فضل الاعتصام بالله تعالى
الحمد لله
العليم الحكيم الرحمن الرحيم، أمر بالاعتصام بحبله المتين والاجتماع، ونهى عن
الفُرقة والتنازع والضياع، جَعَلَ أُخوّة الدِّين من الدِّين، وأمر بالموالاة فيه
كلَّ حين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقَ وقدّر، وملك ودبّر، وشرع
ويسّر، فله جميلُ الحمدِ مقدّمهُ والمؤخّر، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله
النبيّ الخاتم والناصح المشفق والمصطفى الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
أما بعد؛ فاتقوا
الله عباد الله، واعلموا أنّ الاعتصام بالله تعالى هو من أعمال القلوب الشريفة
الفاضلة جدًّا، ولا غنى للمؤمن عنه طرفة عين، وعلى قدر اعتصام المؤمن بمولاه يكون
تسديده وتوفيقه وهداه، وهو حبل الدين المتين، ﴿ﱡ واعتصموا بحبل الله جميعا ﴾ [آل عمران: 103] ويكفيه فضلًا أن كفاية الرب تعالى على قدر الاعتصام به، فمن حقّق
اعتصامه بالله فلا تخشَ عليه الضيعة، ولا تَخَفْ عليه الخيبة، فربّنا لا يخلف
الميعاد.
فاشدُد يديك بحبل الله معتصمًا
فإنّه الركنُ إن خانتك أركــــــــــــــــانُ
والاعتصام: هو
ملازمةُ سببِ النجاةِ من الهلكة ونوالِ الرّغيبة. ففيه لِياذٌ واستجارة واستعاذة
واستعانة وتوكّل وتعلّق. وكمالُه تحقيقُ التوحيد، والعاصمُ هو المانع، وفي
التنزيل: ﴿ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ﴾ [هود: 43] أي: لا مانع لأحد من الغرق إلا من ؒ
تعالى.
الاعتصام بالله تعالى عصمة من الهلكة، ووقاية من الخلل، وأمان من
الخذلان، وسلامة من عثرات الطريق، ووسيلة مفضية لكمال الرضا والفلاح بإذن الله
تعالى.
وجوهر الاعتصام: صدق الاعتماد، وتحقيق التوحيد، وتجريد التعلق، وتمام الثقة،
وكمال التوكّل، ورسوخ اليقين. فمن اعتصم بماله قلّ، ومن اعتصم بعقله ضلّ، ومن
اعتصم بجاهه ذلّ، ومن اعتصم بغير الله زل، ومن اعتصم بالله عزّ وجل لا قلّ ولا ضل
ولا ذل ولا زلّ، بل إلى ذُرَى المُنى يقينًا قد وصل.
ذلك أن الاعتصام بالله تعالى هو ركن التوفيق، فالمرء في كل أطواره
وأزمانه متردد بين جلب الخير وثباته ونمائه، أو دفع الضر أو رفعه، ليس له حول
وطَوْلٌ على الحقيقة البتة، إنما غاية جهده اتخاذ الأسباب المأمور بها من لدن
المسبِّب الخالق البارئ، فهو لا شيء إلا بمعونة إلهه وسيده ومولاه.
وهذه الأسباب لا تستقل بحدوث تأثيراتها، بل لا بد من صرف الموانع، ولا
يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة رب العالمين، فعاد الأمر طُرًّا لمن بيده مقاليد
الأمور وتصاريف الأشياء وصيرورات الأقدار، فمن رام التوفيق فليلذ بذلك الركن،
وليعتصم بمن لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر سواه.
والمعتصم بالله حقًّا في تحصيل إيمانه فغايته الجليلة ليس وراءها
مرمى، كيف لا، وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فعلمه وإرادته وقدرته
بربه الأعلى، فلا يقوم لقوته قوة، ولا يتخلف عن معيّته توفيق.
ومتى أحسن العبد الاعتصام بربه انتظمت له سائر أعماله، وتيسرت
له، وانشرح صدره بها؛ ذلك أنّ الله شكور حميد. «فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء
سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير
الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه
ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة
الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار،
وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى
بفوته حسرة وعقوبة»([1]).
قال الله جل ذكره موصيًا عباده بالاعتصام بحبله المتين الواصل إليه : (يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل
الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم
فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله
لكم آياته لعلكم تهتدون) [آل عمران: ١٠٢، ١٠٣] فالاعتصام
وصيته سبحانه للمؤمنين به.
وقال مشترطًا الاعتصام به للتائب من أعظم جرم: (إن المنافقين
في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا
واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا
عظيما (146) [النساء: ١٤٥ - ١٤٦].
وقال تبارك وتعالى في وصف أوليائه الموعودين برحمته (يا أيها الناس
قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله
واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175) ثم أردف
أمره بالصلاة والزكاة بالاعتصام وختم ذلك بالإغراء بتحصيل ولايته فقال: (فأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78) [الحج: ٧٨].
وقال جل وعلا في بيان ألا معصوم من كل كريهةٍ إلا من عصمه برحمته: (قال لا عاصم
اليوم من أمر الله إلا من رحم). [هود:
٤٣].
وأوصى الحريصُ الشفيق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بتحقيق الاعتصام
بالله، وبيّن طرق تحصيله؛ فعن سفيان بن عبد الله الثقفي ؓ قال: قلت: يا
رسول الله: حدثني بأمر أعتصم به، قال: «قل: ربي الله ثم استقم». قلت: يا
رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا»([2]).
وقال للحارث بن هشام ؓ لما سأله: أخبرني بأمر أعتصم به؟ فقال ﷺ: «املك
هذا» وأشار إلى لسانه([3])، فبيّن أن ملاك التقوى الاعتصام بالله تعالى في لزوم الاستقامة، ومن
ذلك حفظ اللسان.
وأخبر ﷺ أن صِمَامَ أمانِ المؤمن اعتصامه بكتاب ربه الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فعن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه قال ــ في حديث الحج الطويل ــ: «وقد تركت فيكم ما
لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله»([4]).
قال ابن القيم ؒ: «ثم ينزل القلبُ منزل الاعتصام، وهو نوعان: (واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران : 103 وقال: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم
المولى ونعم النصير) [الحج:
٧٨].
والاعتصام: افتعالٌ من العِصمة، وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من
المحذور والمخوف. فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سُمّيت القلاع:
العواصم لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله
والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به: يعصم من
الهلكة، فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية
الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل
كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التي بها
تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
والاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله
يوجب له القوة والعدة والسلاح، والمادة التي يستلئم بها في طريقه. ولهذا اختلفت
عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن
عباس: تمسكوا بدين الله، وقال ابن مسعود: هو الجماعة، وقال: عليكم بالجماعة فإنها
حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة.
وقال مجاهد وعطاء: بعهد الله، وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن،
وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى. وفي الموطأ([5]) عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط
لكم ثلاثًا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله
جميعًا، وأن تناصحوا من ولّاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال،
وكثرة السؤال».
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل. وأما الاعتصام به:
فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه
ويدفع عنه.
فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين
آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه،
فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه، ويدفع عنه موجب
أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب
فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قَدَرَهُ بقَدَرِهِ، وإرادتَهُ
بإرادَتِهِ، ويعيذه به منه»([6]).
بارك الله لي ولكم....
...................
الخطبة الثانية
الحمد لله... أما بعد، فالتقوا الله عباد الله، وحققوا الاعتصام التام
به سبحانه.
قال السعدي ؒ في آية الأمر بالإيمان: «قوله تعالى: : { قُولُوا } أي: بألسنتكم، متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام، المترتب
عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر، فالقول
الخالي من العمل عمل القلب عديم التأثير، قليل الفائدة، وإن كان العبد يؤجر عليه
إذا كان خيرًا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد، والمقترن به عمل
القلب.
وفي قوله: : { قُولُوا } إشارة إلى الإعلان بالعقيدة، والصدع بها، والدعوة لها، إذ هي أصل
الدين وأساسه.
وفي قوله: { آمَنَّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل، منسوبًا إلى جميع الأمة، إشارة إلى أنه يجب
على الأمة، الاعتصام بحبل الله جميعًا، والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم
واحدًا، وعملهم متحدًا، وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد
الواحد»([7]). وقال: «{ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ } أي: يتوكل
عليه، ويحتمي بحماه، { فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [آل عمران: 101] وهذا فيه الحث على الاعتصام به، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية»([8]).
«ولما توعد فرعون موسى عليه السلام بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن
استعان بالله واعتمد على فضله كما قال تعالى: {وقال موسى إني
عذت} أي: اعتصمت عند ابتداء الرسالة {بربي} ورغّبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله:
{وربكم} أي: المحسن إلينا أجمعين، وأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا {من
كل متكبر} أي: عات طاغ متعظم على الحق هذا وغيره {لا يؤمن بيوم الحساب} من ربه له
وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما
لا يحكم به على نفسه.
وبالأمرين يقدم الإنسان على اتقاء الناس، لأن المتكبر القاسي القلب قد
يحمله طبعه عن إيذاء الناس، إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من
الحساب مانعاً له عن الجري على موجب تكبره، فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث
والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء»([9]).
وقال أبو بكر الوراق: «علامات الاعتصام ثلاثة: قطع القلب عن معونة
المخلوقين، وصرفه بالكلية إلى رب العالمين، وانتظار الفرج من الله» ([10]).
وعن الإمام الزهري أنه قال: «الاعتصام بالسنة نجاة» ([11]).
وصلوا وسلموا على رسول الله...
([2]) الترمذي (2522) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه
(3972)، وصححه الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (3208).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق