرض عنه، فخسر الدنيا والآخرة حتى وإن قضى له بعض مطلبه؛ لأنه عنده
من بعض رعاياه يستعبده بما يهواه، قال الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه
ترجعون } وقال تعالى: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال تعالى: { ولا تهنوا ولا تحزنوا
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139] وهذا باب واسع قد كتبت فيه شيئًا كثيرًا وعرفته
علما وذوقا وتجربة»([1]).
ومن الإخلاص يكون تحقيق التوحيد الذي وعد الله
أهله بالجنة والمزيد. قال شيخ الإسلام ؒ: «وأما قول السائل: ما السبب في أن الفرج
يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه
بالله؟
فيقال: سبب هذا تحقيق التوحيد؛ توحيد الربوبية
وتوحيد الإلهية. فتوحيد الربوبية: أنه لا خالق إلا الله، فلا يستقل شيء سواه
بإحداث أمر من الأمور؛ بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فكل ما سواه إذا قُدّر
سببًا فلا بد له من شريك معاون، وضِدِّ معوّق، فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من
الأمور طلب منه ما لا يستقلّ به، ولا يقدر وحده عليه، حتى ما يطلب من العبد من
الأفعال الاختيارية لا يفعلها إلا بإعانة الله له، كأن يجعله فاعلًا لها بما يخلقه
فيه من الإرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة، وعند وجود القدرة التامة
والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور.
فمشيئة الله وحده مستلزمة لكل ما يريده، فما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما سواه لا تستلزم إرادته شيئًا؛ بل ما أراده لا
يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يُعِنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته
لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }
وقال تعالى: { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله
كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } وقال: {
فمن شاء ذكره . وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة }. [المدثر: 55- 56].
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك
المخلوق، وذلك المخلوق عاجز عنه، ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله.
فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم
بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد، ثم إن وحّده العبد توحيد الإلهية حصلت له
سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قيل فيه: { وإذا مس
الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا
إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } وفي قوله: { وإذا مسكم الضر في
البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } كان
ما حصل له من وحدانيته حجة عليه، كما احتج سبحانه على المشركين الذين يقرون بأنه
خالق كل شيء ثم يشركون ولا يعبدونه وحده لا شريك له قال تعالى: { قل لمن الأرض ومن
فيها إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل أفلا تذكرون . قل من رب السماوات السبع ورب
العرش العظيم . سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا
يجار عليه إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل فأنى تسحرون } وقال تعالى: { ولئن
سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع.
فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن يُنزِل
بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون
أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه،
وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمةً عليهم من زوال
المرض، أو الخوف، أو الجدب، أو حصولِ اليسر، وزوالِ العسر في المعيشة، فإن ذلك
لذّاتٌ بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظمُ مما يحصل للمؤمن.
وأما ما
يحصلُ لأهل التوحيد المخلصين لله الدينَ فأعظم من أن يُعبِّرَ عن كُنهه مقال، أو
يَستحضرَ تفصيله بال، ولكلِّ مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف:
«يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجةٍ أكثرت فيها من قرع باب سيدك». وقال بعض الشيوخ:
«إنه ليكون لي إلى الله حاجةٌ فأدعوه فيَفتحُ لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما
لا أحبُّ معه أن يُعجّلَ قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد
إلا حظّها فإذا قُضي انصرفت». وفي بعض الإسرائيليات: «يا ابن آدم البلاء يجمع بيني
وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك».
وهذا المعنى كثير، وهو موجود مذوق محسوس بالحس
الباطن للمؤمن، وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه، فإن ذلك من
باب الذوق والحس، لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس بذلك.
ولفظ «الذوق» وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص
بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك، فهو مستعمل في
الإحساس بالملائم والمنافر، قال تعالى: { فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف } [النحل: 112] فجعل الخوف والجوع مذوقًا؛ وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع
والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس»([2]).
هذا ومع زيادة الإيمان يكون الفرقان في قلبك
وبصيرتك بإذن الله تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم
فرقانا) [الأنفال: 29] «وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن
قارئ وغير قارئ»([3]). «فدل على أن
المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن.. وكلما قوي الإيمان في
القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف
الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم.
ولهذا قال بعض السلف في قوله تعالى: ﴿ (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: 35] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن
لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نور»([4]).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما
فيه من الذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين من كل ذنب،
فاستغفروه واسترحموه وارجوه إنه هو الغفور التواب الرحيم.
...................
الخطبة الثانية
الحمد لله
على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك
له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه
وسلم وبارك وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛ فاتقوا
الله عباد الله، وخذوا بوسائل تحقيق الاعتصام به سبحانه. ومنها:
2 ــ طلب العلم:
فلا اعتصام إلا بعد العلم، وبخاصة العلم بالله وبأسمائه
وصفاته وأفعاله وحقه، وعلى قدر العلم يكون إحسان الظن وثبات اليقين وعظيم الرغيبة،
فإن ساعد العملُ فثمّ نيل المراد بإذن الله تعالى.
ومن تأمل اعتصام العلماء بالله عند النعم والمحن
عرف قدر العلم في هذا الباب وجلاله وعظمته وعظيم نفعه، فمادَّتُه هي العلم النافع
والله المستعان. وأعظم العلم هو العلم بالله تعالى، «ففي القلب شعث لا يلمه إلا
الإقبالُ على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه
إلا السرور بمعرفته وصدقُ معاملته، وفيه قلق لا يسكّنه إلا الاجتماع عليه والفرارُ
منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقةُ
الصبر على ذلك إلى وقتِ لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبُه،
وفيه فاقة لا يسدها إلا محبتُه والإنابة إليه ودوامُ ذكره وصدقُ الإخلاص له، ولو
أعطي الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبدًا»([5]).
3 ــ إحسان الاتباع:
لا بد لكل معتصم بسنةٍ سابقة يعتصم بها، وصراطٍ
بيّنٍ يهتدي خلاله، وطريقٍ واصلٍ لمراده، وما ثمّ إلا سنة سيد الأولين والآخرين ﷺ،
فمن رغب عنها هلك.
وتركُ السنة مفضٍ للوقوع بين براثن البدعة، وعلى
قدر بُعده عن السنة يكون دخوله في ضدها وهي المخالفة، إما بالترك أو الابتداع
والاختراع، وبحسَب قربه منها يكون انفكاكه مما سواها من المحدثات، كُلًّا بكُلٍّ،
وجُزءًا بجزءٍ، وشيئًا بشيءٍ، فالمكان الممكن لا يحتمل الضدين، فعلى قدر تحصيل
أحدهما يكون فراغه من الآخر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «لا تجد أحدًا ترك
بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا
ترك شيئًا من السنة، قال تعالى: {فنسوا حظا مما ذكروا به
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت
بينهم العداوة والبغضاء، وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو
له قرين} أي: عن الذكر الذي أنزله الرحمن، وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} وقال: {اتبعوا
ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} فأمر باتباع ما
أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر،
ولهذا قال: {ويتبع غير سبيل المؤمنين}. [النساء: 115]. قال العلماء: «من لم يكن متبعًا سبيلهم كان
متبعا غير سبيلهم» فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب؛ فليس لأحد أن يخرج عما
أجمعوا عليه»([6]).
اللهم صل على محمد...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق